قصائدهم كانت تفيض بالعروبة وحب الوطن!
سأطوف الكعبة مُحْرما
وأتعلق بأستارها كمجنون ليلي
وأرمي الجمار
واستغيث بك يا رب
يا أرحم الراحمين
ماذا ذنب أطفال غزة والعراق
لماذا تركتهم جائعين؟

بهذه الأبيات العجيبة يبدأ البروفيسور laquo;سامي موريهraquo; آخر قصائده بعنوان quot;لماذاquot; بلغته العربية الفصيحة التي كتب بها ـ وما زال ـ معظم قصائده، رغم أنه يكتب أبحاثه باللغة الإنجليزية او العبرية، ولد سامي موريه أو شموئيل، كما صار يسمي بعد انتقاله لإسرائيل، في بغداد عام 1933م درس بها وحمل ذكريات كثيرة منها، اضطر إلي ترك العراق بعد إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين، ووصل إلي إسرائيل، فعمل في مجال البناء، لعدم إتقانه اللغة العبرية، ثم استدعي للتجنيد مثل معظم القادمين الجدد، وكان في هذا الوقت يكتب شعرا عربيا وينشره بالعربية ايضا في صحف اليسار الإسرائيلي، ثم التحق مع اخويه الآخرين بالجامعة العبرية وتفوق في دراسته، ثم حصل علي منحة دراسية وسافر لانجلترا وحصل علي الدكتوراه في موضوع الشعر العربي الحديث 1800-1970 وقد حاول فيه إثبات أن الشعراء المسيحيين هم أصحاب التجديد في الشعر العربي، وقد منح الدكتوراه من جامعة لندن رغم أن الممتحنَيْن كانا الدكتور وليد عرفات، و الدكتور محمد مصطفي بدوي، وهما عربيان مسلمان، لكنهما منحاه الدرجة العلمية التي عمل بها محاضرا في الجامعة العبرية-القدس، في موضوع اللغة العربية. وقد اهتم بروفيسور موريه ببحث ودراسة الشعر والرواية والقصة والمسرح العربي الحديث بالاضافة الى دراسة الإنتاج الأدبي ليهود العراق باللغة العربية، ورأي فيه غصنا من شجرة الأدب العربي الحديث.ويبدو موريه عاشقا ذائبا في هوي العراق، لدرجة أنه رأس رابطة باسم رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق وهي جمعية تأسست عام 1980 غرضها تعزيز التعاون بين الجامعيين اليهود النازحين من العراق في مجال البحث العلمي والنشاط الاجتماعي والثقافي والأدبي والفني عن طريق نشر مؤلفات اليهود النازحين من العراق والأبحاث التي كتبت عن يهود العراق وعقد الندوات العلمية والثقافية والأدبية. إن غالبية هؤلاء الأدباء من العراق قد أسقطت عنهم جنسيتهم، فاضطروا للهجرة، غالبيتهم هاجروا لإسرائيل ومنهم من هاجر لأوروبا.. ونشر من خلال رابطة اليهود الجامعيين النازحين من العراق 36 كتابا من مذكرات وقصص ودواوين ليهود العراق من أمثال انور شاؤل ومير بصري وسلمان درويش وابراهيم عوباديا وسمير نقاش واسحق بار موشيه وجاد بن مئير وغيرهم. ولهذا يتساءل الكاتب خالد القشطيني: لماذا لم يستطع الاسرائيليون من أصل عربي إقامة جسر بين الطرفين؟ نعرف ان أكثرهم لا يحملون ذكريات طيبة عن بلدانهم الاصلية وانتموا الي كتلة الليكود المتطرفة، ولكن اكثر الاسرائيليين العراقيين ليسوا كذلك، رغم كل ما تعرضوا له من اضطهاد منذ بداية الاربعينات، سألتهم هذا السؤال.- الكلام للقشطيني - اجابني عن ذلك سامي ميخائيل، رئيس جمعية حقوق المواطن في اسرائيل، فقال: يعود الأمر لسببين، الأول أن السكان العرب نظروا اليهم كأعداء جاءوا لاغتصاب أرضهم. وهذا مفهوم. الثاني هو أن اليهود العراقيين واجهوا التمييز ضدهم من الاشكنازيين laquo;يهود الغربraquo; الذين لم يثقوا بعد بولائهم للدولة الجديدة واندماجهم بها، ولا سيما بعد المظاهرات والمشاكل التي خلقها اليساريون العراقيون. أصبح علي الاسرائيلي العراقي أن يثبت ولاءه واندماجه. انطوي ذلك علي تحاشي الارتباط بالفلسطينيين وهذا أيضا مفهوم. ومن هنا يحق لنا التساؤل: ما الغرض الحقيقي وراء هذا الاهتمام اليهودي باللغة العربية والأدب العربي؟ خاصة مع اهتمامات شموئيل موريه البحثية بالأدب العربي وخاصة المسرح العربي في العصر الوسيط ثم حركات التجديد في الشعر العربي، وهل قرر الإسرائيليون فجأة الذوبان في عشق لغة العرب؟

مدارس يهودية
يري الدكتور سيد نجم أن الأدب الاسرائيلي هو الأدب المنتج عن هؤلاء اليهود والمعبر عنهم. أما الدكتورعبدالوهاب المسيري فيعرف الأدب الصهيوني بأنه وصف اتجاه عقائدي عام للعمل الأدبي. ومن العجيب أن تري كاتبا عربيا يكتب بالعبرية، وكاتب إسرائيلي يكتب بالعربية، فمن الكتاب العرب الذين يكتبون بالعبرية نعيم عرايدي وسهام داوود وفاروق مواسي وسلمان مصالحة، والكاتبان انطون شماس وسلمان ناطور وغيرهم.يذكر الدكتور نعيم عرايدي 57 عاما أنه أتم دراسته الابتدائية في قريته الصغيرة، المغار الجليلية، لكنه أتم الثانوية في مدرسة يهودية.في حينه كانت القرية العربية التي تحتضن مدرسة ابتدائية، تعتبر محظوظة، في ما جميعها تفتقد للمدارس الثانوية. فكان الأهالي يرسلون أولادهم الذكور الناجحين لمتابعة دراستهم في مدينة الناصرة، كبري المدن العربية التي تتوفر فيها أكثر من مدرسة ثانوية، أو الي القدس أو يافا وحيفا. قسم قليل من الأهالي اختار أن يلتحق أبناؤهم بمدارس يهودية، والأمر لم يكن بتلك السهولة. فكان ضروري أن ينسجم الدارس تماما مع اللغة العبرية، ومع التقدم الدراسي والتعمق في الأدب العبري رأي انه أدب غزير، وفيه الكثير من اللمحات الغنية والجميلة، ويعتبر من أغني الآداب في العالم وهو لا يقل غني وجمالا عن الأدب العربي. هذه الحقيقة قد لا تعجب البعض، لكنها الحقيقة. يقول لقد شدني الأدب العبري من خلال شعراء يهود قرأت لهم مثل: يودا عميخاي، وليئا غولبرغ، ونتان زاخ. شدتني قصائدهم الجميلة بأسلوبها الحر والواسع، وانسانيتها المتدفقة وشدتني الروايات.ولذلك فكبري المكتبات الأسرائيلية مثل عام عوفيد ومكتبة معاريف ومكتبة بوعليم تقوم بالاتفاق مع الأدباء العرب الذين يكتبون بالعبرية علي إصدار إنتاجهم وتوزيعه على نطاق واسع.
