1. مدخل

أدى الانعطاف التاريخي، الذي مثله ظهور الإسلام، إلى إقصاء الجانب الأساسي من المرويات السردية الجاهلية، لأنها كانت استثمرت سرديا العقائد القديمة، وعبّرت عنها كبطانة دينية للمجتمع الجاهلي. أما الأجزاء المتبقية منها، التي وصلت إلينا، فتمثلُ جانباً مما امتثل لضغوط الدين، فتكيّفت طبقاً لحاجاته، أو أنها انطوت على مواقف تنبؤية اندرجت في خدمة الرسالة الدينّية. هذه العملية المزدوجة من الاستبعاد والاستحواذ تعطّل أمر البحث في أصول المرويات الجاهلية وطبيعتها، باعتبارها مرويات كاملة في صياغاتها النهائية، فذاك من المحال، ليس فيما يخص العصر الجاهلي، بل في كل الثقافات الشفوية القديمة، ولعل أكثر المداخل عملية وفائدة في فحص طبيعة المرويات السردية الجاهلية، أن يتجه البحث إلى السمات الأسلوبية والتركيبية والدلالية للنثر القرآني والنبوي باعتبارهما صورة مما كان شائعاً من تعبير نثرى آنذاك. ومع أن هذا الاختيار يصطدم بعقبات كبيرة، وهى درجة الحرج التي يسببها البحث في النثر القرآني والنبوي بعيداً عن هيمنة المقدس، وفى معزل عن النظرة التبجيلية المعروفة والمتوارثة، فإنه من دون تخطّي هذه الحدود تبقى التوصّلات النقدية هامشية، ولا تفلح في إضاءة المناطق المعتمة في تاريخ السرد العربي القديم؛ ذلك أن التقلّبات المتعاقبة في البنية الثقافية أفضت إلى تعارضات حاسمة، كان من نتيجتها إما إقصاء معظم مظاهر التعبير السردي القديم، أو الاستئثار بها من نصوص تحصّنت وراء قوة لاهوتية، وجرى فيما بعد، مع ظهور المدونات الكلامية والأدبية، إعادة اعتبار لمأثورات الماضي بما يوافق الرؤية الدينّية، وبما يقوّى أسسها وركائزها.
أدى ذلك إلى انكسار شديد في زاوية الرؤية إلى تلك المرويات السردية، فالتاريخ، بكل معطياته الثقافية، مرَّ من" وسط جاهلي كثيف" إلى "وسط إسلامي شفاف ". كانت "درجة الانكسار" كبيرة بين الوسطين، الأمر الذي أدى إلى إعادة إنتاج المأثورات القديمة أو إقصائها بما يوافق الوسط الجديد الذي اقتضت رؤيته للعالم أن ينتخب ما يمتثل لتلك الرؤية، ويستبعد ما يؤثر سلباً فيها، وهذه التعارضات التاريخية - الدينية مسّت مظاهر التعبير الأدبي الجاهلي، والسردي منه بخاصة، لأنه كان حاملاً لمنظومة قيمية مخالفة، جاءت الرسالة الدينية لاستبعادها، والإجهاز عليها، أو امتصاصها، فأقصى الحامل كما أقصى المحمول. ولكن هل رسم الإسلام حدودا للقصّ توافق الرؤية الدينية الجديدة؟

2. القص والرؤية الدينية: رسم حدود جديدة
لكي نقترب إلى الجواب لابد أن نتريث قليلا، ونبحث في موقف القرآن والرسول من القصص الذي يريده الإسلام، وهذا سيكشف ضمنا مدى موافقة المرويات الجاهلية للحدود الجديدة التي سنّها الإسلام. القصّ ممارسة أدبية جاهلية معروفة، كان يقصد بها قصّ المرويات المتوارثة، والاهتمام بها وإشاعتها، مع ما يقتضيه ذلك من تغيير في تفاصيلها بسبب تداولها الشفوي. كان القصّاص يشغلون كثيرا بـ" أوابد العرب" التي لا يُعرف الآن عنها شيء مؤكد؛ لأنها حرّمت، واستبعدت، أو اندرجت في سياق النصوص الدينية بعد تغيير محمولاتها الدلالية، وحلّ محلّها الوعظ والتذكير، وإيراد أخبار الأمم الغابرة على سبيل الاعتبار. الحدود التي رسمها الإسلام للقصّ لم تكن معروفة من قبل، والخروج عليها، إنما هو خروج على الإسلام، كما سنرى ذلك في موقف الرسول من بعض القصّاص في زمنه.
حدّد القرآن فضاء دلالياً للفعل "قصّ "وضمن هذا الفضاء الذي تحول إلى معيار قيمة، نُظّمت شؤون القصص بوصفه فعالية إخبارية في الثقافة العربية. يحيل الفعل" قصّ " في القرآن على معنى الخبر، ووصول النبأ، والإبلاغ عن واقعة إخبارية، قال تعالى " تلك القرى نقصّ عليك من أنبائها- الأعراف- 101" وقال " وكلاً نقص عليك أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك – هود- 120" وقال" نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق- الكهف-13". هذه الدلالة المحورية للفعل " قصّ " كانت تُقيّد دائماً بدلالات مجاورة، يفرضها سياق الحال في الخطاب القرآني، فقد ألحَقَ القرآنُ الدقةَ، والصواب، والتقصّي بالفعالية الإخبارية للقصص، كقوله " وقالت أخته قصّيه فبصرتْ به عن جنب وهم لا يشعرون- القصص- 11". فالقصّ هنا، تقصّي الأثر بدقة. ثم ألحق بها الحقَ الذي هو ضد الباطل، وما يرتبط به من صدق ويقين، في قوله " إن هذا لهو القصص الحق- آل عمران- 62". وقوله " إن الحكم إلا لله يقصّ الحقّ وهو خير الفاصلين- الأنعام- 57". وقيّدها أيضاً بالاعتبار، والتدبّر، والموعظة في قوله" فاقصص القصص لعلهم يتفكّرون- الأعراف- 176". وقوله " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب – يوسف- 111". وأخيراً قيد تلك الفعالية بدلالة الحسن، وكل ما هو مضاد للقبح والإساءة في قوله" نحن نقصّ عليك أحسن القصص – يوسف- 3".
