فصول من كتاب سوف يطبع قريبا

في نظام اللغة
المعنى النووي:

في البداية نحاول استجلاء المادة في تضاعيف الملحمة اللغوية، هناك نجتهد لاكتشاف المعنى على مستوى عطاءه اللغوي المباشر، نتعامل مع القاموس التقليدي، مع الاستعمال الخام، الاستعمال الذي لا يستمر على نقائه الأول بطبيعة الحال، بل يتلوث بما يطرأ عليه من فيض الزمن، فيغدو تاريخا، وليس بالتاريخ الذي يعلن نهاية المطاف في لحظةٍ ما، بل تاريخ مفتوح، منشرح الصدر لما يرده من جديد، يلطخ عار البراءة الأولى بغنى الحياة، وتجارب البشر، ومغامرة الفكر، ينفي النقاء الأول، لأنه مجرد خرافة.
بكارة اللغة عار، يجب تنحيته من صلب الحياة، فالحياة لا تسمح للطهر اللغوي أن يقتحم ساحتها، ولا هي مستعدة لتتحول إلى خامة بيضاء، تلك أسطورة.
لنلقي أولاً نظرة مسبقة على الأصل، منه ننطلق، ومنه نشتق، نتتبع مسيرة التلوث، فالكلمة عالم مباح مستباح، تبعث به مسيرة الحضارة، تبعث في شرفه الساذج، ذلك الشرف الذي لا قيمة له، فهو شرف أجوف، تماماً كشرف الورقة البيضاء.
يقول في القاموس المحيط (كفر، يكفر، مصدر، كفَّر الشيء: ستره، غطَّاه... كفر الليل الحقول: غَطَّاها بظلمته وسواده... كفر الجهل على علمه: غَطَّاه).
جاء في لسان العرب (وأصل الكفر تغطية الشيء تغطيةً تستهلكه، وقال الليث إنما سُمِّي الكافر كافراً لأن الكفر غطى قلبه كله، قال الأزهري: ومعنى قول الليث هذا يحتاج إلى بيان يدل عليه، وإيضاحه أ ن الكفر في اللغة التغطية، و الكافر ذو كفر أي ذو تغطية لقلبه بكفره، كما يقال للابس السلاح كافر، وهو الذي غطَّاه السلاح، ومثله كاس، أي ذو كسوة... وفيه قول آخر أحسن مما ذهب إليه، وذلك أن الكافر لما دعاه ا لله إلى توحيده، فقد دعاه إلى توحيده إلى نعمه، وأحبها إليه، إذ أجابه إلى ما دعاه إليه، فلم أبى ما دعاه إليه من توحيده كان كافرا نعمة الله أي مغطيا لها بإبائه حاجبا لها عنه...).
مادة (ك، ف، ر) نظام مركب من عدة مقتربات أو عناصر، الأول وجود شيء أ و ظاهرة، أو حدث، كأن يكون إنسانا، أو جبلا، أو عقيدة، أو خبرا... ثم هناك عملية تغطية على هذا الشيء، ومن الطبيعي لا تتم التغطية بدون غطاء، هذا الغطاء هو الأخر لا حصر له، ثم هناك من يتولى أو يكون سببا في هذه التغطية، سبباً فاعلا.
لقد سمي الفلاح كافرا، وذلك لأنه يغرز البذرة في التربة، يستر البذرة في التربة، ومن هنا كان معنى ا لكفر (السَّتر) كما في بعض المعاجم (كفر الشيء:ستره...)، فهناك شيء تعرّض للتغطية، للإخفاء، هذا الشيء هو البذرة، ومن ثم هناك ساتر، مُغطِّي، أي الذي يتولى عملية التغطية، وهو هنا الفلاح، وأخيراً هناك مادة السَّتر التي تخفي البذرة، وهو هنا التراب.
جاء في مفردات الأصفهاني (كفر: الكفر في اللغة سترُ الشيء، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزراع لستره البذر في الأرض...).
الليل كافر، لأنه يغطي على الأجساد، يغطيها بظلامه، كما يغطي الزّراع البذرة بالتراب، أو في الأرض، الليل يستر الأجساد بظلمته وسواده.
قال في مقياس اللغة (الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو السَّتر والتغطية، يقال لمن غطَّى درعه بثوب قد كفر درعه، والمُكَّفر الرَّجل ا لمتغطِّي بسلاحه...)، فهذا المكَّفر رجل قد غطى السلاح جسده، أي عندنا جسد، وسلاح، وتغطية، الجسد هو المغطَّى، والسلاح هو المُغطِّي، وهناك من قام بعملية تغطية الجسد، قد يكون هو بالذات، وقد تكون زوجته،وقد يكون صديقه...
في الكفر لا بد من شي نكفر به حسب نظام الكلمة، لا كفر بلا شي نغطيه، نستره، هذا عنصر جوهري في نظام المادة كما هو واضح، هذا المُغطَّى لا يشترط أن يكون ماديا، أي أن يكون جسداً، أو يكون جبلا، قد يكون شيئا معنويا، ومن أمثلته العلم، فالعلم يمكن الكفر به، أي تغطيته، ستره، وكأن يكون الحب، فالحب خاضع للسَّتر والإخفاء، ومثله الحزن، والفرح، والغضب، والسرور... النهر كافر لأنه يغطي على الكثير من الكائنات البشرية وغير البشرية، الحية وغير الحية، يغطي عليها بمائه الغزير، والليل كافر لأنه يغطي الأجساد البشرية، ويغطي الجبل الشاهق، وذلك بظلامه الكثيف، وبسواده الحالك، كذلك الجهل كافر لأنه يغطي العلم، ولست أدري كيف يغطيه هنا، ربما التعبير مجازي، ربما يشير إلى عدم العلم بشي ما، الجهل عدم ملكة فكيف يغطي الملكة؟ هل تعني هنا الإزاحة مثلا؟ ليس هناك علم حتى يزيحه الجهل، ولكن لا ضير، لأن الأصل عندنا هو نظام الكلمة، حيث هناك ثلاث عناصر على أقل تقدير، العلم، الجهل، المسبب لهذا الجهل الذي مارس عملية الإخفاء هذه. ربما ا لجهل يمارس التغطية بنفسه، كذلك الظلام، وبالتالي قد يقتضي نظام الكلمة عنصرين فقط، ليس هنا وقت معالجة هذه المسألة، ولكن لنمضي حقيقة مهمة، أ ن الكفر يستدعي أمراً ما نكفر به، نخفيه، نستره، نغطي عليه.
لا كفر بلا شي، بلا صفة، بلا ظاهرة، بلا معنى. ولا كفر بلا ساتر، بلا مُغطِّي، بلا مُخفِي. ولا كفر بلا مادّة تغطية...
يقول لسان العرب (... وأصل الكفر تغطية الشيء تغطية ً حتى تستهلكه).
