نسرين عجب: ضجة، صراخ، معلمة تدخل مسرعة. quot;ما عدت قادرة على تحمل ريان، ما هذا الصبي؟ رمى بحقيبته في وجهي صارخاً: لا أريد أن أتعلمquot;، تقول المعلمة غاضبة. quot;الكل يشكي منه، انه صبي متمردquot;، يجيب أمين السر الذي عمت الفوضى مكتبه، ويصرخ بصوت يثير الرعب quot;ريانquot;، ويشرع بتأنيبه. والمفاجأة أن الصبي لم يكترث لأي مما قاله.
وعلى هذا النسق وغيره من الحالات، تضم المدارس الداخلية عدداً كبيراً من الأولاد الذين يعيشون حالات اجتماعية صعبة. منهم من شردهم طلاق أهلهم أو سفرهم أو منيوا بمصيبة اليتم وآخرين رمى بهم الفقر المدقع خارج دائرة الحياة الطبيعية.
واذا كان الحجر في احدى المدارس الداخلية اللبنانية يوحي بالرفاهية، فللبشر داخله قصة يطول سردها. وهناك يعيش عدد كبير من الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين الخمس سنوات والعشرين سنة، وتتولى وزارة الشؤون الاجتماعية اعانة 85 في المئة منهم، حالتهم الاجتماعية صعبة، فيما يدفع المتيسرين مادياً أقساطاً رمزية.
الأهل

وجود الطلاب في الداخلي لا يعني انقاطاعهم عن أهلهم، فمعظمهم يقضي عطلة نهاية الاسبوع في المنزل، وكل شهر تعقد الادارة اجتماعاً للأهل لمناقشة أوضاع أولادهم ومشاكلهم، وقسم كبير منهم يزور أولاده أو يتصل بهم، ولكن بعض الأهل يتخلون عن مسؤولياتهم. ويثير ذلك غضب احدى المعلمات التي تعلق آسفة: quot;يبدو أن بعض الأهل ينسون أولادهم فلا يسألون عنهمquot;. وتضيف بانفعال : quot;أحد الطلاب لم يأت أحد لاصطحابه الاسبوع الفائتquot;.
اهمال الأهل يخلف حزناً كبيراً في قلوب الطلاب، ويقول أمين بحسرة: quot;أمي لا تهتم ولا تسأل عني أبداً، مع أنها قريبة من المدرسةquot;. وفي بعض الأحيان يتعدى الأمر الحزن الى العقد النفسية التي تجعل من الطلاب عدائيين وتتسبب في طردهم. هذا عدا عن الشعور بفقدان العاطفة، فالمدرسة الداخلية تؤمن للطلاب حاجياتهم ويهتم بهم المسؤولون ويستمعون الى شكاويهم، ولكن من يعوضهم حنان الأهل؟
quot;أكره أميquot;، يقول سامر غاضباً، ويقطب جبينه ويضيف: quot;تركتنا وكانت أختي الصغيرة عمرها ستة أشهرquot;.
وتخالفه الرأي داليا (17 عاماً)، فهي يتيمة الأب وتتحسر لبعدها عن أمها، فتنهد وتقول: quot;لا أحتمل بعدها عني ولكن وضعنا الاقتصادي صعب وليس لدي خيار سوى البقاء في المدرسة الداخليةquot;.

الحياة في الداخل

بنى الطلاب مع بعضهم البعض علاقات وطيدة وبات من الصعب عليهم الافتراق. ويقول سعيد (14 عاماً): quot;أشتاق اليهم كثيراً، واذا تركت المدرسة سأعود لأراهمquot;. وتؤيده خلود: quot;نشبه بعضنا في المشاكل فوجودهم قربي يعطيني القوة، فهم ينصحوني ويهونون عليّ مأساتي مع أهليquot;.

ومشاكل الطلاب من طلاق الأهل واليتم وغيرها من المصائب التي اقتحمت حياتهم، تؤثر على انتاجيتهم. وتشرح ناتالي (15 عاماً): quot;لا أستيطع التركيز على دروسي، فكل الوقت أفكر بأهلي. أبي عاطل عن العمل ومقامر، وأمي تعمل لتعيشناquot;. ولا يوافقها الرأي بهاء : quot;أنا سعيد في المدرسة، وترتبيي جيد في الصف، أهلي تطلقا عندما كنت طفلاً، لا أعرف أبي ولكن أمي تزورني باستمرار وتهتم بي كثيراًquot;.

خلال تواجدهم في المدرسة، يحاول الطلاب تناسي مشاكلهم، ولكن ما أن يعودوا الى منازلهم حتى يستيقظوا على الحقيقة. وبدمعة بريئة تقول ليا: quot;على الأقل في الداخلي نأكل، أما في المنزل فقد لا يكون هناك لقمة نأكلهاquot;. ووجودهم في المدرسة الداخلية لا يشكل فقط مأوى لهم، فتجربة لا تقل عن أربع سنوات علمتهم أشياء كثيرة، أهمها احترام النظام. ويعتبر سامر أن المدرسة الداخلية علمته التهذيب واحترام الآخرين. فيما تعترف خلود أنها أصبحت أكثر ثقة بنفسها وأكثر عزماً وتصميماً على تغيير نمط حياتها وحياة أهلها.

بعد كل السنوات التي قضوها في المدرسة الداخلية، لا بد أن يأتي اليوم الذي يغادروها فيه وينطلقوا في حياتهم. وعند سؤالهم عما لن ينسوه مدى الحياة، يجمعون على أن للمدرسة الداخلية فضلاً كبيراً عليهم اذ كانت الملجأ الوحيد الذي أواهم في الوقت الذي تخلى عنهم أهلهم أو ضاقت الحياة في وجههم. وبالرغم من الأوضاع الصعبة التي تسيطر على حياتهم يبقى أملهم بالغد كبيراً، وكل منهم متفائل بتحقيق أحلامه. فسامر مثلاً يطمح أن يصبح طبيباً، وبهاء محامياً، وخلود مربية.
في المحصلة، يختلف اسم المدرسة الداخلية، ولكن لا يختلف كثيراً حال من أكرهته الحياة على ارتيادها. واذا كان أبناؤها راضخين للمصير الذي تقرر لهم، فمن يحصّل حقهم الطبيعي كأطفال؟ كيفما كان الجواب، يبدو أنه دائماً الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون.