ترجمها عن الألمانية صالح كاظم


تقديم عبدالقادر الجنابي: شاعر، روائي، ناثر، رسّام، كاتب سيناريوهات، مسرحي، راوي قصص للأطفال، مدون ذكريات وانطباعات، باختصار: أديب كل الفصول، ما من جنس أدبي لم يترك فيه بصمات مميزة تنمّ عن أصالة ومخيلة خصبة. لكن هذا التنوع ليس تنقلا أو نزوة في التجريب هنا وهناك، بقدر ما هو

غونتر كونرت: في الكتابة

quot;... لم أتعلم مهنة مفيدة، لذلك أتجهت للكتابة حين بلغت السابعة عشرة من عمري، فأرتبطت في وقت مبكر بهذه المهنة الغريبة. كنت عاجزا عن ممارسة عمل آخر، لكن الأمر الحاسم هو أني لم أكن أرغب في ممارسة أي عمل آخر.quot;

quot;وحيث أنه لم يقدر لي أن أمارس عملا نافعا، تمسكت بالخيط الرفيع الذي وضعته لنفسي متأرجحا فوق هاوية الحياة اليومية. بعد فترة من الزمن أدركت أن ما أفعله لم يعد حدثا عابرا لا ضرورة له في حياتي، بل هو المؤسس الحقيقي لها. وكلما ذبت أثناء عملية الكتابة فيما أكتب، لاحظت بأن عدد المواضيع التي أكتب عنها وكنت أتصورها لا تنتهي أصبح محدودا. حين يتماثل الكاتب مع النص ينتهي دوره كمهرج أو كمعلم، فتفقد الإشارات الأخلاقية حتميتها وتتحول الى وجهة نظر أو أسلوب في الكتابة، الى ذبذبات يبثها كائن متشكل من حروف، هو الكاتب بعد تجريده من النص. وحين تستمر هذه الحالة تتعمق ظاهرة العبودية في كل أشكال الإنتاج الأدبي وتختفي المرونة، حيث لا يتحقق سوى ما هو في طريقه للتحول: كل ما عدا ذلك يتم بلا حماس أو يتوقف عن الكينونة. وغالبا ما تفقد أشياء كنا نعتبرها مهمة، أهميتها. في البدء كانت الأمور على منتهى البساطة: حيث أننا نعرف الحروف وشيئا من القواعد، لنكتب إذا عن جمال حمار القَبـّان أو عن سعادة الغباء وحب البشرية وغير ذلك من ثمرات الخيال. تتميز اللغة بكونها مفيدة للجميع. لماذا لا أتمكن من توظيف هذه الميزة؟ لماذا أنا عاجز عن تنفيذ كل مهمة توكل إليّ مثل الحرفي الذي ينفذ رغبات زبائنه، حتى لو بدت له حمقاء؟

السبب بسيط جدا: لوفعلت ذلك لأصبحت كائنا لا علاقة لي به، كائنا لا وجود له في الواقع، نموذجا حقيقيا للإغتراب عن الذات، لذا فهو مخيف أيضا. انك تقضي على نفسك من خلال تلبس شخصية لا علاقة لها بالواقع. هذا هو أنتحار عن طريق الإنتقال الى العدم عن طريق اللغة. بعد هذا تصبح جثة حية يمكن عرضها في المتاحف. وهذه جريمة على مستوى رفيع.
أكتب لأن عملية تحولي الى نص هي عملية إنبعاث ديالكتيكي متجدد، خلال هذه العملية أربح وأخسر في نفس الوقت. خلال ذلك يبلغ التوتر أعلى درجاته كما يحصل أثناء البحث والعثور على ما هو مجهول. الكاتب يلج دواخله لغرض الكشف عما هو عام وغير شخصي في ذاته. الكتابة تجسد ما يتمناه كل منا سرا: ألا تستغرق الدقيقة أكثر من دقيقة واحدة يمكن أسترجاعها حين نشاء. الكتابة هي: الإنتشار على شكل موجات نحو كافة الإتجاهات عبر الحدود بهدف الكشف الدائم لما هو مجهول وإضاءته.
الكتابة لا تضع ثوابت، وأنما تخلق حوافز، لأنها بداية لا تتوقف، وهي دائما كالمرة الأولى، مثل المضاجعة أو الألم. عند الكتابة تنعدم النهاية، لهذا أكتب: لكي أتحمل العالم الذي يسقط دوما في العدم.

ترجمة صالح كاظم

تعبير عن فردية مُـنشقٍ؛ فردية ذات خط عمودي في مجتمع أفقي التفكير. وليس هناك خصال ليس لها تاريخ، وجذر في الماضي. ولد في برلين عام 1929، من أب آري وأم يهودية. وسيحرم بسبب أصول أمه اليهودية من التعليم الثانوي. ويَروي في كتابه المشهور quot;ألعاب للبالغينquot;، أنه عندما كان في الابتدائية، طلب منه المعلم، بعد أن رأى ملفه المدرسي، لماذا أنت موصوف في الملف كـquot;منشقquot;، أجاب كونرت، بلا أي تردد: Mischling ersten grades(لأني كلب مخلوط الأصل من الدرجة الأولى)quot;، فانفجر الطلاب ضحكا وكأنه روى نكتة، لكن المعلم لم يضحك لأنه كان مطلعا على قوانين نوريمبرغ المتعلقة بالعرق، التي وفقها يوصم كل من كان أحد أبويه يهوديا والآخر آريا بـquot;كلب مخلوط الأصلquot;. وهكذا شعر، منذ أعوامه الأولى، أنه منشق؛ مختلف عن سائر أطفال المدرسة والحي، وأنه حامل سر، إذ قالت له أمه: quot;إياك أن تنطق اسم quot;موسكوquot;! وإلا سيأخذونك الغوستابو إلى السجن. وعندما كان يتمشى في حيه، بعد سقوط برلين واحتلالها من قبل القوات الروسية، سمع اسم quot;موسكوquot; التي بقيت في مطاوي نفسه أكثر من عشرين عاما quot;موسكوquot; يتردد بين ألأطفال والعابرين وكأن في quot;موسكوquot; يكمن الأمل كله! تابع دروسه في الفنون والآداب مسددا تكاليفها بما كان يأتيه من مجلة Eulenspiegel من مكافآت لقاء قصصه وقصائده الساخرة. انضم إلى الحزب الشيوعي متفائلا بمجتمع اشتراكي إنساني، تعرف على بريشت واستفاد من بعض تقنياته الكتابية، كما تعرف على يوهانس بيشر الذي ساعده على نشر ديوانه الأول عام 1950. طفق يحضر مؤتمرات اتحاد كتاب المانيا الفيدرالية، واجتماعات الحزب الثقافية... وها هو يكتشفُ فجأة أنه ليس سوى منشق، في نظر الحزب، لكن هذه المرة لأسباب أخرى لا علاقة لها بالعرق وإنما بحرية التعبير. فأشعاره أخذ يتضح خطها التشاؤمي على طريقة كافكا وغوتفريد بن، والمبتعد عن هدى الواقعية الاشتراكية، فأخذت تحوم حوله الشبهات. بل طُلبَ منه أن يعيد كتابة ديوان شعري له، ومما زاد الطين بلة، كتب كونرت، ذات يوم، سكيتشا يسخر فيه من دوغمائيين معينين كارمين مويلر، فهاجت عليه المافيا الستالينية المسيطرة على الثقافة في الحزب، وقام ارمين مويلر في اجتماع وقال لكونرت: quot;يجب أن يضعوك في معسكر اعتقال!quot;، فترك كونرت الاجتماع غير مصدقا، شاعرا أن الموسكوفيين هؤلاء ربما رفضوا النازية لكنهم تبنوا طرق هتلر في معاملة المنشقين. غير أنه وجد إمكانية نشر أعماله في ألمانيا الغربية قبل أن تصدر في الديمقراطية، فنشر روايته الأولى quot;باسم القبعاتquot; في برلين الغربية عام 1967، أي بتسع سنوات قبل أن تصدر في الشرقية. وعندما رفض أن يسحب اسمه من بيان الاحتجاج على طرد وولف بيرمان، وُضع تحت quot;مراقبة علنية لاسترهابه نفسيا. بل تمادى جهاز أمن الدولة الألماني الشرقي المعروف باسم quot;شتازيquot; إلى دفع عدد من