حمودي الحارثي استقر في هولندة وقلبه في العراق

صبي الحلاق المشاكس ((عبّوسي))... صفحة من كوميديا الزمن الجميل

باسل الجبوري من لندن: يستطيع الكوميدي المبدع ان يترك بصماته في قلوب الناس ويؤثر فيهم اكثر من الف سياسي. فسياسيو العراق تحديداً، جاءوا ورحلوا وخلفوا وراءهم لغطاً كبيراً. ولكن كوميدياً مبدعاً مثل المخرج والكاتب والممثل حمودي الحارثي، لايحل بأرض حتى يقبل عليه العراقيون على اختلاف مستوياتهم الثقافية وانتماءاتهم السياسية، مثلما لايزال قومه يتذكرونه منذ ان اطل مع المرحوم سليم البصري في اوائل الستينيات، فيسلسلة من التمثيليات الكوميدية التي تجعل الناس الان يترحمون على ذلك الزمن الجميل. فقد كانت تلك الاعمال تعبيراً عن نقاء الناس وبساطة الحياة آنذاك. فحمودي، تقمص دور ((عبّوسي))، صبي الحلاق المشاكس الذي ما انفك يرتب المقلب تلو الاخر لمعلمه الاسطى ((حجي راضي)) الفنان الراحل سليم البصري. وعندما كانت اعماله تعرض، يسرع من لايمتلك جهاز تلفزيون الى جيرانه او اقاربه او اصدقائه، طمعاً في الاستمتاع بأعمال تكرت بصمة عميقة في تاريخ الكوميديا العراقية الهادفة.

عندما استدعاني صدام

ورغم ان حمودي الحارثي هو من اكفأ المخرجين العراقيين (درس في العراق وفرنسا ومصر) بالاضافة الى كونه كاتب سيناريو، الا ان شخصية ((عبّوسي)) طغت عليه وجعلته من أشهر فناني الكوميديا في العراق. وهكذا تذكره الناس هنا في لندن عندما زارها مؤخراً بدعوة من جمعية رعاية العراقيين في المملكة المتحدة، وكان لنا معه لقاء سريع تحدث فيه عن قراره مغادرة العراق في التسعينيات، بعدما اضناه العيش في ظل الحصار، وهو يرى غيره ممن هم دونه علماً وموهبةً، ينعمون بمعيشة هنيئة، لمجرد انتمائهم لحزب السلطة. فكان عليه إما ان يهاجر او يرضى ببيع نفسه لدكتاتور سيهلك ويهلك البلد معه.
quot;في عام 1993 استدعاني صدام حسين انا وزميلي سليم البصري وطلب منا ان نقدم الكوميديا للترفيه عن الناس بميزانية مفتوحة، وسيكون ارشد (ارشد ياسين، صهر صدام وضابط حمايته) مديرا لشركة الانتاجquot;. لم يستطع ((عبّوسي)) ان يمضغ فكرة ان يكون شخصا امياً وركناً من اركان النظام مديراً لشركة كهذه. quot;سارعت الى ابلاغ صدام انني بصراحة بعت بيتي وكل ممتلكاتي وحولت ثمنها الى دولارات لانني اريد علاج زوجتي المصابة بالسرطان في الخارج. ضرب صدام على صدره وقالquot;بل تتعالج على نفقتيquot; وكم كان شعوري بالاحباط قوياً عندما علمت ان العلاج سيكون في العراق، وبذلك فشلت خطتي في الهرب الى الخارجquot;.

لا للنظام السابق ولا للجديد!

كرر المحاولة ثم الاخرى حتى تمكن من اللجوء الى هولندا، وقد آثر الترفع عن محاباة المسؤولين في quot;العراق الجديدquot; مثلما فعل مع النظام السابق، ولجأ الى فنه الاخر وهو النحت فأقام عشرين معرضاً، وكتب سيناريو من ثلاثين حلقة لمسلسل كوميدي نقدي ومسرحية كوميدية، وكلها لم تر النور. quot;متى ما وجدت منتجاً جديراً بها فستنفذquot;.لكن جواباً كهذا لم يقنعني، راوغ (صبي الحلاق المشاكس) وهو في العقد السادس من عمره (يرفض الافصاح عن سنة ميلاده بالضبط!) ولكنني لمست منه شعوراً قويا بالاحباط الان كما كان شعوره في الماضي... مشاكل الولاءات والانتماءات والحزبيات والعلاقات تحول دون وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتولد في نفس الانسان الموهوب شعوراً بالغبن. تُرك يعاني شظف العيش ولم يسأل عليه احد، حتى احتضنته الدولة الهولندية، ولم يبق له سوى جمهوره، فهو مع الناس البسطاء الانقياء الذين كان يعكس صور حياتهم في كل اعماله.
يتندر على ذلك الزمن فيقول: quot;في اوائل الستينيات لم يكن هناك الفيديو تيب، فكان البث مباشرا في تلفزيون بغداد. في احدى التمثيليات احتجنا حصاناً ووعدنا رجل بإحضار الحصان مقابل ثلاثة دنانير. وقد وفى الرجل بوعده فحضر ولكن ما كان معه ليس حصاناً بل حماراً من طراز ((الحساوي))! واشترط علينا الانفاق على طعامه والرعاية به من العصر وحتى انتهاء العمل عند منتصف الليل، مما كلفنا ثلاثة دنانير اخرى. وهكذا كانت اجرة الحمار ستة دنانير، اي ضعف ما تقاضاه كل ممثل منا، ثلاثة دنانير بالتمام والكمالquot;!