الخبر المقيدّ بالدقة، والصواب، والحق، واليقين، والاعتبار، والتدبّر، والحسن، هو القصص الذي أعلى من شأنه القرآن، وأصرّ على ترسيخه، وهو القصص الذي ورد في تضاعيفه ليؤدي وظيفة تقوّي من أمر الرسالة الدينية، وهذا القصص هو الذي أسس القرآن وجوده في المجال الثقافي العام لتداول الأدب، وأصبح هذا الفضاء الدلالي هو الذي يحدّد القيمة الاعتبارية للقصص؛ ذلك أن من دلالات «الآية » أنها تحيل على معنى القصة، وما الآيات القرآنية، كما يؤكد الطبري(310=922) إلا قصص متتالية(1). أصبح القاصّ، في اللغة العربية وآدابها القديمة، هو الذي يتتبعّ الأخبار، ويتقصّاها. وجّه هذا الفضاء الدلالي للمصطلح الممارسات السردية بشتّى أشكالها، فما وافق الفضاء الديني فهو مقبول، وما عارضه مرفوض، لا يسمح بروايته وإشاعته بين الناس. القاص هو المتتبّع للأخبار، والمتقصّي لها بدقة، ولابد أن تتوافر فيما يقصّ شروط: الصواب، والتثبّيت، والتدبر، والموعظة، والاعتبار، وسيقود ذلك إلى نتيجة مهمة، وهى أن القصّ أصبح أقرب إلى التاريخ منه إلى الفن الإبداعي المتخيل الذي لا يقوم على مثال. القاص، في ضوء هذه الشروط، إخباري، والشروط الواجب توافرها فيه ليقصّ الخبر كما سمعه، تماثل الشروط الواجب توافرها فيمن يحدّث، إنها الدقة والتقصّي والإسناد الصحيح والمتن الصائب، وينبغي على القاص ألاّ يورد خبراً لم يتثبّت منه، وإلاّ عُدّ مخلطاً، وذلك يخرجه عمّا حدّده القرآن من شروط فيمن يقص. اختلط القاص بالإخباري ثم بالواعظ. أصبح القصّ ممارسة إخبارية وعظية تهدف إلى غاية دينية ، ولم يعرف القصّ والقاص إلا كذلك في الثقافة العربية والإسلامية (2). القاص هو الذي يأتي بالقصة على وجهها، كأنه يتتبّع معانيها وألفاظها، من قصّ أثره أي اتبعه لأن الذي يقصّ الحديث يتبّع ما حفظ منه شيئا فشيئا، كما يقال يتلو القرآن إذا قرأه، لأنه يتّبع ما حفظ آية بعد آية، والقصّ تتبّع أثر الوقائع والأخبار عنها شيئا بعد شيء على ترتيبها(3).
من أجل أن تتضح الأسباب التي دعت إلى السمة الاعتبارية والوعظية القصص، لابد من التأكيد على أن القصص القرآني ذاته التزم بها، وصارت موجّهاً في القصص بعد ذلك. جاء القصص القرآني للاعتبار وليس للتسلية، وحسب الثعلبي (427=1035)، ثمة وجوه خمسة لورود القصص في القرآن، وجميعها تهدف إلى غايات اعتبارية يتقوّى بها الرسول على أعدائه، ويثبّت رسالته الدينية، منها أن إيراد أخبار الأمم الماضية، إنما هو " إظهار لنبوّته، ودلالة على رسالته، وذلك أن النبي لم يختلف إلى مؤدّب ولا إلى معلم، ولم يفارق وطنه مدّة يمكنه فيها من الانقطاع إلى عالم يأخذ عنه علم الأخبار". ومنها أن الله قصّ عليه القصص" ليكون أسوة وقدوة بمكارم أخلاق الرسل والأنبياء المتقدمين والأولياء الصالحين، فيما أخبر الله تعالى عنهم "ومنها أن الله إنما قصّ عليه القصص" تثبيتاً له وإعلاماً بشرفه، وشرف أمته ". ومنها أن الله قصّ عليه القصص " تأديباً وتهذيباً لأمته ". وأخيرا فأنه قصّ عليه أخبار الماضيين من الأنبياء والأولياء " إحياءً لذكرهم وآثارهم "(4).
التأمل في وجوه إيراد القصص في القرآن، كما استخلصها الثعلبي، يبيّن أنها تتعلق بالنبوة والنبي الذي توحي إليه أخبار الماضين، وهو ما يمنح النبي نبوّاً، أي ظهوراً وعلوّا على غيره، وهى إحدى معجزاته، وأن تلك القصص تمهّد لنشر الرسالة الدينية، وتمجّد الأنبياء والرسل السابقين، والعبرة المستخلصة من مواقف الأمم السالفة تجاه أولئك الرسل والأنبياء. يتضح من كل ذلك أن قصص القرآن هدفت إلى تقديم الموعظة والعبرة، وأن الرسول أخبر عنها بدقة، وبذلك فالأنموذج الأمثل للقصص والقاص في الإسلام، هو ما قصّه الرسول إلى قومه من أخبار الأقوام السالفة. كل ما وصل إلينا من المأثورات السردية الجاهلية، لا يخرج عن هذا الفضاء الدلالي الصارم؛ لأنه دوّن على وفق شروطه، كما أن القصص في القرنين الأول والثاني كان ملتزما، إلى حدود بعيدة، بهذه الشروط.لم يجرؤ أحد من المدونين والقصّاص على انتهاك هذه الشروط خلال هذه المدة. حتى الخروقات المحدودة عند بعض القصّاص، التي أجّجت تذمّرات المحدّثين، كما سنرى، لم تكن مقصودة لذاتها. نقطة ضعفها الوحيدة إنها لا تراعي الإسناد الدقيق المتحدّر عن تقاليد إسناد الحديث النبوي. فعالية القصّ كانت مقنّنة، ومرسومة الحدود بدقة. المركزية الدينية رسمت سلفا كل الحدود التي ينبغي ألاّ يتخطّاها أحد، وإلاّ عدّ مخلّطا ومزيفاً. سيقع القصّ في ذلك المحذور بداية من القرن الثالث.
لم يقف الأمر عند قضية الوظيفة التي ينبغي أن تنهض بها القصص، إنما جرى جدل لاهوتي حول أهمية وجودها في القرآن. وعدّها بعض البلاغيين أحد وجوه أعجاز القرآن(5). وأقاموا الحجّة على ذلك باعتبارها أخباراً عن غيوب ماضية " وردت ممّن لم يعرف الكتب، ولم يجالس أصحاب التواريخ "(6). وذهب النظّام(230=845) إلى " أن الإعجاز في القرآن من جهة ما فيه من الأخبار عن الغيوب، ولا إعجاز في نظمه"(7). وسبب ذلك أنّ أبرز ما يتّصف به النبي، قدرته أنّ يكون " مخبراً عن المغيّبات الكائنة والماضية والتي ستكون" (8). ويفصّل الباقلاني( 403=1012) هذا الأمر قائلاً إن " الرسول كان أمياً لا يكتب، ولا بحسن أن يقرأ، وكذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يعرف شيئاً عن كتب المتقدّمين، وأقاصيصهم، وأنبائهم، وسيرهم، ثم أتي بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير من حيث خلق الله آدم عليه السلام إلى مبعثه " ولمّا كان الأمر مستحيلاً إلاّ عن تعلّم، وهو لم يكن كذلك كما يقول الباقلاني، وجب ألاّ يكون ذلك "إلاّ بتأييد من جهة الوحي "(9). وحذا السكاكي ( 626=1228) حذوه في القول بأنّ اشتمال القرآن على القصص أحد وجوه إعجازه (10).
