1

حسين مردان (1927- 1972) شاعر فطري ذو مخيلة متفتحة لكل ما هو جديد... وهو بوهيمي الكتابة بقدر بوهيميته في الحياة اليومية، فهو كما وصف نفسه quot;رجل شارع حقيقي... عبد حرية لا تطاق، حرية ترفض ان تـُربط حتى بشعرة رفيعةquot;. كان يكتب ردودَ فعل أحاسيسه، من دون رتوش، لذا كانت النتائج تأتي شروخا في مفهوم quot;النوعquot;، دون ان تخلق quot;نوعاquot; أدبيا متميزا جديدا. كتب أولا وفي فترات فيما بعد قصائد موزونه... مارس كتابة quot;مقالاتquot; لها وقع ابداعي جديد على عالم النقد الثقافي العراقي آنذاك.. وكان يستقي من النزر المترجم، جل الأفكار التي كان يعيشها فطريا (كالسوريالية، الوجودية.. الخ)... وفي زحمة هذا الصراع بين الشعر المتعارف عليه حرا أو عمودا والنصوص النثرية المسماة مقالات، وفي التنقل بين الأشكال التعبيرية المختلفة، كان يشعر أن quot;الوزن يمنعه من بلوغ أشياء صغيرة في مطاوي نفسه البعيدة ونقلها إلى الورق كما يحسquot;. لذلك خلق أسلوب quot;النثر المركزquot;، quot;خلقا لأهرب من وجه الوزن الكريهquot;، على حد عبارته. وخلاصة quot;النثر المركزquot; هي كتابة جمل نثرية متوترة، قصيرة أو طويلة بعض الشيء، في سطور متوالية كأنها الشعر الحر. لحسين مردان خمسة دواوين من النثر المركز: quot;صور مرعبةquot; (1951)، quot;عزيزتي فلانةquot; (1952)، quot;العالم تنورquot; (؟)، quot;الربيع والجوعquot; (1953) وquot;نشيد الانشادquot; (1955) الذي أعاد ترجمته مبينا القوة النثرية للنص، والغريب أن الشاعر اللبناني أنسي الحاج قام بنفس المحاولة اواخر ستينات القرن الماضي، عندما اعاد صياغةنشيد الإنشاد. وعندما انضم حسين مردانأواخر عام 1968 إلى أسرة تحرير الأسبوعية العراقية quot;ألف باءquot;، خصصت له صفحة أسبوعية يملأهأ إما بمقالة، انطباعات سفر، أو بقصيدة من النثر المركز أو من الشعر الحر... وقد استمر على هذا المنوال إلى أن وافاه الأجل في اليوم الرابع من اوكتوبرعام 1972. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حسين مردان تنبأ، قبل مايقارب 3أشهر من موته، بأن العراق سيدخل مرحلة quot;الكظم الأدبيquot;، وذلك في مقالة عنوانها quot;الجدل لا الكظمquot; (quot;الف باءquot; 12 تموز 1972).

كتابات حسين مُردان، سواء في مقالاتهالأخيرةأو في نثره المركز، تتميّز بنثر ذي حركيّة نصّية تجعل الجمل تتلاحق على نحو غير قابل للاختزال، وكأنها عملية محوللفاصل بينالمضمون والتعبير: quot;دكان تفاح وليمون، هذه المخلوقة الطيبة. إنها تهرول إلى السوق. في زمن ما بعت سروالي لكي اسكر بثمنه. كان معي غائب طعمة فرمان وعبدالمجيد الونداوي. هكذا شربنا البنطلون في كازينو بلقيس.. إيه.. والتف الحبل الرمادي على قدمي.. من أين جئت؟ إن جبيني يلمس أرجل الوعلquot; (quot;من يفرك الصدأquot;)

