نسرين عجب من بيروت: quot;بفارغ الصبر انتظرت لحظة عودتي الى لبنان. أقلقتني الأوضاع من ألا أتمكن من المجيء. كنت مشتاقة للكل ولكن أكثر لأمي. وكلما تأخرت طائرتي ساعة كنت أشعر أني سأجن لمجرد التفكير أن وقت اجازتي يمر ولم أصل لرؤية أمي بعد غيابي لأكثر من سنتينquot;. هكذا عبرت سلام المغتربة في أميركا عن جزء مما تعني لها أمها. أما نادر المغترب في قطر وتمر والدته في أزمة صحية خطرة: quot;أمي هي أملي في الحياة، سوف أزور لبنان كل اسبوع للاطمئنان إلى صحتها، ولكن اذا خسرتها لن أزور لبنان ثانيةquot;. هذه العاطفة من الأبناء تجاه أمهم ما هي الا جزء يسير من عاطفة هذة المخلوقة العظيمة. ولربما من أروع ما قيل في الأم ما قاله الأخطل الصغير (بشارة الخوري):

أغــرى امـرؤ يـــوما غــلاما جـاهلا********* بـنـقـوده حـتـى يـنـال بــه الـوطـرْ
قــال أتـنـي بـفـؤاد أمــك يــا فـتـى*********ولــك الـدراهم والـجواهر والـدررْ
فـمـضى وأغــمـد خنجرا في صـدرها********* والـقلب أخـرجه وعـاد عـلى الأثرْ
لـكـنـه مــن فــرط دهــشته هــوى********* فـتـعـفّر الـقـلـب الـمـعـفر إذ عـثرْ
نــاداه قـلــب الأم: يــا ولـدي حــبي*********هـــل أصـابـك مــن ضــررْ
فـكـأن هــذا الـصـوت رغـم حــنـوهِ*********غضب السماء به على الولد انهمرْ
فـاسـتـل خـنـجــره لـيـطــعن نـفـسهُ********* طـعـنا لـيـبقى عـبـرة لـمـن اعـتبرْ
نـــاداه قـــلـب الأم: كـــف يـــدًا ولا*********تـطعن فـؤادي مـرتين عـلى الأثـرْ
كيف هي الحياة بلا أم؟ سؤال قلّما يخطر في بال من يعيش في حضن أمه، الا في لحظات يشعر فيها أنه قد يفقدها. الأم التي قيل فيها: quot;يظلُ الرجل طفلاً، حتى تموت أمه، فإذا ماتت شاخ فجأةquot;. فكم من الشباب يشيخون يومياً مع الحياة التي تحرمهم أمهاتهم، وفي كثير من الأحيان في سن مبكرة.
فادي فقد أمه وهو في الخامسة عشرة من عمره، والدموع التي كان يذرفها وهو صغير نتيجة قسوتها في تربيته، أصبحت أكثر مرارة وهو ابن الثلاثين كلما يأتي أحد على ذكرها. quot;عندما كنت صغيراً كانت تقسو عليّ وتؤنبني كثيراً على أخطائي، ما كان يزيد من تمردي عليها. ولكن بعد أن فقدتها تمنيت لو أنها قست عليّ أكثر ولكن بقيت على قيد الحياةquot;. وبملامحه الرجولية القاسية يقول والدمعة في عينيه: quot;عيد الأم يوقظ فيّ الشعور باليتم، وفيما كل الناس يعيدونه مع أمهاتهم فأنا، ورغم مرور سنين على وفاتها، أقضي معظمه بالبكاء لأني كل يوم أشعر بالحاجة اليها أكثرquot;.
أما ناتالي تتحضر لزفافها والغصة تخنقها بعد أن خطف مرض السرطان والدتها في سن مبكرة. وتخرج الكلمات من بين شفتيها متقطعة من فرط الدموع: quot;سعادتي ناقصة لأن أمي ليست الى جانبي في أهم يوم في حياتي. أحتاجها كثيراً وأفتقدها أكثرquot;.
وفي الوقت الذي حرم اليتم فادي وناتالي من والدتهما، فأم سارة تخلت عن أمومتها ودورها في حياة أولادها الثلاثة، لتكتمل مأساتهم بعد وفاة والدهم وهم أطفال. واذا كان فادي يتذكر والدته بغصة وشوق، فسارة ترفض أن تتحدث عنها أو تأتي على ذكرها. وبكثير من الغضب تقول: quot;تركتنا ونحن في أمس الحاجة اليها، والآن بعد أن رسمنا طريقنا في الحياة تريد أن ترانا وتعود الينا، ولكننا ما عدنا نريدها أو نحتاج اليهاquot;. قد تكون القسوة التي تتحدث فيها سارة عن والدتها تعكس رفضاً قاطعاً لعودتها الى حياتهم، الا أنها لا تستطيع اخفاء دمعة الحسرة للحاجة الى أم. وهذه الدمعة عززتها سلسلة من المصائب التي حلت بسارة، الكبيرة بين اخوتها، خصوصاً بعد أن فقدت أختها في حادث سير مروع.
في المحصلة، يبدو أن المرء لا يعرف قيمة الآخرين الا بعد أن يفقدهم. وقد يكون أكثر من يقدر قيمة الأم من حرم منها، فلم يخطئ من قال quot;الدني أمquot;.