من الإشارة الأخيرة نستفيد أن التغطية يجب أ ن تشمل المُغطَّى كله، فالبحر كافر بسبب تغطيته تلك المحتويات التي تحت مائه بشكل كامل، والليل كافر لتغطيته هذا الجبل أو ذاك تغطية كلية بظلامه وسواده الكثيفين، والجهل كافر بتغطيته تغطية شاملة للعلم، فهناك أخفاء لكل جوانب المُغطى،وهذا يقربه من معنى المواراة التي هي إخفاء كامل للشيء، لكل جوانبه، لكل ما يظهر منه. هذه نقطة، والأخرى أن هذه التغطية لا يشترط فيها الوعي، و الإصرار، والفهم، كما هو واضح من الأمثلة المساقة، فالكفر هو هذا السَّتر الذي شمل هذا المُغطَّى من كل جوانبه، بصرف النظر عن المسئول عن العملية، عاقل أو غير عاقل.
أن الكلمة لا تختص بالمحسوس، بالمادي، بالمجسد، بل تشمل المادي والمعنوي، سواء على صعيد الشيء المعرَّض للتغطية، أو المُغطِّي، أو مادة التغطية.

باقة من الاستعمالات
تستعمل المادة بمعنى (جحد)، ففي ا لمعاجم (والكفرُ جحود النعمة... وكفر بها: جحدها وسترها ـ أي النعمة ـ وكافره حقَّه: جحده...) وفي اللسان [ جحد يجحد وجحوداً: الأمر به: أنكره مع علمه به (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم).
لا شك هناك تلاقي بين الكفر والجحود هنا، فأن الكفر تغطية، والجحود هو الآخر تغطية، ولكنها تغطية تتقوم بالإنكار، مع علم سابق (جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)، فهم أنكروا الحقيقة مع إيمانهم الداخلي بها، فقد جاء في مصباح اللغة (جحده حقَّه بحقه جحداً وجحوداً: أنكره، وهو لا يكون إلاّ على علم من الجاحد به)، وفي صحاح اللغة (الجحود: الإنكار مع العلم...).
إذن من استعمالات المادة التي نحن في موضوعها هو الجحود، أي ألإنكار، ومن هنا يدخل الكفر في حومة الجحود، من زاوية الإنكار، فإنه نوع من أنواع التغطية، الإخفاء، المواراة، ولكن عن علم، وعن قصد، وعن إرادة (إذ كانوا يجحدون بآيات الله...)، أي ينكرونها، إما كونها غير موجودة، أو كونها ليست آيات، فهناك إنكار ما لها، وبالتالي، هناك تغطية، أخفاء، مواراة. ولكن هناك من يسرِّي الجحود إلى الطبيعة، ففي المعاجم (جحد النبت: إذا قل ولم يطل... أصل يدل على قلّة الخير...)، وهذا إنكار طبيعي، تكويني، فكأن الأصل العطاء، الأصل أن تجود الطبيعة! وهو تعسف في تصوري، وفي هذا الاستعمال تنصرف المادة إلى ما يتصل بالطبيعة من عطاء وحركة، وليس له علاقة بالإنكار الذي هو عن علم ووعي وقصد وربما عناد.
تطلق المادة ويراد بها أيضا العصيان والامتناع (ويقال لأهل دار الحرب: قد كفروا، أي عصوا وامتنعوا)، وهما ينطويان على شي من السَّتر والتغطية، فكأنهم بعصيانهم غطوا أوامر الله تعالى. وفي قوله تعالى (أني كفرت بما أشركتمون) أي بريء، تبرأت... فمن معاني الكفر البراءة...
وقد أطلق الكفر على المطر والتراب والنهر، لكون كل منها يستر ما تحته، وفي نفس السياق يطلق الكفر ويراد به القير، لكونه تُطلى به السفن، وفي اللسان (وكل ما غطى شيئا فقد كفره)...

مقارنات نظيرة
تقترن المادة المذكورة بكثير من المواد اللغوية، ومنها (الحجب، الحجر، الكتمان، التغطية، المواراة، الإخفاء، الحجر...).
الحجاب السّتر، لكونه يمنع من المشاهدة، ومن هنا قيل للبواب حاجب، لأنه يمنع من الدخول، وهو قد يكون ماديا كالحائط الذي يحجب بين شخصين، وقد يكون معنويا كالمعتقد والأخلاق والعادات (ومن بيننا وبينك حجاب)، فهو أشبه بالمانع أو الحائل، فلا يشرط هنا التغطية كما هو واضح.
أما الحجر فهو يتصل بالتحديد، لحفظه أو لمنعه من الاتصال بالأخر، أو لمنع الآخر الاتصال به، هناك حدود مضروبة على المحجور، وهو غير التغطية بطبيعة الحال.
الكتمان هو نوع أخفاء، ويبدو أن المادة تتعلق بالضمائر والسرائر... والمواراة تغطية شمولية، من كل الجوانب، بحيث لا يرى من المُوارى شيئا.

السؤال الكبير!
الكفر والإنكار

هناك من ينكر وجود الله تعالى، يقول أن الله غير موجود، ومنهم من ينكر نبوة الرسالة المحمدية،أي يدعي أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس نبيا، وهناك من ينكر يوم الميعاد، ينفي يوم الحشر والنشر، مهما كانت صورتها، وهناك من ينكر أن القرآن الكريم معجزة...
هذه الألوان من الإنكار أو النفي تسمى في الفكر الديني الإسلامي العام بـ (الكفر)، فمن ينكر الوجود الرباني أو ينفيه هو كافر، ومن ينكر أو ينفي المصدرية الإلهية للقرآن فهو كافر...
قال في المفردات (وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو الشريعة أو النبوة...)، وفي تصوري أن الجحود هنا تعبير عن الإنكار، نكر بمعنى نفى، نكر وجود الله، أي نفى وجوده، قال أنه تعالى غير موجود، فهؤلاء قالوا (لا رب، ولا نبوة، ولا معاد، و لا شريعة...)، أي هناك نفي، حيث أساوق هنا بين النفي و الإنكار رغم بعض المفارقات اللغوية.
هل الكفر بالله يعني إنكاره؟
هل الكفر بالتوحيد يعني إنكاره؟
هل الكفر بالنبوة المحمديِّة يعني إنكار نبوة النبي العربي صلى الله عليه وآله وسلم؟
يبدو السؤال غريب هنا، ولكن المسالة في غاية الدقة، ويجب تفكيك المفردات بالتفصيل، لأن السرد السابق يفيد أن هناك تساوقاً كليا، تطابقاً تاما بين الكفر والإنكار، بطبيعة الحال أتكلم عما نحن فيه، أي الكفر بالمعنى الشرعي.