لم يُنظر إلى القصص في القرآن إلاّ باعتبارها قصص موعظة، وعبرة، وضرب مَثَل، وتقديم نُصح، وإذا ظن أحد، كما يقول ابن الأثير (630=1233) إلى أنها من "الحكايات والأسمار" فقد" تمسّك من أقوال أهل الزيغ بمحكم سببها، حيث قالوا: هذه أساطير الأولين أكتتبها "(11). وأهل الزيغ هؤلاء، الذين ينظرون إلى قصص القرآن بوصفها حكايات سمر، يضعهم السخاوي (902=1497) على " شفا جرف هار"(12). هذه أسباب وجهت رواية القصص القديم وجهة معينة، نبذت فيها المرويات والأسمار التي لا توافق الهدف الاعتباري الذي سعى القرآن لترسيخه في كل خطاب. سيقوم الرسول بتعميق الهدف الاعتباري للقصص.
صدر الرسول، في موقفه تجاه القصص الجاهلي وكل الممارسين لروايته، عن الرؤية التي حدّد أطرها القرآن، سواء أكان ذلك في وظيفة القصص والمرويات الإخبارية، أم في الدور الذي ينهض به القاص الإخباري-الواعظ. رسم القرآن فضاء دلالياً لهذه الفعالية، وعمل الرسول على التمسّك بحدود ذلك الفضاء، وأصرّ على جعل القصص يؤدي مهمة اعتبارية، وأن يكون القاص صادقاً وأميناً في قصصه ومروياته، وجعل نوع الخدمة التي يقدمها القاص للدين هي الفيصل في الموقف منه، ولم يخرج عن هذا الإطار إلا فيما اعتبره سمرا لطيفا يجري في وسط أسري حميم، كما سنفصل القول في ذلك عند تحليل" حديث خرافة ".
ورد عن الرسول قوله " لا يقص على الناس إلاّ أمير، أو مأمور، أو مختال"(13). فالقاص أحد ثلاثة : إما أنه أمير من أمراء الناس يعظهم بشؤون دنياهم، أو مأمور بذلك من الأول، وكلاهما يوظف قصصه في خدمه الدين. أو أن ينتدب مختال أو مُراء نفسه للقص، دون أن يؤمر بذلك؛ لأنه يريد الرئاسة لنفسه متشبها بالأمير، وهو هنا لا ينطق ألاّ عن هوى يستميل به قلوب الناس. هذا القاص مذموم لأنه يصدر عن هدف شخصي لا ديني. حارب الرسول هذه الفئة من القصاص الجاهليين الذين يروون أخباراً وأسماراً لا تقدّم خدمة مباشرة للإسلام. ووصفهم بأنهم مختالون، واطّرد هذا الحكم، فيما بعد، ليشمل كل من تكسّب بالقص في العصور اللاحقة. ولكن كيف جعل الرسول هذا القرار ممارسة موجبة على القصاص في عهده؟. عبّر عن موقفه تجاه القصّاص والقصص في العصر الجاهلي، وبداية عصر الإسلام، بموقفين متباينين تبعاً لتباين علاقة القاص وقصصه بالرسول. وعرض هذين الموقفين ممثلين بنموذجين لقاصين كبيرين يكشف معيار الرسول المتبعّ في تثبيت موقع القاص وأهمية قصصه، ويبين أيضا نوع المرويات التي أُقصيت، ولم يُعد لها ذكر في المدونات اللاحقة، وتلك التي استأثرت باهتمام الرسول، واخترقت الحاجز الديني واكتسبت الشرعية الكاملة بوصفها مأثورات لا تتعارض وأهداف الدين الجديد، لأنها امتثلت للرؤية الدينية0
النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن مناف بن عبد الدار بن قصي، القاص الجاهلي القرشي المعاصر للرسول، والمتصل به نسباً، عاشر الأحبار والكهنة، وحصل على قدر جليل من العلوم القديمة، وأطّلع على الحكمة، ورحل إلى فارس والحيرة، فتعلّم ضرب العود والغناء، وأطلع على الأخبار، وتشبّع بالخرافات الفارسية، وقيل أنه اطلع على حكايات "كليلة ودمنة" وعرف مرويات الأقوام والأديان القديمة، وقدم إلى مكة في الوقت الذي كان الرسول ينشر فيها رسالته، فكان النضر يحدّث أهل مكة بأخبار الفرس واليهود والنصارى وحكاياتهم، ولم يتردّد في حضور مجالس الرسول التي كان يعظ فيها المكيين، ويحذرهم مما أصاب الأمم الخالية، وما أن يفرغ الرسول من وعظه وينصرف، إلاّ وينهض النضر بينهم قاصاً عليهم أخبار" رستم واسفنديار الفارسية" قائلاً " ما محمد بأحسن مني حديثاً، وما حديثه إلاّ أساطير الأولين أكتتبها، كما أكتتبتُها"(14).
يربط الطبري بين مرويات النضر بن الحارث الخرافية، وأسلوبه المسجوع من جهة، وبين شكه بأن القرآن ليس مصدره الله، من جهة ثانية، فيقول: كان النضر بن الحارث يختلف تاجرا إلى فارس، فيمر بالعبّاد، وهم يقرأون الإنجيل، ويركعون، ويسجدون، وكان يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها، فجاء مكة، فوجد محمدا صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه، وهو يركع، ويسجد. فقال النضر: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين، يقول أساجيع أهل الحيرة" (15). تهمة النضر مركبة: الشك في أصل النص الديني، وتقويض النبوّة، والتشبع بالمرويات المسجوعة. أُخذ التماثل بين الأخبار التي يوردها الرسول وأخبار النضر عن الأمم القديمة، من أهل مكة على أنه تطابق في الخبر، ومصدره، وغايته، وأسلوبه. أحدث ذلك مزيداً من اللبس في نشر الرسالة الدينية، وكثيرا من الخلط بين النبي والقاص. وجود قاص يؤدي دوراً مماثلاً لدور الرسول في مخاطبة عامة الناس، يعمل على تقويض أمر الرسالة في مبتدأ أمرها. ولهذا وصف النضر بأنه كان " أشد قريش في تكذيب النبي" (16).