أصدقاء وأصحاب كونرت نفسه لمراقبة زوجته ماريان، وإدلاء بمعلومات حول نشاطاتها... إن الاضطهاد الذي كان يتوجس منه إبان النازية لكون أمه يهودية، أخذ يشعر به بقوّة الآن في ظل الموسكوفيين... ورغم كل هذا الوضع النفسي القلق، لم يتوقف كونرت عن الكتابة على النحو الذي يريده... بل طبع ديوانا في المانيا الغربية تحت عنوان quot;في الطريق إلى اليوتوبياquot; (1977) معبرا فيه عن خيبته من ألمانيا الشرقية. وبعد مماطلات، وافقت السلطات على إعطائه ترخيص بعبور جدار برلين إلى الغرب فحمل في العاشر من اوكتوبر 1979، هو وزوجته حقائبهم وقططهم التسع، نحو برلين الغربية من دون رجعة. وتجدر الاشارة هنا إلى أن كونرت اعترف بأنه كان ثمة نقاط إيجابية في ألمانيا الشرقية، قائلا: quot; كانت النقاشات دائما قاسية ومباشرة، مما
تجعلك في حالة تنبّه، وأشعر أنها ساعدت كتابتي كثيراquot;. وربما بسبب عيشه في ظل دكتاتوريتين، النازية والشيوعية، استخلص كونرت تعريفا خاصا به للكتابة بأنها quot;نوع من الاضطراب العصبي الذي يشغل البالquot;!
لكونرت عشرات الدواوين، النثر، القصص، المسرحيات الإذاعية، سيناريوهات، الذكريات، النقد والأعمال الفنية. نال عدة جوائز أدبية كبرى منها جائزة هاينريش مان وجائزة غيورغ تراكل. لا يزال يواصل كتاباته المتغورة في معنى الحياة عندما تكون في جلد آخر، منشق، ومنبوذ. وكتاباته كلها مطبوعة بحزن شفاف مليء بالشكوك وجدلية سلبية إزاء الوعود السياسية والشعارات البراقة؛ حزن لم تسيطر عليه البكائيات المعروفة في أدب كتاب quot;النزعة الإنسانيةquot; من الدرجة الثانية، وإنما تخترقه شهب الفكاهة السوداء والاعتداد بالنفس والتشريح العيادي للأنا.
من بين كتبه، كتاب واحد يهمنا هنا، هو quot;أحلام يقظة في برلين وفي أماكن أخرىquot; الذي صدر عام 1972.
كونرت بين شبيهين
هو مجلد من الكتل النثرية الطويلة نسبيا والقصيرة التي تكاد تكون قصائد نثر وكأنها مكتوبة عن وعي بهذا الجنس الأدبي. في الحقيقة، نثره في هذا الكتاب، يتّبع أسلوب الامثولات الكافكوية، إلا أنها أمثولات Parables تبتعد بأسلوبها السردي الموجز على نحو واف، من القصدية الحِكَميّة المتميزة بها أمثولات كافكا. فما يريده كونرت، عبر قراءة للمدينة، للشارع، للمحل، للأشخاص الوهميين، للحشرات والكائنات، باختصار للكتابة نفسها، ليس البعد الرمزي المطلوب من الأمثولة لوضع ثوابت أخلاقية جديدة، وإنما الصور التي تخلق الحوافز، quot;لحظة تماثل الكاتب مع النص، فينتهي دوره كمهرج أو كمعلم، فتفقد الإشارات الأخلاقية حتميتها وتتحول الى وجهة نظر أو أسلوب في الكتابة، الى ذبذبات يبثها كائن متشكل من حروف، هو الكاتب بعد تجريده من النصquot;. وهذا هو عين السمة الرئيسية لقصيدة النثر: الخلو مما هو شخصي. (انظر الاطار المنشور على الجانب الأيسر). هنا خمس نصوص وجدناها أقرب النماذج إلى قصيدة النثر المتمثلة كلاسيكيا في quot;كوب الزّارquot; لماكس جاكوب:

حلم سيزيف
بعد أن ألقى بجسده على العشب، حَلمَ بما يفعل كل يوم: رأى نفسه يعرق ويلهث ويلعن، دافعا الصخرة بإتجاه القمة. تحت يديه اللتين أعياهما الألم يتحول المرمر القاسي الى حجر رقيق، وبعدها الى بشرة رقيقة تتخذ لها خلال طرفة عين جسدا وملامح هي جسده وملامحه. أما ذلك الذي كان على وشك الإختناق تعبا، فلم يعد يشعر بالبلاء: كما لو لم يعد يذكر مذاق الدموع اليائسة والمرارة حين تسقط الصخرة مرة أخرى الى الأعماق، متجاهلة إياه، قاسية وعنيدة. تطلع الى الكائن الرابض عند قدميه، حاملا مواصفاته بلا عاطفة وبلا غضب، ولم يتعرف على ذاته، بل وضع يده المتحجرة على البشرة الخائفة ليدفع ما ربض أمام قدميه الى الهوة: محررا الصخرة من إشكال دحرجتها مرة بعد أخرى الى القمة.

مواقف من مدينة
الشوارع لا تجرؤ على إيقاف خدماتها، والأسفلت يرقد مستسلما، بعد أن سحقته أقدام كثيرة. تنظر الينا الشبابيك بإستعلاء إذ نمر بها عابرين، وكلما تفتح الصناديق المحتشدة بالبشر أبوابها، كما لو كانت على وشك أن تشي لنا بما تعرف من خلال أفواهها المتحجرة، تغلقها من جديد بمنتهى الحذر. أنها تنتظر وتنتظر بصبر لا ينفذ، رغم معرفتها بكل ما نفعل. لذلك أخشى أن يأتي يوم تتهدم فيه البيوت على رؤوسنا، متناثرة الأجزاء، فنكتشف أن كل آجرة تسقط، هي حجر الفيلسوف.

أحلام يقظة
أحيانا، في أحلام يقظة، أتلبس وجودا آخر: في الحانة أنتحل حياة صاحبها، الذي سوف يغازل بعد لحظات النادلة بعد أن تتملكه الشهوات وإنشغالات دخل الحانة اليومي. في المطار أشق طريقي الى كابينة القيادة منتحلا شخصية الطيار، وأبتعد عن ضجيج الأرض وروحي تحلق فوق الغيوم، لست هنا ولست هناك. أقف على خشبة المسرح ممثلا، أو أعمل خشابا، أسقط الأشجار واحدة بعد الأخرى وسط وحشة الغابة. إن متعة انتحال كيان الآخر وتوجيه أعضائه وإستعارة أفكاره، لا ديمومة لها، إذ سرعان ما يستحيل تلبّس كيان الآخر إلى اقامة في بلد غريب ويتخلى الفضول عن موقعه الى وريثه: التعود.
يهيمن علي ملل حاد متسلل من جدران الحانة، إذ أراقب التصرفات نفسها للنادلة نفسها. مملا يصبح التحليق اليومي الى وارشو وبراغ ، يستحيل عذابا لا نهاية له على أرتفاع عشرة آلاف متر. كذلك حفظ النصوص يوميا والبروفات قبل حلول الظهيرة، أثناء إنتشار ضوء الشمس خارج الكهف المظلم داخل المسرح. أما أشجار البلوط والصنوبر والشربين فهي مثل الهيدرا كلما قطعت أحد رؤوسها نمت لها رؤوس أخرى: صراع يائس مع الغابة وفي أحشائها تجعلك مثل سجين وسط قضبان خضراء. مثل مناظر تجذب المسافر عن بعد، قبل وصوله وهو يعرف أن جاذبيتها ستبقى، طالما لم يستقر فيها، كذلك الحيوات التي لا نملكها.

المحارة
في الأيام الممطرة، أقترح تذكر رجل له موهبة نادرة: حين تلتقيه في الحانات وخلال الإجتماعات، في المجالس وفي دوائر النقاش، أثناء إفتتاح المعارض وفي المحاور، خلال عقد الإتفاقيات، تجده صامتا، ولصمته مداليل مختلفة، فهو يعبر عن الإحتجاج حينا، وآخر عن الثقة، يدل على التأثر، أو الإبهام، القبول أو الرفض.
بعد أن مات وأستقر في أحضان الأرض الرسمية التي أنفتحت أمامه بصمت، أتضح أنه لم يخلف شيئا، لم يكن لديه أولاد متعجلون وطامحون و لابنات نزقات يعشقن الأسرة، لا أرملة تطمع في المال ولا مجموعة طوابع. لم يترك أثرا.
في يوم ممطر كهذا، كانت الصدمة كبيرة كما تعرفون، إذ أتضح أن هذه المحارة المعروفة في المدينة لم تلد لؤلؤة. أما الآن فقد أتضح للجميع أنها تركت لؤلؤة واحدة، لؤلؤة لا تقدر بثمن: ذكرى صمته الرائع.

صراخ الخفافيش
حين تمضي محلقة على عجل أثناء غروب الشمس، متنقلة من مكان الى آخر، تصرخ بصوت مرتفع، لا يسمعه سوى أمثالها. قمم الأشجار ومخازن الغلال، قبب الكنائس المخربة ترجع الصدى، فيصلها بسرعة، منبها إياها لما يعترض طريقها، كاشفا لها الطريق الصحيح. لو فقدت صوتها لن تجد طريقها أبدا، وستصطدم بكل ما يعترضها وترتطم بالجدران، مما يجعلها تسقط على الأرض ميتة. بدونها يتكاثر ما كانت تلتهمه وينمو بسرعة: الحشرات.