أن مبعث هذا التساؤل هو طبيعة وحوليات الإنكار، فليس الإنكار حالة واحدة، ولا هو متساوي الظروف والأسباب والحالات، هناك نماذج كثيرة من الإنكار، فكيف نضعها جميعا في إطار واحد هو الكفر؟ أو نساوي بينها وبين الكفر في كل الأحوال والظروف والصورة والصيغ؟ أو ندخلها كلاً وبضربة واحدة تحت عنوان واحد هو الكفر؟

مجموعة صيغ وصور
هناك من ينكر وجود الله، أو النبوة المحمديِّة بسب جهله المُسبق، هو لم يعرف الله، لم يسمع عنه، لم يتجه بسؤال عن هذا خالق الكون، هو يعيش في بلاد مقفرة، بعيد عن الخبر، بعيد عن العالم، فكيف يتسنى له أن يسمع بالرسالة المحمدية، بالنبوة المحمدية؟
في تصوري ليس هنا مجال للحديث عن الإنكار، بل ليس هناك إنكار أبدا، فإن الإنكار ينصب على شي أو عقيدة أو خبر أو حدث هو محل كلام، محل حوار، محل سجال فكري، محل خلاف عقدي، فأي إنكار نتحدث عنه هنا؟ وبالتالي أي كفر نتحدث عنه هنا؟
هناك من ينكر لأن موضوع الطرح العقدي غير تام الدليل، يتعلل المنكر بضعف الدليل، كثيرون ينكرون الإلوهية بحجة الدليل الضعيف، وربما يكون الدليل حقا ضعيفاً، وربما لسوء فهم من قبل المنكر، وربما لأن الطريقة التي تُعرَض بها الدليل واهية، مرتبكة...
ماذا لو كان الإنكار بسبب وهن البرهان، بسب هشاشة العرض، بسبب القلق البادي على الشاهد.
هل هو كفر حقا؟
نتكلم هنا عن الغيب الإلهي مثلا...
هل هو كفر هنا؟
كفر بالمعنى الشرعي أقصد.
الدليل يحمل بين تضاعيفه تناقضا، أو ليس كافيا، أو يصطدم بالعلم، أو يحتوي على خلل منطقي.
فهل عدم الإيمان هنا بموضوعه يعد كفرا؟
هناك من ينكر الإلوهية أو النبوة لأسباب تتعلق بوضعه النفسي والروحي، يعش حالة من الضياع ا لفكري، مأزوم من الداخل، وهناك من ينكر كل شي في هذا الكون بسبب فقره، بسبب الجوع والمرض والحرمان، هناك من ينكر بدعوى أنه وجد الدليل المعاكس أقوى، أقدر على إشباع عقله، يرى فيه أقرب إلى المنطق، أقرب إلى العلم...
أن قضايا الإيمان بالغيب ليس سهلة في هذا الزمن، لقد تعقدت قضية الكون والحياة والروح والغيب في ظل المعادلات الجديدة للفكر والعلم، تحتاج إلى دقة علمية، واطلاع عميق، وأي دين يحوز على راحة الضمير ورضا العقل في ظل هذه الثورة الإعلامية التي تتلاعب في العقول والنفوس والضمائر؟ صورة مرئية واحدة تقلب الموازين كلها، وهل هناك مجال للبحث عما وراء الطبيعة في زحمة هذه الانشغالات الهائلة التي لا تسمح للإنسان أن يراجع شؤونه الشخصية اللصيقة بحياته اليومية، فكيف بقضايا الغيب وشؤونه؟
جدير بالذكر أن المشكلة لا تتعلق فقط بقضية الغيب، بل بقضية البحث عما وراء الطبيعة بشكل كامل، البحث عن إله، ومعرفة هذا الإله، البحث عن دين، والتعمق به من أجل الإيمان، البحث بدعوات موسى وعيسى ومحمد، والغوص في التفاصيل.... ترجيح أزلية المادة على خلقها، مشكلة الشر، القضاء و القدر... هذه المسائل الغيبية لم تعد سهلة، ولم يعد هناك وقت كاف للتعمق فيها ولو إجمالا.
هناك من يبحث صادقا، ويصل إلى أن فلسفة الإله منتفية لديه، لم يجدها مقنعة، لم يكن إنكاره عن رغبة في الإنكار، ولم يكن عن ضغط نفسي، ولم يكن بسبب ثقافته السابقة.... هل هو كافر بالمعنى الشرعي هنا؟ ليس هناك إله حسب ما توصل إليه، فلم يقم بعملية (تغطية) لهذا الإله، فإن مثل هذه العملية سالبة بارتفاع الموضوع لديه. هناك أله، ولكن لم يصل إليه هذا الباحث، فهل مارس عملية التعمية على هذا الإله؟ هل كفر به بالمعنى الشرعي؟
لا يكفي في (التغطية) على الإله وجوده حقيقة، بل يتطلب ذلك وصول المُغطِّيْ إلى هذا الإله، أن يكون حاضراً لديه، أن يكون في ذهنه حقيقة صارخة، أن لا يكون وهما في تصوره، لقد بحث ووصل، فكر ووصل، نظر ووصل، فهناك إله إذن، فإذا أنكر، كان حقاً كافراً بالمعنى الشرعي، حقا قد غطى على (الله)، غطى بعناده، غطى بغروره، غطى بشهواته...
الذي لا يعترف بإله، ولا بنبوة، ولا بمعاد، ولا بروح، وذلك بعد بحث جاد، أو لسبب خارج عن إرادته، ربما كافر بالنظام المجازي، ولكنه ليس كافرا بالمعنى الشرعي.
لا كفر بعد علم بالحقيقة، يعلم بها ثم يجحدها... (جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم).

كلمة ذهبية
قال الشيخ المجدد محمد رضا المظفر رحمه الله (كيف يجوز لهؤلاء النصارى واليهود أن يطمئنوا إلى عقيدتهم، ويركنوا إلى دينهم، قبل أن يفحصوا عن صحة الشريعة اللاحقة لشريعتهم كالشريعة النصرانية بالنسبة لليهود، والشريعة الإسلامية بالنسبة إلى اليهود والنصارى. بل يجب بحسب نظرة العقول أن يفحصوا عن صحة هذه الدعوى اللاحقة، فإن ثبت لهم صحتها انتقلوا في دينهم إليها، وإلا ح لهم في شريعة العقل حينئذ البقاء على دينهم والركون إليه) ــ عقائد الإمامية ص 99 ــ
فإذا صح لدى النصراني ما يعتقد به بعد أن بذل جهداً طيبا، فله البقاء على ما يعتقد، بل ذاك مذهبه الذي يجب أن يكون، وبالتالي، هل هو كافر بالمعنى الشرعي هنا؟
ولكن هل يعلم الشيخ رحمه الله تعالى أن فرص العودة إلى الأديان اليوم لفحصها ودرسها من أجل الوصول إلى الصحيح مسألة تعد في غاية الصعوبة و الحساسية، هناك ما لا يحصى من عوامل وأسباب الصدود عن مثل هذه المحاولة، صعبة، عسيرة، تقف دونها حوائل سياسية وفكرية ومعيشية، فكيف يكون المصير؟
هل أقول أن مصداق الكافر اليوم يعد من المشكلات الكبيرة؟
ترى هل كل المسلمين اليوم يملكون من أسباب القناعة بالإسلام ما يكفي؟
وهل نحن مسلمون إلا َّبسبب الانتماء الوراثي والجغرافي والتاريخي؟
ما هو ذنب من لم يولد في مثل هذه عائلة مسلمة، وفي بلد مسلم؟
يقول الشيخ الكريم (نعم، لو بحث الشخص عن صحة الدين الإسلامي فلم تثبت له صحته، وجب عليه عقلا ــ بمقتضى وجوب المعرفة والنظر ــ أن يبحث عن صحة دين النصرانية، لأنه هو آخر الأديان السابقة على الإسلام، فإن فحص ولم يحصل له اليقين به أيضاً وجب عليه أن ينتقل فيفحص عن آخر الأديان السابقة عليه، وهو دين اليهودية حسب الفرض... وهكذا ينتقل في الفحص، حتى يتم له اليقين بصحة دين من الأديان أو يرفضها جميعا) ص 98.
أي فكر هذا؟
وأي ضمير حر يحمله هذا الشيخ العظيم؟
هل يحق لذلك الذي وجد في قدم المادة الحق أن يعلن عنه ويؤمن به؟
حسب منطق الشيخ الكريم...
نعم!
ما دام قد أفرغ ذمته بعد بحث مخلص؟
ما دام ذلك لم يكن عن هوى، أو عن عناد.
ألا يدعونا ذلك إلى القول، بأن لا كفر بالمعنى الشرعي إلا بعد علم بما كان موضوعاً للكفر؟
ينكر بعد ما تبين له أنه الحق.
ينكر بعد ما كشف الحقيقة...
ينكر وقد بان له الواقع...
هو ينكر الحق والحقيقة و الواقع بعد وضوح وبيان...
إذ ن يستحق عنوان الكفر بالمعنى الشرعي...
هذا الذي أفهمه من كلام الشيخ الكريم....
هذه هي لغة المنطق، فإن الكفر تغطية في جوهره، تغطية على حقيقة معلومة، حقيقة خارجية، فإذا لم تثبت أنها حقيقة لدى الآخر، فهي بمثابة السلب، لا وجود لها، فنفيه لها كفر مجازا، وليس كفراً حقيقة.
يقول تعالى (والله جعل لكم ممِّا خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكنافا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر و سرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلَّكم تُسلمون، فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين، يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون) ــ النحل 81 / 83 ــ
يقول في الميزان (والمعنى: يعرفون نعمة الله بعنوان أنها نعمة منه، ومقتضاه أن يؤمنوا به وبرسوله واليوم الآخر، ويسلموا في العمل،ثم إذا وردوا مورد العمل عملوا بما هو من آثار الإنكار دون المعرفة،وأكثرهم لا يكتفون بمجرَّد الإنكار العملي بل يزيدون عليه بكمال الكفر والعناد عن الحق والجحود والإصرار عليه) 12 / 316.
إنَّهم كفار، ولكن لماذا؟ لأنهم يعرفون الحقيقة، ولكن يعملون طبق الجهل بها من جهة، إضافة على ذلك يدعون بألسنتهم ما يتطابق مع الإنكار!
هذا هو الإنكار الذي يصح أن نسميه كفرا، ونرتب عليه الآثار الشرعية، الكفر بعد المعرفة، هناك معرفة كاملة بحقيقة ما، ولكن هذه المعرفة حُرِمَت حق الاعتراف بها لسانا، ولم تتمتع بحقها من الفاعلية على صعيد الواقع العملي. ترى ماذا سيكون الموقف لو هناك جهل بهذه الحقيقة؟ لو لم يسعف الدليل التعاطي معها كواقع؟ لو كانت الظروف حائلة دون الوصول إليها، دون تفهم الدليل عليها رغم قوته ونصاعته؟
يقول تعالى (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين...) ـ آل عمران آية 86 ــ
جاء في الميزان (... أول الكلام يفيد أن المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحق، وتمام الحجة، فيكون كفراً عن عناد مع الحق، ولجاج مع أهله، وهو البغي بغير الحق، والظلم الذي لا يهدي صاحبه إلى النجاة) ــ 3 / 340 ــ
ولكن ما هي مقاييس الحجة التامة؟
هل هي سطوعها وشدة وضوحها؟
هل هي خلوها من التناقض والتضارب والتضاد؟
هل هي انسجامها مع قواعد المنطق والفكر السليم؟
ثم...
هل ظروف المتلقي الفكرية و النفسية و الحياتية تدخل في صميم كمال الحجة؟
وهل هي حجة حقا في جميع الأحوال؟
هل نضع في الحسبان هنا السياق الفكري والاجتماعي والروحي والحضاري و التاريخي لهذا المتلقي؟

مجالات الكفر في الكتاب الكريم
ما هي مجالات الاستعمال القرآني لمفردة أو مادّة (ك، ف، ر)؟ نعتقد أن الجواب على هذا السؤال مهم للغاية، خاصة في هذه الأيام التي تحول بها تكفير الناس إلى سليقة ليس عليها حساب، ولا عليها رقيب من داخل أو خارج.
ليس هناك كفر كامل بالله تعالى، إذا راجعنا آيات الكتاب الكريم في الإلوهية بالمعنى الذي يجسِّد وجود خالق مبدع لهذا الكون، لم نجد هناك إشارة إلى النفي الكلي لله تعالى، نعم، هناك إشارة إلى فهم مشوه بحق الإلوهية والإله، والقرآن يعالج هذه التشويه بالعرض والنقد والتصحيح. حتى عُباَّد الأصنام، إنما يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى)، وحتى الذين يقولون يهلكنا ا لدهر، هم مؤمنون بالله تعالى بصيغة من الصيغ أو صورة من الصور، ولكن هناك فهم قاصر للإله الحق، تصور خاطئ للإلوهية كما يتبناها النص القرآني الشريف.
ولكن ما هي مجالات الاستعمال القرآني لهذه المادة الخطرة الحساسة؟
أن أهمها ما يلي: ـــ
المجال الأول: هذا التعاطي الفكري المنحرف للإله والإلوهية قياسا بالتبني القرآني المقدس، وذلك مثل التثليث، وتعطيل الصفات الجمالية بحق الإله، وتوريط الذات المقدسة بصفات لا تليق بها، وهذه صوره المساقة في كتاب الله عزّ وجل: ــ
1: الاتجاه الذي يعادل تماما وعلى نحو البدل الكلي بين الله وإنسان ما، ومن أمثلة ذلك قول بعضهم أن الله هو عيسى بن مريم نفسه (لقد كفر الذين يقولون أن الله هو المسيح أبن مريم قل فمن يملك من الله شيئا أن أراد أن يهلك المسيح أبن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شي قدير) ــ المائدة 17 ــ
2: الاتجاه الذي يكرِّس فلسفة الثالوث القاضي بأن الله ثالث ثلاثة، أي أن هناك ثلاث آلهة، أحدها هو الله تعالى، وذلك على نحو المضاهاة والتساوي والتطابق! (لقد كفر الذين يقولون أنَّ الله ثالث ثلاثة وما من إله إلاّ إله واحد وأن لم ينتهوا مما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب (لقد كفر الذين يقولون أنَّ الله ثالث ثلاثة وما من إله إلاّ إله واحد وأن لم ينتهوا مما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) ــ المائدة 73 ــ
3: الاتجاه الذي يشيد عقيدة البنوة، أي يثبت لله تعالى أبنا، كأن يكون العزير أو عيسى عليهما السلام (وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون به قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون) ــ التوبة 30 ــ وفي هذا السياق القول بأن لله تعالى بنات (ألكم الذكر وله الأنثى، تلك قسمة ضيزى) ـ النجم 22 ـ
4: تعطيل الصفات الجميلة بحق الله تعالى (قالت اليهود يد الله مغلولة...).