ظهر النضر في الفترة التي كان الرسول موضوعا لتهمٍ كثيرة: الشعر، والكهانة، والسحر. والتهمة الجديدة، تهمة كونه قاصا، تعقّد الوضع أكثر مما كان عليه. أفلح الرسول في ردّ تُهم المتّهمين استنادا إلى التباين في أساليب الخطاب، كالاختلاف بين الشعر والنثر القرآني، أو بين الآيات وتمتمات السحرة، وبعض أسجاع الكهان، لكنه واجه صعوبة في إفهام المكيّين بالفوارق بين ما يورده من أخبار قديمة، وما يورده النضر منها؛ ذلك أنّ التماثل قائم في موضوعات الأخبار وأساليبها النثرية بين الاثنين.كانت أحاديث النضر تسبّب حرجاً بالغا للرسول لا يمكن مقارنته بأي حرج آخر، ولهذا تجرّد الرسول للردّ عليه، كما لم يتجرّد لغيره، فقد خُصّ بثماني آيات قرآنية تردّ عنه تُهم النضر، منها قوله" وقالوا أساطير الأولين أكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً - 5- الفرقان". وقوله" إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين -15- القلم و-13- المطففين". وحسب ابن عباس(17) فإنّ الآيات التي نزلت بحقه دليل على الضرر الذي ألحقه بالرسالة. بعضها أنذرته بالويل والثبور، وسوء العاقبة، والعذاب الأليم، وهو ما آل إليه مصيره، ذلك ما ورد في سورة" الجاثية"، قال تعالى" ويل لكل أفاك أثيم، يسمع آيات الله إذ تتلى عليه ثم يصرّ مستكبراً كأن لم يسمعها، فبشره بعذاب اليم- 7-8 - الجاثية" والذي وقع للنضر فيما بعد، يطابق نبوءة سورة " الجاثية ". سقط أسيراً بيد الرسول في معركة بدر، وكان على رأس لواء من قريش، فأمر الرسول أن يقتل صبراً، أي أسيراً، ونفّذ أمر القتل فيه مباشرة علي بن أبي طالب، وكان أول من قُتل صبراً في الإسلام(18).
ما الذي يمكن استخلاصه من هذه الواقعة ؟. الخلاصة الأساسية تتمثل بما يأتي: إذا قيست الأمور بنتائجها في القضايا المتناظرة الخاصة بالتُهم التي وجهت إلى الرسول مثل: الكهانة، والسحر، والشعر، والقص، فإننا نجد أنّ موقف الرسول كان أشد قسوة على القاص من غيره، فثمة ثلاث درجات متتالية في موقفه تجاه من شكّك في نبوته: عفا عمّن سحر، وأهدر دم من هجاه شعراً، وقتل القاص وهو أسير حرب(19). القاص المغاير في منظوره للرؤية التي عبر عنها الرسول مارس ضغطاً كبيراً على الرسالة الدينية، وتبعاً لهذا حكم على النضر بأنه كان" شديد الأذى للإسلام والمسلمين"(20)، الأمر الذي يفسر لنا موقف الرسول العنيف تجاهه. الخلاصة الأخرى التي يمكن أن نخلص إليها، هي طمس المرويات التي تنسب إلى هذا القاص وأمثاله، وكل المرويات التي ظهرت قبل الإسلام، ثم وجد الرواة أنها تتعارض مع جوهر الرسالة الدينية، ذلك أن القرآن حجب هذا الضرب من المرويات بالشكل الذي كانت عليه في العصر الجاهلي، ولم تسمح البنية الثقافية ذات الطابع الإسلامي بروايتها، واختفت، إلاّ تجلياتها الثانوية التي اندرجت في سياق أخبار أخرى، وهى تجلّيات لا يمكن تتبع أصولها، ويحيط الغموض الكامل بكل ما يتصل بها.
تميم بن أوس الداري وفد إلى الرسول من الشام، وأسلم، وصحب الرسول في غزواته، وكان مقرّبا إليه، يحدّثه بأحاديث الأولين وأخبارهم، فروى الرسول عنه ثمانية عشر خبرا، ما وصل إلينا منها يندرج ضمن القصص الشائع في ذلك العصر(21). وفي هذا يقوم الرسول برواية عن تابع. اهتم الرسول بتميم الداري، وأبرز ما رواه عنه أمام جمع من المسلمين قصة "الجساسة" التي رواها تميم له، ومؤدّاها أن تميماً وصحبه ركبوا سفينة في البحر، وكانوا ثلاثين رجلاً، فلعب بهم الموج شهراً، فأرفؤا في إحدى الجزر، فخرجت إليهم دابة مغطاة بالشعر، لا يعرف جنسها، تدعى"الجساسة" أخبرتهم أنّ رجلاً في الدير الكائن في الجزيرة ينتظرهم، وما أن يصلوا إليه، فإذا به إنسان كبير، عظيم الهيكل، وقد كبُل جسمه بالحديد، فيخبرونه خبرهم، فيسألهم عن نخل بيسان وبحيرة طبرية وعين زغر(= بلدة في الشام) ثم يسألهم عن الرسول هل خرج من مكة ونزل يثرب؟ فلما يجيبونه عّما سأل، يخبرهم أنه المسيح الذي أوشك أن يؤذن له في الخروج، وأنه سيطوف الأرض ومدنها، إلاّ مكة والمدينة فهما،كما يقول " محرمتان عليّ كلتاهما، كلّما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منها، استقبلني ملَك بيده السيف صلتاً يصدّني عنها، وأن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها"(22). وافقت قصة تميم الداري ما كان الرسول يحدّث به المسلمين من قصص عن الدجال وابن الصياد، وعلى الرغم من أنّ قصة " الجساسة " ذات منحى خرافي، فإنها وجدت لها مكاناً بارزاً في متون الثقافة الإسلامية، وتوردها كتب الصحاح والمساند، لأنها وافقت أحاديث الرسول آنذاك، وعنصر النبوءة فيها جعلها تأتي دليلاً على نبوّة الرسول، فهي من هذه الناحية تدعم حقيقة النبوّة بتجذيرها في التاريخ والوعي والذاكرة.
النبوءة مظهر ثابت في المرويات السردية الجاهلية، فذلك العنصر جزء من الحكايات التفسيرية التي يختلقها القصّاص للتوافق مع الحالة التي استجدت بظهور الإسلام. الحكاية التفسيرية أسهمت بدرجة كبيرة في قبول المرويات الجاهلية في سياق الثقافة الإسلامية، لأنها أدرجتها في خدمة الدين، وتثبيت النبوة. في الثقافات التقليدية يعدّ التأصيل شرطا أساسيا لتحقيق فاعلية الأدوار والأشخاص، فكون النبوءات القديمة تدشن لظهور الرسول، وتتنبأ به، أمر يجعل من وجوده حدثا مرتقبا في المخيلة الجماعية، وذلك يزيح العوائق أمام النبوّة، فالذاكرة في الثقافات الشفوية تؤدي وظيفة معيارية في قبول الحقائق اللاحقة، في حين تؤدّي المخيلة وظيفة الغموض الخاص بمصادر القوة، ومنها مصادر النصوص الشعرية والسردية، بما فيها النصوص الدينية، فتشيع ثقافة الإلهام والإيحاءات المتواصلة التي لا تتوقف إلا بظهور التفكير الكتابي الذي يحول دون القبول بالتوهمات التي تشيعها المرويات الشفوية الكبرى. أفضت هذه المعطيات التي كان يوفرها تميم الداري للرسول من مرويات وأخبار إلى تثبيت موقعه بوصفه رائداً للقصص الإسلامي بعد أن آمن بالإسلام، وتصدّر بذلك تاريخياً فئة القصاص المسلمين، وبدأ رسمياً القص في مسجد الرسول بالمدينة، وسنعود إلى ذلك في سياق معالجتنا لقضية ريادة القصص الإسلامي.