كما أن حسين مردان يكاد يكون، في نظري، أولكاتب أعمدةيضع عناوين غرائبية لمقالاته الأسبوعية تذكر بالأسلوب السوريالي بل حتى بالصحافة الأوروبية المتقدمة، في استخدام العنوان كمجاز صادم: quot;الصعود إلى الواقعquot;، quot;لا يوجد غير وجهي في المرآةquot;، quot;الضوء أكثر من لونquot;، quot;فوق قالب الصابونquot;، quot;العودة إلى هيquot;،quot;الكركدن وقوانين المرورquot;، quot;القلم الأخير في قضية الشرق الأوسطquot;، quot;السمك يفقد طعمه الدمويquot;، وquot;العمق كبعد ثالثquot; الذي ينهيه بهذا المقطع: quot;كذلك يجب على الشاعر أن لا يفرح لمجرد إلقاء القبض على رأس الحبل الملقى في أغواره وإنما عليه أن ينحدر معه عبر المدن والقرى إلى الكهوف والأحراش ليشاهد ndash; نفسه ndash; عندما كان عاريا يقفز من شجرة إلى أخرى.quot;

في كل هذا المسار الكتابي ثمة ما يسمى بالانجليزية humour والكلمة هذه مفتاح لفهم كل الأعمال الأدبية الكبرى في العالم. فالفكر الغربي، شعرا ونثرا وحتى في أشد حالات يأسه، يقوم على مضمون هذه الكلمة التي ليس لها مقابل عربي سوى: فكاهة... وبالتالي فهي كلمة انتقاصية في الذهنية العربية المتخفية وراء حجب الجدية المصطنعة. نعم هناك فكاهة في كتابات حسين مردان مثلما في أعمال كبار كتاب أوروبا،لكنها فكاهةquot;تسلم التقاليد الموسومة بالمقدسات إلى ألسنة اللهيب الأكثر صفاء في الخيمياء الذهنية... إنها قدرة استقبالية لدى الإنسان تجاه ما يحيطه. طريقة خاصة لرد الفعل تجاه كل ما تنقله الأحاسيس وذاك من الساعة الأولى إلى الأخيرة من النهار ومن الحياةquot;، كما وضح جورج حنين في مقال له.إنها مِزاجhumour الفرد، خِلطٌ من أخلاط جسمه،في لحظة المواجهة مع واقع لا سلطة له فيه.

2

إن من يراجع ما كتبه مردان في quot;ألف باءquot; ما بين 1968 و 1972، سيصطدم بعبثية تسمية ما يكتبه هذا الأسبوع بـquot;مقالةquot;، والأسبوع التالي بـquot;نثر مركّزquot;. ذلك أن ما كان يعتبره مردان quot;مقالاتquot; تكاد لا تختلف في جوها ولغتها وتوترها وتركّزها، عما كان ينشره، في نفس المجلة، كقصائد يسميها من quot;النثر المركزquot; ذات الشكل المشطر على طريقة الشعر الحر. إذيكفي ان نشطّر على طريقته المستعملة في كتابة quot;النثر المركزquot;،بعض مقالاته الذاتية، فنحصل على نموذج بامتياز لما يسمى quot;قصيدة من النثر المركزquot; وفق مقاييس مردان نفسه.اليكم هذا المقطع من مقالته المعنونة بـ quot;هي الآن في شارع فرعيquot;:
quot;خطوة.. خطوتان.. عشرة.. مائة.. إلى أين؟ ليس هناك مكان معين.. المساء لحاف خلق، يتمدد على جبهة الأفق. لكم هو حزين هذا اللون الرمادي الباهت! خطوة. ورفع أحدهم يده بالتحية.. من يكون؟ وتلفت إلى الوراء.. إنه لم يشاهد مثل هذا القالب. هذا الشكل المفرطح! هذا.. ما أثقل المساء!quot; (quot;الأزهار تورق داخل الصاعقةquot;،ص 213بغداد 1972)

والآن لنشطره على طريقته في كتابة quot;النثر المركزquot;:

خطوة.. خطوتان..
عشرة.. مائة..
إلى أين؟
ليس هناك مكان معين..
المساء لحاف خلق،
يتمدد على جبهة الأفق.
لكم هو حزين هذا اللون الرمادي الباهت!
خطوة.
ورفع أحدهم يده بالتحية..
من يكون؟
وتلفت إلى الوراء..
إنه لم يشاهد مثل هذا القالب.
هذا الشكل المفرطح!
هذا.. ما أثقل المساء!