وفي فصل مستقل سوف نعالج بإسهاب نسبي دعوى كفر أخوتنا في الإيمان أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
المجال الثاني: هو الكفر بآيات الله تبارك وتعالى، وقد كثر الحديث القرآني عن هذا اللون من (الكفر)، والآية في الكتاب الكريم أصناف وأنواع، منها: ــ
1: الآية الكونية، وأقصد بذلك البرهان الكوني الذي يسوقه القرآن الكريم للاستدلال على توحيد الله، وقدرته، وعلمه، وما يدل على إمكانية اليوم الآخر، وأكثر هذه الآيات مختومة بقوله تعالى (أفلا يتفكرون، أفلا ينظرون، أفلا يتدبرون...).
قال تعالى (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون).
وهي آية كونية من جهة انتمائها إلى عالم الآفاق والأنفس، إي الكون والذات البشرية بما تنطوي عليه من أسرار مدهشة.
قال تعالى (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر و البحر قد فصَّلنا ا لآيات لقوم يعلمون).
2: الآية بعنوان المعجزة، أي ما يقص علينا القرآن الكريم من خوارق العادات التي أجريت على يد الأنبياء عليهم السلام، وذلك مثل أحياء الموتى، وفلق البحر بالعصا، وغيرها. وهي آية باعتبارها تقطع على المنكرين تشكيكهم. وسوف نلتقي يوما بمعالجة هذه القضية.
3: الآية بمعنى النعمة، أي نعمة، والوجود كله نعمة بالعرف الديني، ظاهرة وباطنه، حتى لو تبدِّى لنا شرا.
قال تعالى (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سؤاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يتذكرون).
الواقع قد تكون النعمة آية بدلاتها على الرحمة والعدل والقدرة بطبيعة الحال، أي هي تتصل بالآية الكونية من طرف كما هو واضح.
4: قد يأتي استعمال الآية بمعنى طائفة من حروف القرآن الكريم (منه آيات محكمات)، (الر تلك آيات الكتاب الحكيم)، (الر تلك آيات الكتاب ا لمبين)، (وذا بدلنا آية...).
5: وقد يأتي استعمال الآية بمعنى العلامة (قال رب أجعل لي آية)، (ولقد تركنا فيها آية لقوم يعقلون).
6: واستعمال آخر ينصرف إلى حكم من أحكام الدين في القرآن (تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون).
7: وقد يستعمل القرآن الكريم المادة بمعنى السلطان (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن تبعكما الغالبون).
ولكن ما هي مقتربات الكفر بالآيات؟
تعرَّض الكتاب الكريم كثيراً إلى ظاهرة الكفر بآيات الله، سواء بمعنى الدليل الكوني على توحيده وصفاته، أو بمعنى المعجزة، أو بمعنى النعمة، أو بمعنى الحكم الشرعي، أو بمعنى طائفة من القرآن.
قال تعالى (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق...) البقرة / 61. حيث يرى كثير من المفسرين أن الآيات هنا هي معجزات موسى التسع.
يقول تعالى (ولقد نزلنا إليك آيات بيِّنات وما يكفر بها إلاّ الفاسقون) البقرة / 99. ويرى كثير من المفسرين أن الآيات هنا تعني طائفة من القرآن المجيد.
يقول تعالى (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى)، فقد ذهب الرازي أن المراد بالآيات هنا كل الأدلة مما يتصل بالتوحيد والنبوة والمعاد والشريعة.
قال تعالى (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم) العنكبوت / 23.
ربما الآيات هنا ما أشارت إليه الآية رقم (20) من السورة نفسها، وهي آية تتحدث عن الخلق وإعادته، ومن ثم ربط ذلك بيوم المعاد، مما قد يفيد أن الآية التي نحن في موضوعها أية كونية.
أن كفر هؤلاء بالآيات الكونية كما يقول الرازي لا يستند إلى حجة أو برهان، بل بوجوه باطلة مستهلكة، منها الإنكار المجرَّد، ومنها الإعراض عنها، أي التعاطي معها بعقل كاسد وعاطفة باردة،بتعبير آخر، إهمالها في مملكة التفكير والتدبر والتعقل، ومنها إلقاء الأراجيف والشكوك حول الآية، التشويش على دلالتها وإبهامها باصطناع مقصود، ومنها الإنكار عن عناد وحسد وغيظ وحقد.
يقول تعالى (إن الدين عند الله الإسلام وما أختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) ـ ال عمران 19 ــ
يقول صاحب الميزان في تفسير الآية الكريمة [ إن الكفر بآيات الله ـ هو ا لكفر بعد البيان ـ بغيا ].
ولكن ما هو هذا الاختلاف؟
إنه اختلاف اليهود بعد أن أودعهم موسى ا لتوراة سالمة، فحرَّفوها بغياً بينهم، وكان ذلك من أسباب اقتتالهم وكفرهم، أو اختلاف النصارى في أمر عيسى بعد ما جاءهم من العلم بأنه عبد ولكنهم اختلفوا فيه!
يقول الرازي ما ملخصه [ (إلاّ من بعد ما جاءهم العلم) المراد منه إلاّ بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل العلم ].
هو كفر عناد أذن، كفر بعد أن اتضحت الحقيقة، ولكن هل هناك معيار خاص لاتضاح الحقيقة أو الحق؟
ما هي مقاييس هذه الأدلة التي مجرد أن تصلنا نؤمن؟
حقاً أنها معضلة معرفية قاسية، يعاني منها الفكر البشري اليوم، وسوف تبقى مشكلة عصية على الحل الجذري المكين.
هذه قضية يجب أن ندرسها بدقة وعناية كبيرتين.
المهم هنا أن الإنكار يعتبر كفراً بعد أن تتضح الحقيقة تماما!