سليم البصري مات مسموماً

وللمرة الاولى يكشف حمودي الحارثي عن بعض الخفايا. في السبعينيات، أخرج مسلسل quot;كاريكاتيرquot; وهو عبارة عن اسكتشات كوميدية نقدية لم تنل رضا النظام دائماً. quot;زميلي المرحوم سليم البصري كان من الاكراد الفيلية واوشك ان يتم تهجيره الى خارج العراق باعتباره quot;تبعيةquot;. في احيان كثيرة كان لايستطيع الامساك بلسانه في شتم النظام سراً. وذات يوم دعينا الى وليمة. بعد ربع ساعة من تناوله شراباً، اشتكى سليم البصري من ألم شديد في معدته. لم تمض ساعات الا وفارق الحياةquot;. وعندما سألته ان هذا ليس دليلاً على وجود عمل جرمي، اجاب ان المرحوم سليم كان قد ترك حزب البعث الحاكم لتوه، بعد سبع سنوات من العضوية الشكلية فيه، ثم انه كان يكيل الشتائم للنظام ولصدام شخصياً في مجالسه الخاصة. بالتأكيد ان احدهم نقل الكلام، وما اكثر الجواسيس الذين زرعهم النظام في كل مكان. جثة الفقيد لم تشرح وبالتالي،ان كان هذا صحيحاً، فإن الوحيد الذي يستطيع حل اللغز هو الشخص الذي دس السم له في تلك الجلسة.

الليبيون أهانوا العراقيين

((عبوسي)) كان له شغب من نوع خاص في العاصمة الاردنية عندما ذهب الى السفارة الليبية طالباً تأشيرة الى هناك للعمل (كان الاول على معهد الفنون الجميلة في القاهرة وحصل منه على ست جوائز). وبدلاً من الاستفادة من خبرته quot;عاملني الملحق الثقافي وموظفو السفارة الليبية بإهانة واحتقار وكأن العراقيين باتوا رخيصين الى هذا الحد. بدلاً من ان يقفوا معنا في محنتنا أهانوا كل العراقيين الذين راجعوا السفارة، فما كان مني الا ان رميت ملف الطلب في وجه ذلك الموظف وأهنته مثلما أهاننا وخرجت. احد الاصدقاء لامني على مجرد التفكير في الذهاب الى هناك قائلاً quot;هل تهرب من دكتاتور مجنون لتذهب الى دكتاتور اكثر جنوناً؟!quot;.. وهكذا حولت وجهتي صوب هولندة واقيم في شمالها بعيداً عن صخب الحياة، مع زوجتي واولادي الثلاثة الذين يواصلون دراستهم الانquot;.

أمل في المستقبل

حمودي الحارثي انتهى به المطاف لاجئاً في المنفى شأنه شأن طاقات عراقية لاتعد ولاتحصى، تتمنى ان تتاح لها فرصة بناء عراق جديد لامكان فيه للطائفية او الحزبية او العلاقات الشخصية، بل يترك المبدع ليمارس عمله دون إملاءات او خوف. وعزاؤه الوحيد انه كلما حل في مكان، تفتح له قلوب العراقيين قبل بيوتهم، وسيأتي يوم ترى فيه اعماله الجديدة النور. فرغم طلبات، بل إلحاحات، الفضائيات العراقية، الا انه يرفض ان يعرض اعماله فيها لئلا يحسب على جهة دون اخرى، في زمن صارت فيه حسابات الانتماء تطال حتى المبدعين. أو ربما لأنه يريد ان يبقى اسماً على مسمى ابنه الاصغر (السندباد الأمير). عندما سألته عن سبب تسمية ابنه بهذا الاسم الغريب قال: quot;لأنني لحظة قررت مغادرة العراق سميت ابني الوليد بهذا الاسم. لأنني اريد ان اكون سندباداً وأطير الى خارج العراقquot;. هكذا كانت الحرية عزيزة عليه.. وستبقى!