وإذا قارنا التقطيع هذا الذي قمنا به، مع تقطيعلأحدى قصائدهمن النثر المركز، لوجدنا تشابها جد كبير، لغة وأسلوبا وتوترا. هنا مقطع من قصيدة له من النثر المركز عنوانها quot;العودة إلى هيquot;:

أنت هنا فوق الصخر
فاذهب:
فلم يزل في أعماق الغابات المظلمة
كهف لم يُكتشف بعد.
هناك تستطيع ان تخلع قناعك
وتفهم لغة الصمت
وعلى ضوء هلال أخضر
سيأتي صوت قدميها،،
يخفق فوق النسيم.
(quot;ألف باءquot; 29 كانون الثاني 1969)

3

كيف استطاع ان يصل حسين مردان عام 1951 إلى هذه التسمية quot;النثر المركزquot;، ونحن نعلم أن تسمية quot;قصيدة النثرquot; بالعربية لم تظهر إلا عام 1960 في مجلة quot;شعرquot;أو في مقاللشوقي ابو شقرا، قبل ادونيس بأشهر؟ هل همس أحد في أذن مردان بأن ثمة شعر مختلف لايعرفه العرب أسمهquot;قصيدة نثرquot;، أوهل اطلع عليها في مقالة صحافية عابرة... وبعد لأيٍ، فضّـل أن يستبدلها بتسمية من اختراعه هو حتى، أولا، لا يُفهم أنه يعيد محاولات الريحاني quot;النثر الشعريquot;، وثانيا، أن الأمر لاعلاقة له بمعرفة أو عدم معرفة الوزن فالمسألة تتعلق بجوهر النثر كنثر، وثالثا، أنهلايقلد بودلير؟

الغريب في الأمر أنمميزات قصيدة النثر البودليرية: التوتر والاختصار واللاغرضية،تكاد تكون المميزات نفسها التي تتمتع بها قصائد quot;النثر المركزquot;،ونقطة الاختلاف بينهماهو الشكل: ففي الأول كتلة وفي الثاني تشطير. لكن نقطة الاختلاف الجوهريةهذه سيف ذو حدّين: فمن جهة تؤكد أن حسين مردان يجهل فعلا طبيعة قصيدة النثر البودليرية حد انه لم ير أن قصيدة النثر تكمن في شكلها الكتلوي أكثر مما في أي شيء آخر.ومن جهة أخرى، تشير نقطة الاختلاف هذه إلى أن فكرة quot;النثر المركّزquot; لابد وأن تكون مستوحاة من مصدر عليم ما. ذلك إن مصطلح quot;النثر المركـّزquot;يكاد يقترب من الترجمة الحرفية للمصطلح الفرنسي Poegrave;me en prose : قصيدة مادتها النثر.كما أن أفضل تعريف تقدمه المعاجم الأدبية الأوروبيةلقصيدة النثر هو: نثر مركـّز.وفي الحقيقة أن حسين مرداننفسه وضح أن النثر المركز ليس شعرا، ففيجواب قصيرعلى سؤال لألف باء،قال quot;إن السبب الحقيقي الذي دفعني إلى كتابة هذا النوع من النثر هو اكتشافي أن الوزن يحد من اظهار الحيوية النفسية ونقل العالم الباطني بصورة دقيقةquot; (ألف باء 29/10/1969). وفي هذا الجواب نقطة تشابه أساسية بين النثر المركز وقصيدة النثر البودليرية: النثر هو مادتهما.لكن لنفترض أن مردان عرف، من مصدر ما، ماهي قصيدة النثر واستبدلها تمويها بـquot;نثر مركزquot;..ياترى هل كان بامكانه الإعلان عن ثورة نثرية جديدة، في ظروف عام1951التي كانت بالكاد تقبل ثورة شكلية محضة كثورة quot;الشعر الحرquot;، فكيف تتقبلثورة أسمها غريب ومكون من كلمتينoxymoron إحداهما لا تأتلف مع الأخرى: قصيدة نثر؟؟ناهيك أن ظرفا كهذا، كان يساعد على تسييد اللامبالاة النقدية إزاءمحاولات ابتكار، وجعلهامجرد نزوات عاجلا أو أجلا يطويها الزمان.

