إهداء: إلى الأخوين سليمان ونعيم يوسف والرَّاعي

قصّة قصيرة
كانت شمس حزيران تحرق جلودنا ونحن نحصد باقات العدس، لا نستطيع أن نحصده لشدّة تشابكه مع الخرنوب والسيِّل والكاروش والقُنْجرّة والزِّيؤان والبَرْبُور والشوقلّة والشَّوك والبلّق العين والعُقَّيدة والختمية والقَلْق والحِمْحِم*، بصعوبة كنّا نميّز شيقان العدس من تلافيف الأشواك والأعشاب البرّية التي كانت تخنق العدس، فما كنّا نستطيع أن نحصده بلا هذه الأشواك والأعشاب!
ظللتُ أفكِّر بطريقةِ ناجحة للتخلّصِ من حصادِ العدس تحت شمس حزيران القائظة، بعد أن قضيتُ شهوراً في تدريس مادة اللغة الانكليزية، ما كان جسدي النَّحيل يساعدني على تحمُّلِ الحصاد مثل أخويَّ، أحياناً كانا يستعملان القيناغات** في أصابعهما تفادياً من دخول الأشواك إلى أصابعهما، جرّبت أكثر من مرَّة استعمال القيناغات، لكنها كانت تسقط من أصابعي الرفيعة، فكانت الأشواك تأخذ طريقها إلى أصابعي، حصاد العدس بعد فصلين من التدريس، أشغالٌ شاقَّة، لم يبرح من ذاكرتي موضوع التورُّط في الحصاد لأسابيع في مشروعٍ بإلكاد يغطِّي انتاجه سهرة عامرة، ورحتُ أفكرّ بطريقة سريعة لوضع حدٍّ للتخلص من حصاد العدس والأشواك حتّى لو ضحَّيتُ بحصتي من الانتاج!
فجأةً وجدتُ على تخوم أشواكنا وعدسنا راعياً يسرح مع أغنامه، حوله قطيع كبير من الأغنام، فهتف قلبي لمشاهدته، فخطر على بالي مباشرة اقناعه بشراء العدس بدلاً من أن نتعذَّبَ في حصاده أياماً من دون فائدة مُحرزة!
تقدَّمتُ نحوه وسلّمت عليه، كانت لغتي الكردية تسعفني لخوض هكذا حوارات، وعندما ادخلته في معمعانات مخطَّطي بدأت أشرح له فوائد عدسنا وفوائد الأعشاب الكثيفة المتداخلة بين العدس، فوائد كبيرة تساعد على زيادةِ درِّ حليب أغنامه، وبدأت أعرض عليه بيع العدس جملة وتفصيلاً بما فيه العدس الذي كنا قد حصدناه منذ يومين.
غمغم حديثه في البداية لكنِّي أدخلته في لبِّ الحوار فابتعد عن الغمغمة وبدأ يدخلُ في حيثيات الحوار، فقدَّمت له عرضاً بحيث لو تراجعت إلى أقل من النصف بكثير يتحمَّس للاقدام على شرائه، كان أخويَّ أثناء محاورتي مع الراعي غائصَين في حصاد العدس بهمَّةٍ لا تلين، وما كانا يعرفان أنني على وشك أن أبيع العدس، كان الرَّاعي يرتدي شروالاً وقميصاً خاكيَّاً وعلى كتفه جمداني مخطَّط بالأحمر والأبيض تتدلَّى نهاياته على صدره، وعندما أصبحنا متقاربين نحو السعر، سألني هل أهلك سيوافقون على بيع العدس؟ فقلت له ولو! أنا مخوَّل ببيعه، ولنا حقل آخر من الشّعير أستطيع أن أقنعهم ببيع الشّعير أيضاً، فقال، دعنا الآن من الشعير وخلّينا بالعدس!
لفتَ تأخُّري انتباه أخي الكبير، فسأل أخي الآخر، لماذا تأخَّر صبري يا ترى، ما هذا الموضوع الهامّ الذي يحاور فيه هذا الرَّاعي، ولماذا لا يأتي ويحصد معنا، أليس شريكاً معنا في الحصاد والانتاج؟!
اسأله ماذا يفعل مع الرَّاعي.
ناداني أخي، متسائلاً فيما إذا لديّ حديثاً ما هاماً مع الرَّاعي؟
لحظة لو سمحت، استأذنت من الرَّاعي، وتوجَّهتُ نحو أخويَّ وأخذتهما جانباً، أشرح لهما مخطَّطي في مسألة بيع العدس قائماً بما فيه المحصود، فسألت أخي، ما هو السعر الذي يناسبك لو استطعت أن أقنع الرّاعي بشرائه؟
فقال لي وأنتَ بكم ممكن أن تبيع العدس وكم ستكون حصتي؟