وهل تتضح الحقيقة تماماً في كل الأحوال؟
وهل تتضح الحقيقة تماماً في كل الظروف والأمكنة والأزمنة؟
هل بيان الآيات قيمة ذاتية تخص الآية لوحدها؟
أم أن عقل المتلقي وظروفه وملابسات ثقافته السابقة، ومشاكله النفسية والروحية، تدخل في معادلة البيان في سياق العملية المعرفية كـ (سير) من المعلوم إلى المجهول، في موج اجتماعي ملغم و مزدحم بالفكر والذكريات والتقاليد والموروثات والأزمات؟
هل يخرج العلم أو البيان عن السياق الاجتماعي؟
هل كانت نظرية كوبرنيس بريئة من خزين الموج الاجتماعي الذي يعيش فيه صاحب النظرية العتيدة، هل هي بعيدة عن التصور الاجتماعي القاضي بانسجام الكون في ذلك الزمان، هل هي بعيدة عن سيادة علم السحر وفكره وعاداته وتقاليده يوم ذاك؟
كلام كثير ينتظرنا في هذا الخصوص.
هناك من أنكر المعجزات، فقد قال بعضهم يمكن معارضتها، فيما أدعى آخرون أنها ليست من الله تعالى، بل هي حيل فنية تعوَّد عليها الاجتماع الإنساني من زمان ليس بالقصير، أو من صنع مخلوقات خفية قادرة على قلب وتحريف وتزييف الواقع، وهناك من يرى أن المعجزات حقيقة ولكن ليس لغرض التصديق، أي تصديق النبي، و إذا كانت لهذا الغرض فليست لازمة بالضرورة لصدق المدَّعي، ذكر هذه الوجوه الفخر الرازي في تفسيره الكبير.
إنكار المعجزة أمر حاصل ويحصل، منه عن عناد وحسد، ومنه عن عدم القدرة على استيعاب ما يحدث، ومنها لأسباب أخرى،ولكن بلا شك أن هذا الإنكار لا يكون كفراً بالمعنى المتداول حتى يضمر صاحبه الإيمان فيما يدعي الإنكار بلسانه وعمله. وليس من شك هناك فارق بين من يرى المعجز بعينه، يحضره بشخصه، وبين من يُنقل له الخبر بذلك، فهل يتساوون في المسئولية على صعيد الموقف من المعجز؟
يقول أحدهم لو حقا أن عيسى عليه السلام أحيى الموتى لأمنوا جميعا بلا تخلف ولا تلكؤ، الأمر الذي يرجح أن هذه المعجزات (فن) قرآني أدبي مجازي رمزي، يريد من وراءه الكشف عن تحكم العناد الأعمى، وأن أقوى البراهين على التوحيد والنبوة والشريعة لا تزحزح أهل العناد عن جادة عنادهم.
هل هذا الفكر كفر؟
ليس شيئا نكرا أن يتعامل بعضهم مع المعجز بشي من الشك والرفض، وهي قضية مثيرة للجدل أن يخبرنا القرآن الكريم، بأن المعجزات لم تقدر على تحويل مسار الموقف لدى الناس تجاه النبوات والأنبياء، بل بالعكس، كانت سببا في مزيد من الغلو رفضاً وتحفظا!
ترى هل وصلت بلادة البشر إلى هذه الدرجة من الصفاقة والحماقة؟
أم أن المعجزات سيقت للتمثيل على مدى فساد العناد الفكري والمعنوي، ومدى استهتار بعض الناس بالحقيقة مهما كانت واضحة؟ وعلى فشل كل المساعي لإلانة التعصب وكسر غلوائه؟
هل من الكفر أن يرى بعضهم أن المعجزات سيقت مجازاً لبيان وتشريح حقيقة الرفض لدى بعض الرافضين،للكشف عن مدى قسوتهم وعنادهم وتكبرهم وتعجرفهم؟
أنه كتاب الله تعالى، ولكن يسوق المعجز لهذا الغرض الشريف، هل في ذلك انتقاص من كونه كتاب الله؟
لا...
فإن الإيمان بكونه من الله تعالى هو الجوهر في الموقف.
لقد كانت آيات الكتاب الكريم بالنسبة لكثير من عرب الجاهلية قوية... نشطة... متحدية... صارخة بالجمال والحيوية، ولكن رغم ذلك تعاهد هؤلاء معها بالجحود والجمود، فهم يعلمون أنها خارج نطاق القدرة البشرية بشكل واضح، ولكن يكابرون.
فهل هناك عناد أكبر من هذا؟
هذا الإنكار هو الكفر بالمعنى الذي يدينه القرآن المجيد.
ولكن فهم المعجز القرآني هل هو سهل يسير هذه الأيام؟
هل هو سهل يسير بالنسبة لكل البشر؟
مرة أخرى نثير قضية السياق الاجتماعي للمعرفة... للفكر... للتصورات... ليس بهذه السهولة أن نتعامل مع معادلة المعجز القرآني، فها نحن نكتب الدراسات والبحوث لإثبات الإعجاز القرآني، ونحن من أبناء لغته ودينه وتعاليمه، فكيف بهذا الشاب الأوربي الذي يبعد عنا آلاف الأميال الجغرافية، ويفرقه عنا مساحات من الفكر والعادات والثقافات والموروثات؟
نعم، أن آيات القران المجيد بينات، ولكن البيان في سياق سير من المعلوم إلى المجهول ليس قيمة ذاتية تخص النص وحده!
القرآن الكريم خطاب لكل الناس من حيث المبدأ، ولكنه لصنف من الناس على صعيد الفعل، هو لمن كان ذهنه وروحه وشعوره على مستوى البيان ذاته.
هو ذكر للعالمين...
يقول تعالى (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلاّ القوم الفاسقون) البقرة / 99.
ما معنى هذا الحصر بين الكفر والفسق؟
وما هو الفسق هنا؟
هل هو فسق ذلك الإنكار المتَسَبَّب عن شبهة؟ المُتَسبَّب عن فهم خاطئ للفكرة؟ المُتسبَّب عن نقص في الدليل؟ المُتسبَّب عن غبش اجتماعي، عن أزمة نفسية،عن عدم تحمل العقل الصورة المُفترضة؟
هل ينفذ البيان الذاتي للمشهد أو القضية أو الدعوى إلى ذهن مرتبك؟ إلى نفسية تغشاها عواصف الشك القاتل بسبب ما يعانيه العالم من ظلم وقهر واضطهاد؟ بسبب ما يمارسه بعض حملة الأديان من جرائم وموبقات يستحي لها الله وملائكته والمؤمنون الصادقون؟ هل الذهن البشري بمثل هذا الصفاء الذي يؤهله للتفريق بين النظرية والممارسة؟ هل هو صفحة بيضاء ينفذ إليه البيان بكل شفافيته الطيبة العذراء؟
هذا في تصوري حديث خرافة.
يعلق القرآن الكريم الكفر على حصول العلم، والعلم بمعنى الوضوح والسطوع، لحظة حضور الحقيقة، ومن هذا المنظور يجب التعامل مع الكفر و الإنكار، ولكن هل الوضوح العلمي مجرد عن شروط تتصل بالبيئة و التكوين الذاتي للمتلقي؟ لا نتحدث بطبيعة الحال عن وضوح رياضي أو فيزيائي أو جغرافي، بل نتحدث عن قضية يختلط فيها المنطق مع العاطفة، الحاضر مع الماضي، الروح مع الجسد، وهل نعلم حتى الوضوح الطبيعي ربما يتأثر بمثل هذه المقتربات الخطيرة.