العبرية أسرع تطوراً
من ناحيته يري الكاتب الفلسطيني نبيل عودة أن الخشية من الأدب العبري لا مبرر لها مطلقا، لأن اللغة العبرية - كما أكد للقاهرة - أسرع تطورا وأكثر قدرة علي تفهم اللغات الأخري، الترجمة من الانكليزية الي العبرية أسهل بكثير من الترجمة من الانجليزية الي العربية، الي جانب ان تطور اللغة العبرية في المائة سنة الاخيرة تجاوز تطور اللغة العربية ولكنني اضيف أني كمواطن في اسرائيل،اجد سهولة اكبر في استعمال اللغة العبرية في كل ما يتعلق بالعلوم والتقنية واصطلاحات العمل.. واريد ان اذكر أمرا مهماً ومعبرا.. حاولت قراءة كتاب الاستشراق لادوارد سعيد بالعربية، وترجمه كما أذكر البروفسور كمال ابوديب.. فعجزت عن فهم لغة المترجم، ولحسن حظي وجدت ترجمة عبرية رائعة للكتاب، واضحة ودقيقة. نفس المشكلة واجهتني مع الثقافة والامبريالية لنفس المترجم.. فهل يتوقع أحد ان يجد قراء عرب لهذه اللغة غير الميسرة؟! هل يتوقع أحد أن يؤثر الفكر المتنور لادوارد سعيد علي المجتمعات العربية بلغة من الصعب أن يفهمها حتي المثقفون laquo;كذاraquo; العرب؟؟

شعراء يهود يكتبون بالعربية
من المسائل المحيرة حقا، إصرار بعض الكتاب اليهود الإسرائيليين علي الكتابة بالعربية، حتي من منطق نشر الفكر والثقافة، فالقارئ العربي في فلسطين شيء نادر فعلا، ورغم ذلك فهناك شعراء كثيرون عاشوا وماتوا وهم يكتبون بالعربية ومنهم أنور شاؤل ومير بصري ومراد ميخائيل وإبراهيم عوبيديا واسحق بار-موشيه والبروفيسور دافيد صيمح وجمعهم من الراحلين وفي ذمة الله، ماتوا حزنا ولوعة لعدم استطاعتهم زيارة العراق- والتعبير للدكتور شموئيل موريه -، ومن الأحياء: زكي أهرون و مراد العماري، و سليم شعشوع وزوجته، يحزقيل مراد وجاد بن مئير والياهو منصور شموئيل موريه.. وهناك شعراء كتبوا بالعربية ثم هجروها للعبرية بعد هجرتهم للعراق أو مصر أو الوطن الأصلي أيا كان من هؤلاء الشاعر سالم الكاتب شالوم كتّاب الذي انتقل من الكتابة باللغة العربية بعد نشره لديوان مواكب الحرمان في بيروت 1949، ووشوشات الفجر تل- أبيب 1959 ثم،تحول إلي اللغة العبرية ونشرعدة دواوين بها، تحدث فيها بأسي عن ماضيه في العراق وطفولته الضائعة وحاضره في إسرائيل.وهناك الشاعرة ليليان التي ولدت في بغداد لعائلة دبي البغدادية المعروفة وكان والدها من أطباء بغداد المعروفين في الأربعينات من القرن الماضي. وبعد هجرتها 1951 وهي في التاسعة من العمر، درست الأدبين العبري والعربي ونشرت عدة كتب ومقالات باللغة العبرية عن الشعر العبري الحديث، وحاضرت عنه في جامعات أوروبية وإسرائيلية مختلفة، ثم تفرغت لدراسة الأدب العربي الذي كتبه أدباء من يهود العراق وخاصة أدب القصاص يعقوب بلبول الذي حرر مجلة غرفة تجارة بغداد، خلفا للشاعر مير بصري، وأدب الكاتب الراحل سمير نقاش. وقد أهدت ديوانها الجديد علي الأنهار وعلي البحار، إلي أنهار طفولتها تقول الشاعرة:
وُلدتُ في وادي الرافدين
وقطفتُ في بساتينها نرجسا وياسمينا
والآن أمام البحر يكسو الملح شفتيّ اليابستين
أطأ الرمال بقدمي الحافيتين
أشق الأمواج بجرأة
فعن شمالي ويميني
ضفاف تلك الأنهار التي ترافقني دائما
بمياهها العذبة الفرات.
تصوف يهودي!!!