ليست هناك إجابة شافية لمعرفة المسار الذي أوصل حسين مردان إلى هذه التسمية، وهي تسمية تدل على وعي واضح بأن الأمر لا يتعلق أبدا بالقصيدة نثرا، وبالتالي المرور عبر شروط الإيقاع العروضي.وليسغريبا أن حسين مردان لم يعر أية أهميةلمصطلح quot;قصيدة النثرquot; عندما ظهر بالعربية، بل لم ير أي تقارب بينها وبين quot;النثر المركزquot;.إذ عرف أن المصطلح العربييدور في الصراع القديمبين النثر والنظم وعلى أسس مغلوطة، بينما الأمر الحاسم كان بالنسبة إليه: استقلالية النثر، أي النـثر قصيدة ً.

معلومات إضافية قد تضيء بعض الغموض:

-كان حسين مردان قارئا جيدا كثير الإعجاب بالحركات الطليعية الأدبية الأوروبية، والتي كان يتابع بعض أخبارها المبتسرة وقصص أبطالها عن طريق المجلات والصحف العراقية والعربية وعما كان يترجم في الصحف والمجلات وما يصدر من كراريس او كتب في موضوع الأدب الأوروبي. وبفضل هذه الوسائل استطاع أن يتعرف على بودلير وأصبح بودليري المنحى على الأقل بالمعنى الفجوري الشائع عن بودلير.. ولا ننسى أن مجلتي quot;الأديبquot; اللبنانية وquot;الرسالةquot; القاهرية كانتا تترجمان بعض قصائد بودلير النثرية والموزونة لكن دون التمييز أو الإشارة إلى أنها قصائد نثر أو قصائد موزونة.

-ناهيك أن مردان كان أيضا وبحكم كونه شاعر وزن، مطلعا على محاولات التجديد العروضية التي كانت تحدث هنا وهنا طوال النصف الأول من القرن العشرين، وبالتالي على محاولات رافائيل بطي وأمين الريحاني...

-كما أنه كان منتبها إلى quot;نثرquot; بعض التراجم للشعر الغربي التي كانت تتم بالعربية quot;باعتناء فائق في اختيار الكلمات الملائمة للصورة الشعرية في بيت الشعر الغربي عند ترجمته الى العربيةquot;، كما وضح هو في مقالته quot;النثر الشعريquot;. وهذه نقطة مهمة، يجب أن يتوسع فيها الناقد المهتم،لأنها تضيء الأهمية التي كان يعطيها حسين مردان إلى quot;اللغة النثريةquot; في الترجمات العربية.ذلك أن دور الترجمة كبير في التأثير على التحرر من قوالب الجمل المركبةكلاسيكيا.كما أنه غالبا ما تتواجد جمل قصيرة متوترة مغرية شعريا في أي ترجمة كانت ركيكة أو عالية الأسلوب.

4

مات حسين مردان دون أن يشرح بوضوح، في مقال أو بيان، ما هيالشروط اللازمة لتمييزquot;النثر المركزquot; عن النظم، النثر والشعر الحر...لأنه لو فعللأستطعنا مقارنتها مع المميزات المعروفة لقصيدة النثر البودليرية. كما أنه ليست هناك شهادة واحدة من معاصريه عام 1951تضيء هذه المسألة وتبيّن بعضجذور quot;النثر المركزquot;، ربما هناك شيء ما في إحدى جرائد تلك الفترة.كما أن كلما كتب عن حسين مردان يعجّ بعباراتمدحية وتطبيليه وبقصص تندرية تدور حول طرافة مردان. ربما باستثناء المقدمتين اللتين كتبهما الدكتور علي جواد طاهر للمختار من مقالات وأشعار ونثر مركز حسين مردان.. لكنهما لا تذهبان نظريا أبعد من اعجاب ناقد ببراعة الشاعر.وما يزيد الطين بلة، لم يهتم أحدٌ، لسوء حظ مردان، بهذه الاضافة، ولم تؤخذ جديا من قبل معظم نقادquot;ناquot;. وإنما بقيت محاولته هذه، معتبرة ًمجرد صولة من صولات quot;ابو عليquot; التي يتبجح بها عدد من العراقيين دون أي محاولة منهملتفهّمها ونقلها من quot;صولاتquot; إلى مواد أدبية جديرة بالدراسة والبحث؛ من نوادر إلى محاولات فتح نحو أشكال محررة.