بحدود ألفين ليرة سورية أو أكثر بقليل، ستكون حصتك أكثر من ألف ليرة.
لكننا ثلاثة، لو بعت العدس بألفين لم يحصل كل واحد منا على ألف ليرة.
لا تقلق، ستحصل، لأنني لا أريد حصتي من البيع، أريد أن أقدِّم حصتي لكما هدية، فقال لي لو تستطيع أن تقنعه بشراء العدس بأكثر من ألفين ليرة سنبيعه في الحال.
لحظات وسأعود إليكما، عدْتُ إلى الرَّاعي باسماً، فابستم هو الآخر، قائلاً، أراك مبتسماً!
لأنَّ حظَّكَ رائع.
لماذا؟
لأنني استطعت أن أقنع اخوتي ببيع العدس بثمن رخيص جدّاً، فقد قلت لهما أنَّ أوضاعكَ الاقتصادية ليست على ما يرام، مشيراً إلى أن العدس لا يساوي قيمة حصاده، فلِمَ لا نبيعه لهذا الرَّاعي المسكين بثمن رخيص كعلفٍ لأغنامه؟
وهل استطعت أن تخفِّض السِّعر كثيراً؟
طبعاً.
وبكم اتفقتم.
بحدود أربعة آلاف ليرة.
تمتم، لكن ألا ترى أن العدس لا يساوي أربعة آلاف ليرة؟
لا تقلق، لأنني أستطيع أن أضغط عليهم أكثر، وأخفِّض السعر إلى ثلاثة آلاف ليرة.
أوافق على شرائه بثلاثة آلاف.
حالما، قدَّم موافقته، صافحته وهزَزْتُ يده كموافقة نهائية، ثم طلبتُ من أخي أن يلتقطَ صورةً وأنا أصافحه وأهزُّ يده، اندهش الرَّاعي لقدوم أخي وتوجيه عدسة الكاميرة نحوه، قائلاً للراعي أنظر إلى الكاميرة، فقال ماذا حصل، قلت له لاتقلق، أخي يريد أن يلتقط لنا صورة تذكارية على البيع، أخرج الراعي محفظته، وأعطاني المبلغ عداً ونقداً، أعدت إليه مائة ليرة سوري (خير دين)، كمكافأة على اتفاقنا، فَرَحَ لموقفي، ثم وزّعتُ المبلغ على أخويّ بالتساوي.
فيما كان أخي الكبير يقبض حصَّته ويضعها في جيبه، تساءلَ ضاحكاً:
انّي أندهش على أفكارِكَ وحلولِكَ السَّريعة، بأية طريقة استطعت أن تقنعَ الرَّاعي ببيع العدس بهذه السرعة وبهذا السعر الغالي، وأريد أن أفهم، ماذا استفدت أنتَ من كل هذه العملية؟!
ضحكتُ من أعماقي، وفيما كنتُ أبيِّن له أنني الرَّابح الأكبر، دخلَتْ أغنام الرَّاعي في الحقل، لملمنا حاجاتنا من الحقل، موجّهين أنظارنا نحو ظلالِ المنزل، تاركين خلفنا الأغنام ترعى العدس بنهمٍ كبير.
على ماذا كنتَ تقهقه وقد خرجتَ من المولد بلا حمّص، وبأي منظور أنت الرَّابح الأكبر؟
أنا الرَّابح الأكبر، لأنني ببيع العدس تخلَّصتُ من همِّ حصاد العدس لأسابيع، اليوم سأستلم قيمة ساعاتي الإضافية من التدريس، سأشتري بها صندوقاً من عرق الريّان وصندوقين من بيرة بردى، سنحتفل أنا وأصدقائي بمناسبة بيع العدس، سنسهرُ اللَّيلَ كلّه، وغداً سأنامُ حتى منتصف النَّهار، متخلِّصاً من حصاد العدس، طالما أصبحَ في ذمَّةِ الأغنام!
ضحك أخويَّ ضحكاً طازجاً، وعندَ المساء قامَ العرقُ ركباً، وفيما كنتُ أسردُ للأصدقاءِ مهاراتي في بيعِ العدسِ والأشواكِ، تعالَتْ قهقهاتنا عابرةً نسائمَ اللَّيلِ العليل!

ستوكهولم: 2007
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم

[email protected]
www.sabriyousef.com

هوامش:
*الخرنوب والسيِّل والكاروش والقُنْجرّة والزِّيؤان والبَرْبُور والشوقلّة والشَّوك والبلّق العين والعُقَّيدة والختمية والقَلْق والحِمْحم: من الأعشاب والحبوب والزهور البرّية.
** قيناغات: مفردها قيناغة، يتم ارتدائها بأصابع اليد اليسرى كي تحمي الأصابع من الشَّوك أثناء الحصاد بالمنجل
.