يكشف هذان الموقفان المنتخبان من مجموعة من المواقف الخاصة بوجهة نظر القرآن والرسول في القصص والقصّاص، أنّ كل ما لا يوافق الرؤية الدينية لا يمكن روايته أو قصّه، وأن كل خبر يمكن أن يسهم في تقوية الرسالة الدينية والرسول، سواء بالإعلان المباشر، أو الإيحاء فليس ثمة ما يوجب حجبه كائناً ما كانت صفته، وصيغته، وأسلوبه، وموضوعه، إنما يصبح على العكس من ذلك مهماً لأنه يؤدي وظيفة تخدم الدين. وفي ضوء هذا يمكن تفسير ضروب الطمس والإقصاء التي تعرضت لها كثير من المرويات السردية الجاهلية التي كانت تستثمر المعتقدات القديمة، ومنها كثير من الخطب والمنافرات والشذرات المنسوبة إلى الكهان وغير ذلك من الأوابد العتيقة، والمرويات التي وصلت إلى أيدي المدونين الأوائل هي التي كيّفت نفسها مع منظومة القيم الاعتبارية الجديدة التي أرساها الإسلام إلى درجة يمكن القول فيها، إنّ الإقصاء سيشمل حتى القصص المكتوب إذا تعارض والروح الإسلامية التي بدأت تترسخ في شتى مجالات الحياة، فإذا أخذت الأمور، كما هي، فإنّ قول النضر بن الحارث بأنه كان يكتتب قصص الأولين، يعّد، إذا ثبت، دليلاً على أنّ كل ما نسب إليه طمس وأقصي، لموقفه الذي بينّاه من الإسلام، وقُطعت أية نسبة ممكنة بين هذا القاص والمرويات التي كان يرويها في مكة، وكثير منها ينتمي إلى ثقافات ما قبل الإسلام، ولم يبق إلاّ موقفه المناهض للإسلام دليلاً على معارضته الرسول.
جُرّد النضر من مروياته التي أتى بها من بيئات ثقافية وعقائدية مختلفة، ووضع في فئة الضالين المؤذين للإسلام ، في حين دفعت قصصه ومروياته إلى الوراء لتحجب، فلا يراد لمثل تلك المرويات أن تدخل الذاكرة لأنها اقترنت براوٍ لم " يوفّق" في خدمة الدين، وعلى العكس من ذلك، فإنّ مرويات تميم الداري وجدت لها صدى طيباً ومكانة مرموقة في نفس الرسول، والمدونات الإسلامية فيما بعد، على الرغم من أنه ليس لدينا إشارة إلى أنها كانت مكتوبة في أول أمرها، وينقلنا كل هذه إلى قضية التدوين التي تمثل الحاجز الثاني الذي كان على المرويات السردية الجاهلية أن تتخطّاه لتصل إلى الأجيال اللاحقة.

3. السرد وعصر التدوين: إقصاءات تاريخية
أختلف المؤرخون بشأن تدوين الآثار العربية، وطال الخلاف كل شيء بما في ذلك المرويات الدينية المنسوبة للرسول. معلوم أن القرآن كان يدوّن تباعاً في زمن الرسول، وأنه جمع في عهد خلفائه الأُول ثم صدر كاملاً مرتباً بصورته المعروفة الآن في زمن الخليفة عثمان بن عفان. بُتّ في هذا الأمر على تلك الصورة لأسباب دينّية، بيد أنّ حاشيته، وهو الحديث فقد جرى عليه ما جرى، شأنه في ذلك شأن أي مرويات ظهرت في ذلك العصر، صفة القداسة الملازمة للحديث النبوي لم تحل دون الوضع الذي لحق به، بعد أن تأخر تدوينه، والرأي الشائع أن الرسول حظر تدوين الحديث، أول الأمر، خشية الاختلاط بالقرآن، وهذا الحظر فهُم، ضمن ممارسات التواصل الثقافية-الشفوية في ذلك العصر، على أنه نوع من المنع الذي استمر طويلاً بعد وفاة الرسول. وتباينت الآراء بين قائل إن بعض الأحاديث دوّن في زمن الرسول والخلفاء الراشدين، ولكن في نطاق محدود جداً، وبين قائل إن تدوينه بدأ في عهد عمر بن عبد العزيز في نهاية القرن الأول الهجري (23). بيد أن التدوين بوصفه عملاً منهجياً دقيقاً ومنظماً عرف نحو منتصف القرن الثاني الهجري(24) وفي نصفه الثاني تشكّلت "المادة الدينية" الخاصة بمرويات الحديث النبوي، وصنّفت، وبدأت في القرن الثالث تظهر المصنفات الكبرى التي مازالت معتمدة ومقدسة إلى الآن. الأسباب التي يمكن الركون إليها: هيمنة المشافهة، موقف الرسول من الكتابة، ندرة الوسائل الكتابية، بما فيها عدم تطور رسوم الألفاظ العربية، بدرجة كافية تتيح المجال أمام التدوين الشامل، كما تكشف رسوم الكتابة القرآنية، التي تنهض دليلا، إلى هذا اليوم، على عدم اكتمال أحرف العربية المرسومة في النصف الأول من القرن الهجري الثاني، ولكن الإطار الشفوي للتعبير والتراسل هو الذي رتّب أمر عدم الاهتمام بالكتابة، حتى لو استقرت المعرفة الكتابية، كما سيظل ذلك واضحا في الثقافة العربية خلال القرون اللاحقة.
تكشف الرحلة الطويلة التي مر بها الحديث النبوي قبل أن يستقر نهائياً في مظان معروفة ، ما سكتَ عنه التاريخ بصدد المرويات غير الدينية التي لم تكن مصادر للتشريع والأحكام كما هو الأمر بالنسبة للحديث. وبعبارة أخرى، تأخرت عملية تدوين الحديث مع أهميته القصوى في تاريخ الرسالة المحمدية، فكيف بالمرويات السردية التي لم تكن تنطوي على أهمية تناظر أهمية الحديث! ليس لدينا ما نطمئن إليه من إشارة حول الموضوع طوال القرن الأول، وربما معظم القرن الثاني، وبعد منتصف القرن الثاني بدأت تتوارد أنباء متفرقة وضئيلة حول جمع الأخبار والمرويات وتدوينها، وجميع الكتب الخاصة بذلك عرفت بعد ذلك بمدة طويلة. والاحتمال الأكثر قبولاً أنها كانت تتواتر بين الرواة، وقد احترف كثير منهم الرواية، كما هو معروف. بيد أنّ عودة من النصف الثاني للقرن الثاني الهجري إلى القرن الأول تبين لنا تضاؤل عدد الرواة المحترفين وتناقصهم، ولا نعثر طوال القرن الأول إلاّ على رواة هواة يرافقون الشعراء ويأخذون عنهم، هو تقليد جاهلي شائع. لكن الإخباريين، بدأوا في الظهور في النصف الأول من القرن الأول، وتمكّنوا مع مطلع القرن الثاني من جمع بعض المرويات. فإذا أخذنا مثالاً على ذلك، سيرة الرسول، آخذين بالنظر الأهمية الاعتبارية والدينية والتاريخية للشخص الذي تدور حوله، فإنّ أول رواتها، وهما اثنان، يشكلان الطبقة الأولى من طبقات رواة السيرة النبوية: عروة بن الزبير وأبان بن عثمان، توفيا على التوالي في عامي 94 هـ و 105 هـ، قبل أن يضعا مادتها بين يدي الزهري الذي توفي عام 124 هـ وموسى بن عقبة الذي توفي عام 141هـ ، والى هذين الأخيرين تعود بلورة الإطار العام للسيرة شفوياً، وهى المادة التي وصلت إلى ابن إسحاق المتوفى في عام 151هـ والذي له الفضل في تثبيت مادة السيرة بالصورة التي لا تختلف كثيراً عما وصلت إلينا بتهذيب بن هشام المتوفى 213 هـ(25) استقرّت السيرة النبوية مدوّنة في مطلع القرن الثالث. ومع كل هذا فليس لدينا دليل يؤكد اهتمام هؤلاء وغيرهم بالرواية الأدبية المحترفة، ذلك أنّ الأخبار حول الرواية والتدوين تبدأ بالتواتر مع نهاية القرن الأول، بالنسبة لأحاديث الرسول، في حين تأخر تدوين السيرة، فإذا أخذنا أهمية هذين الموضوعين في تاريخ الإسلام، واستئثارهما بالأهمية الأولى، يرجّح أنّ تدوين المرويات الأخرى تأخر إلى وقت لاحق، لا يمكن التثبّت الدقيق منه، لأن كل شيء كان يسبح في فضاء الشفاهية اللامتناهي.