ولعلك لا تصدق وأنت تقرأ لشاعر يهودي قوله:
أيدت أحرار العراق مناصرا وسرت بركب الوعي والنهضة الهادي
هناك ملايين تكدّ جياعها وتكد مرضاها لخدمة أفرا د
ما فرق الجلاد بين مسلم وبين سواه من يهود وأكراد
إنه الشاعر العراقي الكبير إبراهيم عوبيديا 1934- 2007 والذي ترك دواوين غزيرة جميعها كتبت بالعربية، فقد نشر 15 كتابا منها 11 ديوانا شعريا جميعها نظمت باللغة العربية الفصحي مثل خفقات قلب وابل وطل في سكون الليل زهرة في خريف أخي! ستشرق الشمس أغنيات عراقية فضلا عن مساهماته كواحد من كبار المطربين، ويبدو ولع عوبيديا بالعراق دائما قائما لا يفارقه، وهو ما يشير إلي قضية التسقيط التي مارستها السلطات العراقية ضد هؤلاء المواطنين، مما اضطرهم لمغادرة وطنهم، كان عوبيديا من قوي اليسار في العراق ثم في غير العراق، لكنه ظل علي عشقه الصادق لوطنه، بل ظل شغوفا بلغته بل باللهجة العراقية، وكان يري في العبرية لغة بها ميوعة التحضر، ولذا لم يكتب شعره بها مطلقا، رغم دقة موقف هؤلاء الشرقيين الذين كانوا مطالبين بإثبات ولائهم للدولة الوليدة، وإثبات تخليهم عن عروبيتهم السابقة، ورغم كل هذه الضغوط قاوم بعض الأدباء، وكان آخر ما كتبه الشاعر، قصيدة تفيض صوفية وروحانية غريبة حقا:
نَجّـني يا ربّ ممّا أنـا فِـيه واشفِني يا ربّ مما اشـتـكـيه
حيرتـني حالـتي مما أعـاني وكـأني ضعـتُ يا ربّ بتـيـه
سـيدي أنت ومـولاي إلـهي ليـسَ لي إلا كَ ربٌ أرتجـيـه
قل جاء العراقيان
يروي الدكتور عبد الإله الصايغ حادثة ذات دلالة قائلا: حالفني الحظ بأن أكون عام 1969 ضمن الوفد العراقي لإتحاد الأدباء العرب برياسة شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري وكان ضمن وفدنا الشاعر العراقي اليهودي الكبير أنور شاؤول ابن الحلة البار! وقد ربطتني به صداقة حميمة فكنا نجلس معا ونخرج معا وقد علق احد الخبثاء حين رآنا معا جاء اليهوديان! فقال له انور شاؤول بل قل جاء العراقيان! ولد شاؤول في مدينة الحلة العراقية في 13 ديسمبر 1904م وانتقل للحلة، ثم انتقل الي بغداد واشتغل معلما في المدارس الاهلية ودخل كلية الحقوق العراقية وتخرج فيها سنة 1931 وكان وطنيا غيورا أسهم في التظاهرات وألقي شعره الوطني بين جماهير كلية الحقوق! وحين صدر قانون الدفاع الوطني سنة 1934 وادخل خريجو المدارس العالية في دورات ضباط الاحتياط سنة 1939 كان الشاعر المحامي أنور شاؤول في دفعة تلك السنة وقد كان فخورا بملابسه العسكرية العراقية، ومن شعره العروبي نقرأ:
قلبي بحب بني العروبة يخفقُ وفمي بضادهمو يشيد وينطق
أولستُ منهم منبتاً وأرومةً قد ضمنا الماضي البعيد الأوثق
إذ خطَّ في سفر الوفاء سموأل أمثولة عربيةٌ والأبلق
واليوم نحو المجد نقطع دربنا وإلي الغد الهاني معا نتشوَّق
ورغم هذه العروبية البيّنة في شعره، فقد طارده حزب البعث العراقي واعتقله مرتين وأسقطوا عنه الجنسية العراقية، مما اضطره لترك العراق إلي إنجلتراعام 1971م، فأقام فيها وحيدا، ثم اضطر للاتجاه إلي إسرائيل، ولم يعش بها طويلا إذ توفي في 14ديسمبر 1984م وللشاعر قصائد تدل علي تدفق الوطنية في شعره، حيث لم يهرع كغيره للعبرية، رغم ما تمنحه له من نشر وقراء ومجد، ورغم سوء الظن الذي يعرض نفسه له علي الدوام.. وها هو ينشد نموذجا من الإيمان المطلق المحب، يقول:
إن كنتُ من موسي قبستُ عقيدتي فأنا المُقيمُ بظل دين محمد
وسماحة الإسلام كانت موئلي وبلاغة القرآن كانت موردي
مانال من حبي لأمة أحمد كوني علي دين الكليم تعبُّدي
سأظل ذياك السموأل في الوفا أسَعُدْتُ في بغداد أم لم أسعد

وقد لاحظ الشاعر الجواهري الكبير: مذكرات محمد مهدي الجواهري طبعة دار المنتظر بيروت 1999 ج ص85 وهو يتحدث عن حكم الإعدام الذي نفذ بقادة شيوعيين في اربعينات القرن العشرين كما كانت أخشاب المشانق الأربعة واليابسة علي اطراف بغداد شاخصة وخزيانة في وقت واحد لا لمجرد انها حملت أوزار الأنفاس الأخيرة لشهداء أربعة بل لأنها كانت تحمل الي ذلك رمزا آخر، فواحد منهم كان شيعيا وآخر كان سنيا وثالث مسيحيا ورابع يهوديا