نقصد وضوح العلم العقدي، العلم الذي يتصل بالإيمان، يتصل بالدين ككل، يتصل بالغيب، يتصل بما هو بعيد... بعيد... بعيد... عن الحواس والتجارب والملاحظات...
هل نفصل بين عقل الإنسان وبين محيطه؟
بين معانات الإنسان الهائلة وتفكيره؟
بين ما يقاسي وطريقة اشتقاقه؟
بين مشاكله التي تهد الجبال وبين النتائج التي يتوصل إليها من المادة التي بين يديه؟
هناك من يعاني من عذابات الوجود فيستنتج الحكمة، فيما هناك من يستنتج العبث، هل نحمل نيتشة مستحقات الكفر؟ لنضع أنفسنا بديلا عن حاله ونرى، ومن حق باسكال أن يعانق الإيمان الصوفي عبر معاناته الجسدية القاهرة، فلكل منا ظروفه، ولكل منا استعداده الخاص في التعامل مع هذه الظروف.
يقول تعالى (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم).
يقول تعالى (وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات) عمران / 86.
يقول تعالى (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) البقرة / 89.
يقول تعالى (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم) الأنعام / 5.
ما معنى مجيء العلم؟
ما معنى مجيء البينات؟
ما معنى مجيء الحق؟
نحتاج إلى كلام طويل لاستجلاء ذلك، ولنا عودة مفصلة بإذن الله تعالى.
المجال الثالث: الكفر بالنبوة، فهي من أصول الدين، وينسحب ذلك بطبيعة الحال إلى إنكار الأنبياء دفعة، وإنكار الكتب السماوية، وإنكار حقائقها الغيبية من ملائكة وجنة ونار وما يتصل بهذه العوالم الغيبية الكبيرة.
المجال الرابع: إنكار المعجز القرآني.
المجال الخامس: إنكار الضرورة الدينية، مثل الصلاة والصوم والحج...
المجال السادس:السحر (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر).


آيات بينات!
في رحاب اللغة

ما الذي نستقيه من المعاجم في شأن هذه المادة (آ، ي، ة)؟
تفيد المعاجم أن هذه المادة تساوق الوضوح والتثبت والتشخيص، ففي لسان العرب (وآية الرجل شخصه)، وقال أبو منصور (إيَّا الشمس وإياؤها نورها وضوءها وحسنها)، ويذهب المحققون إلى أن اشتقاق الآية من (التايِّي) الذي هو التثبت والإقامة على الشيء، والآية هي العلامة الظاهرة، وحقيقته: لكل شيء ظاهر هو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره، فمتى أدرك المُدرك الظاهر منهما عَلِمَ أنه أدرك ا لآخر الذي لم يدركه بذاته إذا كان حكمهما سواء، وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات، فمن عَلِمَ ملازمة العَلَمِ للطَّريق المنهج، ثم وجد العَلَمَ عَلِمَ أنه وجد الطريق... هكذا جاء في مفردات الأصفهاني.

الآية البيِّنة
نتحدث عن (الآية) كعلامة، كدليل، كشاهد نتوسَّل بها للوصول إلى مدلول، أي كونها دالا، كونها دليلا، كونها برهانا، فقد أستعرض القرآن الكريم مشاهد الكون الحية والميتة، في الآفاق والأنفس والتاريخ، لكي يستدل بها على التوحيد والنبوة وغيرها من مفردات العقيدة الكبرى.
القراءة التحليلية لهذه الآيات لا تكشف عما تحمله لنا المعاجم اللغوية من وضوح ومباشرة، ليست واضحة بالدرجة التي نشتق منها المدلول مباشرة، بالدرجة التي تقود بنا باسترخاء إلى الله، إلى النبوة، إلى الميعاد.
نحتاج إلى جهد...
نحتاج إلى عمل...
هناك مسافة مهمة بين الآية ومدلولها الذي يضمره القرآن الكريم، الذي يريد أن يوصله الكتاب المقدس إلى المتلقي...
ما هي هذه المسافة يا ترى؟
إن أكثر الآيات التي يستعرضها القرآن الكريم للدلالة على أمهات عقائده الطيبة يختمها بالدعوى إلى التفكير، إلى التدبر، إلى الفقه، إلى الفهم، إلى الاستيعاب، إلى التحليل، إلى التمعن والتبصر!
ألآيات هذه إذن مادة تفكير، مادة نظر، وبالتالي، هناك مسافة بين الآية وما يمكن أن نصل إليه من خلالها، تلك المسافة هي الفكر، هي التدبر، هي النظر.
إن دلالة النظم الكوني على الخالق الحكيم المدبر الخالق الحي السميع ليس كدلالة نور الشمس على طلوعها...
لماذا الدعوة إلى التفكير بهذه الآيات؟
لماذا الدعوة إلى التبصر بها؟
يقول تعالى (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلاّ بالحق وأجل مسمى وإنَّ كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون).
يقول تعالى (ومن آياته أن خلق من لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
يقول تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت).
أذن هناك مسافة بين هذه الآيات ومدلولاتها الميتافيزية التي يرتبها القرآن حسب منطقه الكريم، هناك مسافة التفكير، مسافة التدبر، مسافة النظر، وبالتالي، ليس هناك نتيجة مجانية مترتبة على هذه الآيات،ليس هناك نتيجة سريعة، حاضرة، بل تحتاج إلى فكر، وتعقل، وتدبر...
التفكير ليس عملية سهلة، بل هو جهد، جهد روحي وعاطفي وثقافي، تشترك فيه عوامل وعناصر متعددة، تؤثر فيه الثقافة والعاطفة والمحيط...
كل أو معظم الآيات التي ساقها القرآن المجيد للاستدلال على عقائده، أو للانتصار لفكره، أو لتفنيد خصمه، كل آية من هذا القبيل، ولأجل هذه الغايات... كل آية في هذا المجال مشفوعة بدايةً أو نهايةً بدعوة صارمة إلى إعمال الفكر...
أليس كذلك؟
هي آية بينة، آية واضحة، ليست مخفية في طيات الأرض، ليست مخفية في غياهب السماء، ليست مطوية في طبقات من التراب، بل هي حقيقة واضحة، مكشوفة، هذا هو الجبل، وذاك هو البحر، وهل يخفى الإنسان بعظمة خلقه وجمال وجوده؟ وهذه هي الشمس بقدراتها الهائلة، وكل لحظة نتعايش مع الزرع والماء والثمار والزهور والضياء... آيات بينات، أي ليست خفية، يمكن أن نقرأها، يمكن أن نحللها، يمكن أن ندرسها...