شُغل التدوين بالقضايا التي ظهرت في عصره، ومن الطبيعي أنّ يدوّن المدوّنون المرويات المقبولة والمتداولة في عصرهم، ويهملون كل ما يخالف ذلك، ويتجنبونه. ولما كان عصر التدوين- ولنقل على سبيل التجّوز القرن الثاني الهجري بعامة - مختلفاً في مشكلاته السياسية والاجتماعية والروحية عن العصر الجاهلي، فضلا عن حقبة صدر الإسلام، فإن كثيراً من المرويات التي استلهمت العصر الجاهلي، واستثمرت معطياته القبلية والدينية لم تجد مكاناً في مدونات عصر التدوين في ظل المؤسسة الدينية- السياسية التي لها منظورها وتصوراتها الخاصة بها، ذلك أن هذه المؤسسة نشأت، في الأساس، على افتراض نوع من القطيعة الثقافية والروحية مع ذلك العصر. القطيعة التي تقول بأن الأصل الأول والتام والمطلق تأسّس بالنص الديني الذي جبّ ما قبله. هذا يعني أن كثيراً من المأثورات والمرويات استبعدت لمخالفاتها طبيعة العصر، وكانت استبعدت قبل هذا؛ لأنها تعارض موقف الإسلام. وإذا تحدثنا عمّا طابق الإسلام منها، ووجد له مكاناً في المرويات الشفوية التي لم يبطلها الإسلام؛ فإنه ظل أسير التداول الشفوي طوال القرن الأول وطرفاً من القرن الثاني، وتعرّض للاكراهات التي تفرضها المشافهة وتغير الأحوال الدائم، ذلك أنّ الشفاهية كانت نظاماً اتصالياً مهيمناً، وجميع هذه الاعتبارات ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد، حينما يجري الحديث عن المرويات القديمة. ثمة حواجز يصعب اختراقها، لم تذكر أخبار الأوائل، كما يقول المسعودي، لأن " أصحاب الشريعة" ينكرون ذلك ويمنعونه (26).الأمر الذي أدى إلى إسقاطها وطمسها مع الزمن، أو وضع أطر دينية تسهل عليها الاندراج في المرويات الإسلامية.
لكن الحدود التي رسمها الإسلام للقص، لم يقتصر دورها على طمس المرويات القديمة أو تنقيحها، إنما أصبحت إطارا انتظمت فيه شؤون القصص الإسلامي. القصص في ظل الإسلام إحدى أهم الظواهر الأدبية الجديدة. مازالت تلك الظاهرة شبه معتمة، ومنسية، ومرمية خارج مجال الوعي الأدبي العام، ولا يكاد أحد يفكر بها، وهي تحتاج، أكثر من غيرها، إلى إضاءة تكشف، ليس فقط تحيّزات المركزية الدينية في صوغ أطر القصّ الإسلامي، إنما رسم الدور الديني للقصاص الذين تكاثروا، بصورة تثير الدهشة، قبل أن تتمايز الحدود بين البعد الديني للقصص والبعد التخيلي، وتنبتّ الصلة بين القصّ والتذكير، وتتأزم العلاقة بين المرجعيات الدينية الثابتة، والمرجعيات السردية المتغيرة.

4. القصّ: إشكاليّة الريادة الزمنية

اختُلف في أول من جعل القصّ مهنة له في الإسلام، وكنّا رأينا أن الرسول روى عن تميم الداري حكاية "الجسّاسة" فيكون قصّ في زمن النبي. هذه الواقعة بذاتها تمنحه فضلا رياديا كبيرا، وقيمة فضلى، تماثل قيمة قس بن ساعدة الذي روى الرسول خطبته. حينما يتعلّق الأمر بمرويات الرسول لا نجد في المظان القديمة إلا التسليم الكامل بأهمية الأشخاص الذين يروي عنهم. يظهر تضارب كامل في النصوص المروية عن الرسول، لكن الشك لا يلحق صدق الوقائع. ارتبط تميم الداري بالرسول فانتزع ريادة القصص الإسلامي. لكن الداري قاص مخضرم، جرى إعداده، مثل النضر بن الحارث، في العصر الجاهلي، وبأفول ذلك العصر أصبح أهم قصّاص العصر الجديد. لو قورن بمعاصره النضر بن الحارث لتبيّنت الكيفية التي تتقاطع بها مصائر القصّاص في ظلّ التغيرات الدينية. يرتحل النضر من الحجاز إلى العراق وفارس ويعود محملا بقصص الآخر، فيدفع حياته ثمنا لعصيان روحي، وشكّ لا يخفى بالعقيدة الجديدة، فيما يأتي الداري من بلاد الشام، محملا بسيل من الحكايات الغريبة، فينتزع مكانة سامية؛ لأنه دعم النبوّة، وعزّز من قيمتها في حقبة التأسيس الأولى. القص بذاته يصبح فيصلا ليس بين الحق والباطل، إنما بين الحياة والموت. حينما يذكر النضر يرتسم دوره المعيق للإسلام، وحينما يذكر الداري يرتسم دوره الممهد للإسلام. لنعمق التناقض بين الاثنين لكي يتضح انكسار النسق الثقافي العام، وتحوله باتجاه جديد، ثم لكشف المصائر المتقاطعة لقصّاص الجاهلية وقصّاص الإسلام.
