نسرين عجب من بيروت: لبنان، رحم تميّز بتخريج أسماء إعلامية بارزة تترك بصمة برّاقة أينما تحل. وكلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية هي أبرز رحم يترعرع فيه الجنين الصحافي، فعبرها مرت أعداد من الأسماء التي لمعت في سماء الإعلام.

على الرغم من كل التآكلات والانهيارات التي نالت من مبنى الكلية القديم في بئر حسن، يبقى له موقعًا مميزًا في قلوب طلاب تركوه قبل أن تتركه الجامعة. أربع سنوات قضوها فيه قبل أن يتخرجوا في مهنة البحث عن المتاعب. وقد يكون قرار نقل الفرع الى الأونيسكو أكثر ما أيقظ في الطلاب الحنين.

لم يتغير مكان الزقاق المؤدي الى الجامعة، ولكنه يفتقد لعجقة الطلاب... والبوابة السوداء التي أكل الزمن الكثير من لونها ما زالت في مكانها أيضًا، ولكن تركها الدركي الذي كان يتفحص بطاقات الطلاب، خصوصًا اثناء الانتخابات أو المشاكل بين المتحزبين.

المكان أصبح خاليًا، وساده السكون... غاب الطلاب عن أحواض الزهور على مدخل الجامعة والتي كانوا يجدون فيها مكانًا محببًا للجلوس، فموقعها استراتيجي تسمح لهم بمراقبة الداخلين والخارجين من دون أن تفوتهم دردشات الرفاق.
الملعب أيضًا رحل عنه زواره وارتاحت نقابة المهندسين، أقرب الجيران، من ضجة الطلاب الذين كانوا يجدون في الملعب متنفسًا، فذلك الملعب الصغير بحجمه له قيمة كبيرة عند الطلاب، إذ كانوا يقيمون فيه مباريات كرة القدم، ويلتقي هواة كرة السلة في إحدى زوياه.

على الجهة اليسارية تظهر تلك القاعة المشهورة فارغة، تلك القاعة المميزة عند الطلاب على الرغم من أن لا شيء يميزها، لا شكلها ولا تصميمها ولا الطاولات والكراسي الموجودة فيها، ولكنها كانت من الأماكن العزيزة حتى أن البعض من كثر ما كانوا يرتادونها، ارتبطت اختصاصاتهم باسمها وأطلق عليهم متخصصين كافيتيريولوجي. وكانت تلك الزاوية شريكة المقاعد الخشبية المتهالكة الموجودة في الملعب، في استضافة المتحابين الذين أثمرت الجامعة في حياتهم استقرارًا عاطفيًا ودخلوا القفص الزوجي بحب عرفوه أيام الدراسة.

هذه كانت الحضن الذي يقع فيه مبنى الجامعة المؤلف من 11 طابق، وكان الطلاب يشعرون بأنهم قد يفقدون القدرة على التنفس قبل أن يصلوا الى صفوفهم في تلك الطوابق المتهالكة، خصوصًا أن المصاعد صغيرة وكثيراً ما كانت تتعطل.
عن الطريق الى الطابق الأول، غابت أيضاً أم حسن التي فقدت زوجها أثناء الحرب ووجدت في الجامعة مأوى لها، وغابت معها روائح قاعة الندوات.

كما أن الطابق الرابع لم يعد يقوم بوظيفته، كدائرة النفوس للاختصاص الجامعي، بعد أن فقد صفته كمكاتب لشؤون الطلاب والتي كانت تغص فيهم في أوقات التسجيل. وغاب الأساتذة عن غرفتهم في الطابق الخامس، والتي كانت تتحول الى خلية نحل قبل الامتحانات، فمن لديه أسئلة أو يحتاج الى مزيد من التنسيق مع الاستاذ المشرف على مشروع تخرجه يقصد الطابق الخامس. ورحل الطلاب عن صفوفهم في الطوابق الباقية، تاركين بصماتهم وحاملين ذكرياتهم.

هجر الطلاب الأدراج التي توصل الطوابق ببعضها البعض، وأفقدوها وظيفة المضيف بعد أن كانوا يجدون فيها مكانًا مريحًا للمراجعة للامتحانات، وكأنه سيحل عليهم الوحي، أو ينقل لهم الأثير ذبذبات الأسئلة من الادارة.

كل شيء أصبح خاليًا، واحتل السكون المكان، ومع أن مبنى الكلية في بئر حسن لا يميزه أي شيء من ناحية البناء، على العكس فتهالك قوامه كان يشكل خطرًا على مرتاديه في كثير من الأحيان، ولكن لذلك المبنى زاوية خاصة في القلوب.. أربع سنوات مرت على الطلاب فيه، مرت خلالها أوقات طيبة وأوقات سيئة، ولكن عندما تجتاحهم الذكريات لا تحمل معها الا أجمل اللحظات.