أعتقد هذا هو معنى كون الآية بينة، فهي ليست كلام أرسطو، ولا حديث باسكال، ولا مصطلحات ابن سينا، ولا مفردات النظرية النسبية في تضاعيف نسجها النظري... هي أرض وسماء وبحر وجبل ونهر وزهرة وثمرة...
بيانها يعني ظهورها، يعني عدم كونها سرية خفية، هي بين أيدينا، أمام ناظرنا، نسمعها، نشمها، نتذوقها، نلمسها...
بيانها في نفسها، وليس بيانها في دلالتها، وإلاّ لماذا يطلب القرآن منا أن نقرأها، أن نفحصها، وذلك بدقة، وبعمق؟
أنها واضحة في نفسها...
وليس كل واضح في حد ذاته، واضح في مدلوله!
أليس كذلك؟
يقول تعالى (آيات بينات) أي ظاهرة منكشفة، واضحة، غير خفية، في متناول العالم والبسيط، في متناول الذكر والأنثى، في متناول الأبيض والأسود والأصفر...
هل نتصور أن هناك ضلال مبين؟
نعم، ففي كتاب الله تعالى (لفي ضلال مبين)، وفيه أيضا (أنه عدو مضل مبين)، وبالتالي، فأن الإبانة هنا الوضوح، العلن...
الآيات التي يسوقها كتاب الله تعالى على توحيده وعلى صفاته وعلى صدق نبيه مبينة، واضحة، ولكن في نفسها، وليس في دلالتها، ولذا يحتاج الأمر إلى التفكر و التدبر والتفحص والتحليل والتركيب.
إنها بينة في حد ذاتها، ولكن ليست بينة في سياق السير من المعلوم إلى المجهول، منها إلى مدلولها، ذلك بيان آخر كما سوف نرى.
ليس كل واضح مدلوله واضح بالضرورة، حتى الكلام اليومي يتعرض في هذا الأزمان لتحليل دقيق، فقد كشفت الدراسات الحديثة بأنه ليس بهذا الوضوح الذي نتصوره، وهاهي حجية الظهور تتعرض اليوم إلى نقد حاد من قبل بعض علماء اللغة والإلسنيات الحديثة...
نعود للقول بأن هناك مسافة بين الآية وبين مدلولها الذي يريده القرآن الكريم، مسافة اسمها التفكير، أسمها التدبر والتحليل، مسافة ليست سهلة، ولا يمكن أن تتطابق النتائج من خلال النظر إليها...
الآية بينة بحد ذاتها، وليس بحد مدلولها...
لهذا كان التفكير بها واجبا...
المدلول البيِّن
بيان المدلول لا يتوقف على بيان الآية، بيان الشاهد، فهذه هي آيات الكون في سماءه و أرضه، في بحوره و أنهاره، في ثماره وحيواناته، في مخلوقه الإنساني الفذ، نتعايش معها بكل وجودنا، واضحة، بينة، ولكن دلالتها على الخالق المنظم العظيم تحتاج إلى نظر وفكر وتدبر.
ألم يقولوا أن التقليد في أصول الدين حرام؟
ألم نقرأ أن كل مكلف يجب أن يتسلح بدليل على معتقده؟
ماذا يعني كل هذا؟
يعني ببساطة أن مدلول هذه الآيات كما يريده القرآن الكريم ليس بينا، بل يحتاج إلى نظر، إلى قراءة، إلى تقليب، وربما يؤدي إلى ألإيمان وقد لا يؤدي، هي قضية نظرية، ليست بديهية...
إن قراءة الآيات التي يستعرضها القرآن الكريم لا تتأثر في وضوحها الجاهز وحسب، بل بواقع ضخم، من ذلك ثقافة المتلقي، تاريخ المتلقي، الوضع النفسي للمتلقي، محيط المتلقي، قدرات المتلقي الفكرية.
هناك مصطلح مهم في الكتاب العزيز، هو مصطلح (المستضعف)، وله مجموعة من الاستعمالات، منها أنه إشارة إلى أولئك الذين لا يقدرون على حسم الموقف بين إيمان وبين كفر!
يقولون أن عقولهم عاجزة!
كليلة!
ولكن ما طبيعة هذا العجز؟
هل هو عجز خلْقي؟
أم هو خلقي وغير خلقي؟
أن تصور العقل بأنه تلك القوة الصافية القادرة البعيدة عن المؤثرات الخارجية والمشاكل الداخلية لا معنى له على الإطلاق.
يقول السيد الطباطبائي في تعريف (الاستضعاف) هو (عدم الاهتداء إلى الحق من غير تقصير) ـ الميزان 5 / 60 ــ
ولكن كيف يتأتى التقصير؟
يقول السيد رحمه الله (يتبين من الآية 98 / النساء / أن الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان ا لجاهل كان عذراً عند الله سبحانه) ـ 5 / 51 ـ
السيد يحصر القضية في نطاق (القصور)، ولكن ما هي أبعاد هذا القصور؟ أو قل مجاله، هل هو قصور يمت بصلة إلى العقل، إلى الطاقة الذهنية؟ أم هو قصور قد يتأتي من عوامل خارجية قاهرة، قاتمة، من أسباب نفسية يمر بها البشر رغماً عنهم، لا تدعهم يفكرون، لا تدعهم يراجعون، لا تدعهم ينتبهون لما يجري حولهم في العالم؟
يقول السيد (فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا لا لأنه أعيت به ا لمذاهب بكونه أُحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط، بل إنما أستضعفته عوامل أُخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل) ـ المصدر والصفحة ــ
كلام جميل، ولكن يعوزه بحث وتفصيل حول الغفلة هذه، وهو ما سـأتطرق إليه قريبا.
ولكن
هل هذا في مجال المعارف الدينية ا لفرعية أم في مجال قضية الدين ككل؟
هل هذا في قضية السجال بين الأديان والمذاهب أم القضية أكبر من ذلك؟
في تصوري أن المطروح هو القضية في نطاقها المعرفي، في سياقها الفكري العام، فأن القصور عن الوصول للحق ليس على صعيد السجال الديني والمذهبي وحسب، بل على صعيد القضية الدينية ككل.
الآيات واضحة ولكن (المستضعف) لا يصل إلى مدلولها، هناك عقم، ليس في وضوح الآيات بالذات،فهي ساطعة، حاضرة بين حواسنا، ولكن العقم في السير من المعلوم إلى المجهول، بسبب ما يعانيه من قصور ذهني، أما لأسباب خلقية طبيعية، وأما لأن الواقع الذي يحيط به قاس، جاف، لا يدعه الالتفات إلى هذه الآيات، أو لأن واقعه النفسي في حالة من التردي والقهر مما يكف فكره عن التعاطي مع هذه (المنسيات!).
إذن المدلول البين عملية مركبة، تحتاج إلى بيان في حد ذات الآية، ومن ثم أن لا يكون هناك ما يعكر صفو الفكر، ما يخلط على صاحبه الأوراق، ما يصده عن ا