لا يمكن فهم ريادة الداري إن لم تعرض بمواجهة نقيضه. يُدرج الداري عادة في الموروث الإسلامي ضمن " مؤمني أهل الكتاب" ومن" العالمين به" إلى جوار عبدالله بن سلاّم، وسلمان الفارسي، والنجاشي(27).كان نصرانيا، فجاء وبايع الرسول وأسلم، وأحاديثه وافقت أحاديث الرسول عن المسيح الدجال(28)، وكان" يقرأ القرآن كله في ركعة"(29). نذر نفسه من أجل الإسلام، حمل من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا، فعلّق القناديل، وصبّ فيها الماء والزيت وجعل فيها الفتيل، فلما غرُبت الشمس أمر فأسرجها، وخرج الرسول إلى المسجد، فإذا هو بها تزهر، فقال: مَن فعل هذا ؟ قالوا: تميم الداري يا رسول الله. فقال: نوّرتَ الإسلامَ، نوّر اللهُ عليك في الدنيا والآخرة، أما إنه لو كانتْ لي ابنة لزوّجتكها، فأنكحه ابنة نوفل بن الحارث(30). هذه إنارة رمزية. أسهم الداري في توسيع مساحة الإسلام المضيئة. أما النضر بن الحارث فمدخله إلى العقيدة الجديدة مناقض كليّة، يريد أن يطفئ نورها، ويسقطها في ظلمة الجاهلية. عارض القرآن متهكّما، فقال "والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا، فاللاقمات لقما"(31). محاولة مقصودة لتخريب الإسلام من الداخل. تهديم النص المقدّس بمحاكاة ساخرة. خرج إلى الحيرة " فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، فكان يقرأ على قريش، ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين، أي ليس هو من تنزيل"(32). قال ابن عباس" قالوا للنضر بن الحارث ما يقول محمد؟ قال: أرى تحريك شفتيه، وما يقول إلا أساطير الأولين، مثل ما أحدّثكُم عن القرون الماضية، وكان النضر صاحب قصص وأسفار، فسمع أقاصيص في ديار العجم، مثل قصة رستم واسفنديار، فكان يحدثهم"( 33) تهمته التي لا تغتفر التجديف بكتاب الله.كان يقول فيه ما يقول، فأمر النبي بقتله(34). هذه المقارنة يراد بها كشف الخلفية الدينية للداري والنضر، لكي تفهم الظروف التي بوّأت الداري مكانته الأولى بين قصاص الإسلام.
دشّن الداري لوظيفة القاص الدينيّة في المسجد. أصبح القصّ مهنة تشرف الدولة عليها، مجالسه معروفة، ومعلن عنها بأوقات محدّدة، وفحواها الوعظ والإرشاد، ولم يتردّد بعض الخلفاء في حضور تلك المجالس. تلقّى القصاص دعما مباشرا من المؤسسة الدينية، لكن بروز نزعة التشدّد المتأخرة، أظهرت تأويلا مختلفا لموضوع القص في عهد الرسول والخلفاء الراشدين،كما أنها شكّكت بريادة القصّاص، وعالجت الموضوع من واقع حال القصّاص المتأخر. جرى تجاهل التاريخ، وتوارت الوقائع خلف التفسيرات الضيقة لحقبة شبه مفتوحة تتداخل فيها الوظائف والمؤثرات والأصول الثقافية. في ضوء الصورة القاتمة للقصّاص، بعد القرن الثالث، لا يمكن قبول وجودهم في مسجد الرسول، ولا في عصر الصحابة الأُول حيث الحقيقة الإلهية مازلت تفعم القلوب المؤمنة بدفئها، وشهود العيان أحياء. تُنسى الواقعة الأصلية لكي يصحّ التفسير المتأخر. تشوّش مفهوم الريادة الزمنية لمدة طويلة، وتعدّدت الآراء حوله : رأي يذهب إلى أنه لم يقصّ أحد في زمن الرسول والخلفاء الراشدين، إنما ابتدأ القصّ بعد الفتنة (35)،كما تؤكد مرويات منسوبة لابن عمر (73=692)، وهو رأي شائع تنامى في القرون المتأخرة، وصاغ رؤية السلف للقصص. ورأي آخر يؤكد أن القص ابتدأ مع خلافة الراشدين، وفي عهد عمر بن الخطاب(36) وهو أقل شيوعا، ثم الرأي الذي يؤكد أن القصّ ابتدأ في زمن الرسول، كما قدّمنا في موقفه من الداري والنضر بن الحارث، وهذا الرأي يجري قبوله على مضض،كأنه ترياق مميت، لا خلاف حول المكانة الرفيعة للداري في الإسلام، ولكن حينما يُربط أمره بالقص، فينبغي البحث عن تأويل أو تخريج ما.
عُرف القصّ في عهد الرسول، وعصر الخلفاء الراشدين، وفيهما عُرف القاصّ المحترف الذي يتّخذ القصّ مهنة مشرّفة يفتخر بها، ويتلازم حضوره في المسجد مع القارئ والمحدّث، تقدّم تلاوة القرآن، فرواية الأحاديث، ثم استذكار وقائع المسلمين، ووقائع الأمم القديمة، على سبيل الوعظ والاعتبار.وظائف القارئ والمحدّث والقاص متضافرة فيما بينها. في القرون التالية سيجري تفريق كامل بين هذه المكونات العضوية التي عرفها الإسلام المبكّر. سيلفظ القاص خارج المسجد، وسيستأثر شخص واحد بالقراءة والحديث والوعظ وإمامة المصلين. تكرّست كثير من مظاهر الفردية في المسجد، وبمرور الوقت نُسيت مظاهر التنوّع الأولى. أما ربط القص بالفتنة، فيعود، فيما نرى، إلى موقف سياسي وأخلاقي لاحق مضاد للقص يصدر عن ذمّّه. ففي لحظات الانكسار الكبرى، يتم تعميم المساوئ، وينشط البحث عن مسببّين، وترمى التهم جزافا. براءة القصّاص من الفتنة تؤكدها علاقة الرسول والخلفاء الراشدين بهم.
يروى بأن الرسول خرج على قاص يقصّ، فأمسك. فقال له" قص، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب".وهو حديث تورده المصادر القديمة(37). لكن الأخبار المتأخرة توارب كثيرا في الموضوعات الحساسة، فالمؤلفون الممتثلون لثقافة عصورهم، ينقسمون إلى عارفين الحقيقة لا يجرؤن على التصريح بها، أو جاهلين بها لا يتصورون وقوعها، ورسم الصورة ممكن عبر بناء سياق يفسّر لنا موضوع الريادة، ويضفي على تلك الأخبار المتناثرة قيمتها الحقيقية، وهنا يتقدم جميع القصّاص تميم الداري(38)، يليه عبيد بن عمر (39) فالأسود بن سريع(40). فعن الزهري أنه قال" أول من قص تميم الداري على عهد عمر، أستأذنه في كل جمعة مقاما، فأذن له فكان يقوم. ثم استزاده مقاما آخر، فزاده. فلمّا كان عثمان استزاده مقاما آخر، فكان يقصّ في الجمعة ثلاث مرات(41). وعدّت ريادته في القصص الإسلامي نوعا من" الأولية بالنسبة إلى الأمة المحمدية "( 42).