لو كان حسين مردان مطلعا اطلاعا مباشرا على ثورة بودلير الثانية قصيدة النثر، أو على قصائد رامبو، أو على النتاج التكعيبي (ماكس جاكوب وبيير ريفيردي)، أو على السرد السوريالي للحلم، لكان، على الأرجح،أول من أدخل تسمية قصيدة نثر، أو على الأقل لطرح اشكاليتها بمعناها الحقيقي كجنس أدبي وليس كتسمية تـُطلق اعتباطا على أشعار يجهل مؤلفوها العروض العربي. فالنية والقدرة التخيلية والحدس التمييزي، كل هذا كان يجري في مشروع حسين مردان الإبداعي جريان الدم في الوريد.نعم! أقول لو، رغم عقم هذه اللو،لكان قدترك لنا حسين مردان ديوانا تاريخيا عنوانه: quot;كآبة بغدادquot;، محاكاةً لديوان بودلير: quot;كآبة باريسquot;. إذ هناكثلاثون مادة لحسين مردان مشتتة في quot;الف باءquot;، يكفي أن نشذ ّب بعض المقالاتمن الشعارات المقحمة، وحذف التشطير من بعض القصائدالمسمّاةquot;النثر المركـّزquot;وجعلها كتلة نثر متواصلة الجُـمل، فنحصلعلى قصائد نثر بامتياز تنبض (من دون اقحام فانتازيات دونكيشوتية)بقدرة العراقي على السياحة الحلمية عبر القاراتوهو في باص المصلحة، مثلما تنبضبحياة بغداد الصاخبة في أجمل فتراتها الليبرالية، لأن حسين مردان كان يعيش اليومي والذهني معا مثلما كانquot;يكتبويقرأ الشعر في الباصات والحانات وفي الشوارعquot; وفي احتكاك مباشر معكائنات السرد من شحاذين ومدمني الأفلام، من طلاب اللهووأنصاف السكارى ولصوص اللذة المحرمة!وquot;بغداد التي كانت ترقص تحت الغمام والناسquot;، هياليوم بأمس الحاجة إلى باصات المصلحةتلك، حاناتها تلكالمطلة على شارع الرشيد، مقاهيها التي كانتتغص بالمتعطلين والأدباء المتمردين، سينماتها؛ صالات الحلم الزاهية،... باختصار إلى quot;كآبتهاquot; الطبيعية؛ إلىقصائد نثرها المُردانية الضائعة علّ quot;التوهج يعود إلى عيون الناس من جديدquot;!

وأخيرا

في مجلة quot;فراديسquot; وفي أول ملف يُعد بالعربية عن مفهوم قصيدة النثر الحقيقية، قمت بمحاولة شبيهة بما قام بها بيير ريفيردي: أخذ قصيدة من quot;النثر المركزquot; للشاعر العراقي حسين مردان وإعادة ربطها ككتلة شبيهة بكتلة قصيدة النثر. يجد القارئ في العمود الأيمن نص قصيدة من quot;النثر المركزquot; عنوانها quot;كابوسquot; كما كانت منشورة في quot;الف باءquot; (7 نيسان 1971). وفي العمود الأيسر: نفس قصيدة quot;كابوسquot; لكن كما نشرتها أنا في quot;فراديسquot; (العدد 6/7، 1993) بعد أن قمت فقط بربط بيت بأخر حاذفا التشطير، وواضعا الأبيات كلها في سياق كتلوي كنص متواصل:

الكابوس

فوق المصباح الشاحب.
كان يقف العصفور الأسود.
إن البحر وراء الشارع.
قف..
واجتاحني الرعب.
من أي جانب يقبل هذا
الصوت!
ونظرت إلى الليل.
إلى عروقه المنتفخة بالظلمة.
أين كنت قبل الآن!
وشعرت بنسمة باردة
كحد الموسى.
ارجع. أيها الشبح.
ومرّت سيّارة إسعاف
مسرعة، ثم اختفت.
وعاد الصمت إلى الأفق.
أنا لا أعرف المكان الذي
أسير إليه.

لقد قال.. أيّها الشبح!!
ولكني لم أمت.
وتقدمت خطوة أخرى
وخيّل إليّ أنّ لقدمي رنّة
الطبل.
ألا تكتفي بالموت مرة واحدة!
إن الأشباح تموت أيضا.

آه..
ورأيت العصفور يرفرف
بجناحيه
إنه يحلّق في الفضاء.
ويقترب من وجهي.
هل هو..
لقد كان يحمل وجهي.
لماذا تريد أن تعرف
الحقيقة.. هه.
يا لك من أعمى.
سينتهي الشارع، ولم يبق
غير البحر.
وفجأة انطفأ المصباح
وارتفع غناء خافت.
الماء يخاطب الشاعر،
يطلبه،
يتمنى جسده الذابل.
وترنحت.
تلك هي جثتي مطروحة
على الرصيف.
وانبثق حولي الضجيج.
من الذي جاء به إلى هذه
الأرض؟
اذهبوا به إلى الأعلى،
إنه ثمل.
وصرخت بغضب هائل،
أنا مخدّر بالحب.
وزحفت إلى الأمام.
لقد اشتعل المصباح.
واختفى الطائر.
ثم..
ثم وصلت إلى البحر.

الكابوس

فوق المصباح الشاحب. كان يقف العصفور الأسود. إن البحر وراء الشارع. قف.. واجتاحني الرعب. من أي جانب يقبل هذا الصوت! ونظرت إلى الليل. إلى عروقه المنتفخة بالظلمة. أين كنت قبل الآن! وشعرت بنسمة باردة كحد الموسى. ارجع. أيها الشبح. ومرّت سيّارة إسعاف مسرعة، ثم اختفت. وعاد الصمت إلى الأفق. أنا لا أعرف المكان الذي أسير إليه.

لقد قال.. أيّها الشبح!! ولكني لم أمت. وتقدمت خطوة أخرى وخيّل إليّ أنّ لقدمي رنّة الطبل. ألا تكتفي بالموت مرة واحدة! إن الأشباح تموت أيضا. آه.. ورأيت العصفور يرفرف بجناحيه. إنه يحلّق في الفضاء. ويقترب من وجهي. هل هو.. لقد كان يحمل وجهي. لماذا تريد أن تعرف الحقيقة.. هه. يا لك من أعمى. سينتهي الشارع، ولم يبق غير البحر. وفجأة انطفأ المصباح وارتفع غناء خافت. الماء يخاطب الشاعر، يطلبه، يتمنى جسده الذابل. وترنحت. تلك هي جثتي مطروحة على الرصيف. وانبثق حولي الضجيج. من الذي جاء به إلى هذه الأرض؟ اذهبوا به إلى الأعلى، إنه ثمل. وصرخت بغضب هائل، أنا مخدّر بالحب. وزحفت إلى الأمام. لقد اشتعل المصباح. واختفى الطائر. ثم.. ثم وصلت إلى البحر.


لانجاز هذه العجالة، راجعت كتاب الدكتور جواد علي الطاهر: quot;من يفرك الصداquot; (بغداد 1988)وهو مختارات من مقالات وقصائد حرة ونثر مركز نشرها حسين مردان في quot;ألف باءquot;. كما قرأت الكتاب الذيقام بجمع مقالات مختارة من quot;ألف باءquot;حسين مردان نفسه تحت عنوان quot;الأزهار تورق داخل الصاعقةquot; (1972). وطبعا المصادر الغربية التي أتابعها منذ اكثر من ربع قرن.