المسجد هو مكان القاصّ، فتميم الداري، كان يقصّ في مسجد الرسول، استأذن عمر بن الخطاب في ذلك، فأذن له، وداوم على حضور مجلسه(43). الأخبار تتضارب حول موقف عمر من الداري، بعضها ذهب إلى أن تميم الداري استأذن عمر، فأذن له، فقصّ قائما، وبعضها ذهب إلى أن تميما استأذن عمر في القصص سنين، فكان يأبى عليه، فلما أكثر عليه، قال له: ما تقول؟ فأجاب: أقرأ عليهم القرآن، وأمرهم بالخير، وأنهاهم عن الشر. قال عمر: ذاك الربح، ثم قال: عظ قبل أن أخرج للجمعة(44). وفي هذه الفترة، بدأ عبيد بن عمير يقص، وبما أنه ثبت أن الداري قصّ في حياة الرسول، فالمرجّح أن عبيد بن عمير أول من قص على عهد عمر بن الخطاب(45).
يقوم القاص في المسجد بعد صلاة الصبح، فيذكر الله تعالى، ويدعو، ويؤمّن الناس، وذلك خلف المقام بعد تسليم الإمام. وكان عبيد بن عمير أول من فعله( 46). وكان القصّاص يتوزّعون الوقت فيما بينهم بالتناوب.أما أبو حازم القاصّ، فكان يقصّ فجراً وعصراً في مسجد المدينة، وعلى هذا سار الأسود بن سريع في المسجد الجامع بالبصرة، وهو أول من قصّ فيه(47).كان ابن سريع أمضى شطرا من حياته يغزو مع الرسول. شاركه في أربع غزوات(48)، والغزوات غير السرايا، فهي التي يقودها الرسول بنفسه، وحينما وصل البصرة، خاطب البصريين في المسجد، قائلا: إني والله ما أتيتكم لأجلس إليكم، ولكني رأيتكم صنعتم شيئا أنكره المسلمون، فإياكم وما أنكره المسلمون(49)، فاحتلّ الجزء الخلفي من المسجد الجامع، يقصّ فيه إلى أن توفي في الفترة الفاصلة بين الخلافتين الراشدية والأموية. هذا التقليد سرعان ما انتشر في سائر المدن والثغور الإسلامية الأخرى، فسعيد بن جبير كان يقصّ في مسجد الكوفة. توطّد القصّ في قلب المساجد، وأصبح جزءا أساسيا من الطقوس التعبديّة فيه. يقول ابن عون(151=768) أدركت مسجد البصرة « وما فيه حلقة تنسب إلى الفقه إلاَّ حلقة واحدة تنسب إلى مسلم بن يسار، وسائر المسجد قصّاص»(50). وبالنظر إلى أهمية القصّ أصبح القصّاص يعيّنون من الخلفاء والولاة. عَّين سليمان التججبي عام 38هـ قاضياً في مصر، ثم عُزل عن القضاء، وأُفرد بالقصص، وظل يقصّ سبعاً وثلاثين سنة، تلاه الخولاني، وأبو الخير اليزني، والحضرمي طوال القرن الهجري الأول، ومكان القاص كان المسجد العتيق، الذي بناه عمرو بن العاص(51) وتتردّد أخبار القصّاص الآخرين في مصادر السنة النبوية والتاريخ والأدب.
ارتسمت للقاص صورة تقوية بالغة التأثير في القرن الأول، وظل محافظا على هذه الصورة معظم القرن الثاني. وأول ما عُرف " قاص الجماعة " الذي كان مركزا أساسيا لا يقل أهمية عن قاضي الجماعة، يحتشد حوله المستمعون في المجالس، ومكانته مناظرة لمكانة المحدّث والقارئ. إنه شخصية تلوذ بها الجماعة، فيستعيد، عبر قصصه الوعظية، بناء التجربة الإسلامية بوساطة السرد. عبدالله بن كثير تبوأ هذا المركز المرموق، في وقت مبكّر(52) وشيئا فشيئا غزا القاص وعي العموم، واختص برعاية كبيرة، ومكانة رفيعة، فعبيد بن عمير سمّى بـ" قاص أهل مكة"(53) وشيبة بن نصاح، عرف بـ" قاص أهل المدينة" واشتهر بمواظبته على الورع، والدين الصحيح(54)، وسمي بالاسم نفسه مسلم بن جندب الهذلي الذي توفي في مطلع القرن الثاني(55) فاسماعيل بن رافع(56) ثم ابن أبي السائب(57). وحاز على لقب" قاص الكوفة" ابن خالد الجدلي، الكوفي العابد(58) في حين أصبح إدريس الخولاني، الذي قال مكحول عنه" ما رأيت أعلم منه " قاصا لأهل الشام، ثم قاضيا عليهم، في ثمانينيات القرن الأول(59) وتبوّأ الموقع نفسه النضر بن عمر(60). وعرف قصّاص الثغور والأجناد في القسطنطينية وسواها(61) .
ظاهرة تكاثر القصّاص، وبروز أهمية القصص في الحياة الدينية،لم تظل أسيرة المساجد، إنما وجدت طريقها إلى مجالس الخلفاء وقصورهم. اتخذ بعض الخلفاء قصّاصا لهم.لم يرد ذكر ذلك في عهد الراشدين، لأن التواصل، بين الخلفاء والقصّاص، كان مباشرا في المدينة. بتوسّع دار الإسلام، تغيرت ليس العلاقات، إنما الأدوار. ربما يكون معاوية بن أبي سفيان أول من استنّ ذلك، فاستقدم القصّاص والرواة إلى قصره في دمشق، يصغي إليهم، وهم يعيدون بناء الأحداث والوقائع بصورة حيّة في مجلسه، ومرّ بنا موقفه مع سحبان وائل، وفيه اتضحت سلطة الخطيب-القاص- المذكّر، حيث تعطل دور الخليفة، وتوقفت طقوس الصلاة في حضرة الخشوع المطلق. وعُرف عن هشام بن عبد الملك أنه اتخذ سليمان بن حبيب المحاربي قاصا له، وكان من" المتعبدين" ولاّه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز قضاء دمشق، وتوفي في بداية العقد الثالث من القرن الثاني(62)، واتخذ عمر بن عبد العزيز محمد بن قيس المدني قاصا له (63) وكان عمر يتخشّع بين يدي قصّاص العامة(64). وظهرت أسرة الرقاشي في البصرة، في وقت مبكر، واستأثرت بالقص نحو قرنين من الزمان، تتعاقب فيها الأجيال والطبقات. وفي منتصف القرن الثاني، برز صالح المرّي في البصرة أيضا، وانجذبت إليه الجموع، فكان ينغّم قصصه بالحزن، فيؤثر فيها تأثيرا كاسحا، حتى إن سفيان الثوري وصفه بأنه ليس قاصا، إنما هو نذير، واقترن قصّه بالتحزين، وهو أول من أش