دراسة مقارنة لعمارة الحضارة الإسلامية مع الغربية

بقلم رفعة الجادرجي

1 ـ المقدمة
إن البحث في ظاهرة الجمال في عقل الإنسان، هو البحث في قيمة تمنحها الذات إلى التكوين الشكلي لمصنع ما، و لا فرق أكنا نبحث العمارة أم الرقص أم الأدب أم المنحوتات. لذا البحث في جمال عمارة الحضارة العربية ـ الإسلامية، يتعين أن يكون بحثا أولا في المبادئ الأولية لعموميات العمارة، و القيم التي تمنحها و تحققها حسية الإنسان للصفات الإبتمالية القائمة فيها، أو المحملة عليها، على شكل العمارة عامة. و من ثم يواصل البحث إلى العينيات التي حققتها الحضارة المعينة. و إلا يكون موقفنا من البحث في العمارة، بمثابة القفزة إلى استنتاجات قبل تحقيق استقراءات مناسبة و من غير عرضها إلى فحص صارم. سيصبح البحث في أحسن حالاته، عموميات، قليلة المعنى.
* ( إن صفة الإبتمال optimality في تحقيق المصنَّعات artifacts و التعامل معها، هي ذلك التوازن المناسب بين إرضاء حاجة الفرد لتأمين البقاء، و قدرات الطاقة المستنفدة، أي القدر الأجدى في إرضاء الحاجة و الكم الأقل من استنفاد الطاقة، شرط أن يحقق هذا التوازن الموقع المناسب للفرد في مجال المنافسة. و شرطه الثاني، تداخل الوعي و الحس sensibility بهذه الصفة القائمة و المبتكرة في المصنَّعات، و منحها قيمة ذاتية، مع تلك الصفات الإبتمالية القائمة في الظواهر الطبيعية)(1) .
يتطلب هذا البحث تحديد و تعريف بنيوية العمارة(2) و القيم المبتكرة ضمنها: كيف تتحقق، و من يحققها. بمعنى آخر، ما هي المقومات و الآليات و الحركات المعرفية و العاطفية التي تؤدي إلى ابتكار الشكل لمصنّع artifact ما، سواء أكان عمارة أم منحوتة؟ و ما هي مقومات و حركات الدورة الإنتاجية(3) التي تحقق شكل المصنع، و كيف يحمل هذا الشكل معرفة و عاطفة الشيء، و كيف تتقدم قدرات حس الفرد المتلقي و المشاهد، فتمنحها قيمة؟ و كيف و متى تترجم القيمة بكونها صفة للجمال؟ لا يمكن لنا هنا الدخول في هذه المقومات، إلا بصيغة مختزلة.
* ( الشكل form، هو ذلك الكيان الملموس و الذي يظهر للوجود ليقوم بوظيفة معينة، و يكون ظهوره محصلة لمتطلبات وظائف حاجة معينة. فيأخذ هذا الكيان وجوداً مستقلاً عن المقومات التي كانت سبباً في ظهوره. كان كارل ماركس ـ في احد رسائله لصديق له ـ ربما أول من عرّف الشكل بهذا المعنى. فعرّف ظهور وظيفة الدولة بالنسبة إلى الطبقة/الفئة التي تقوّمها و تدعمها لتقوم بحماية مصالحها. فتصبح الدولة كياناً مستقلاً، لها مصالحها و تاريخها. فالشكل في العمارة و مختلف المصنعات، ما إن يتحقق و يظهر للوجود، حتى يأخذ موقعاً اجتماعياً حسياً و معرفياً خارج المقومات التي أدت إلى ظهوره. و لذا يستمر في الزمن و يتجاوزها، و يكتسب وظائف أخرى. كتجاوز السيوف في المتاحف لوظيفتها الأساس، و بعض القصور الأوربية التي أصبحت مطاعم، و القلاع العسكرية التي أصبحت متاحف.)

قبل البدء في بحث الموضوع، علينا أن نعرّف العمارة بكونها حاجة يتعين إرضاؤها. و يتحقق ذلك من خلال الدورة الإنتاجية. كما تتحقق صفات الإبتمال ضمن هذه الدورة، و القيمة التي تمنح لهذه الصفة. إن شرط منح قيمة لصفة الإبتمال، هو قدرة الذات الواعية بذات وجودها، منح أهمية لهذه الصفة بكونها أداة مناسبة لتأمين البقاء: راحة الوجود و استمتاع الذات بهذا الوجود ـ الوجود هو وعي الذات ببقاء يمتد بالزمن. فهو بقاء يمتلك مخيلة و ذاكرة تعي بحاضر يمتد في كلا الاتجاهين: الماضي و المستقبل.
فالحس بصفة جمال الأشياء، تنبني أو تظهر ضمن موقف ذاتي للفرد المعيّن المتعامل مع شكل الظاهرة المعينة، أو الشيء العيني. لكن هذا الفعل هو تجربة ذاتية تحصل بتفاعل مع علاقات قائمة للتكوين الشكلي المادي للشيء المتعامل معه. لذا فالقيمة المحصلة في آنية التفاعل هي ذاتية، و لكنها مشروطة بظرف مادي، لأنها تحصل ضمن الدورة الإنتاجية.
يتمتع الفرد الطبيعي بقدرات الحس بصفات الإبتمال القائمة في الأشياء، سواء أكانت الأشياء المتعامل معها هي مصنعات أو ظواهر طبيعية. و لكن هذه القدرات تبقى مسبتة ما لم تحرك و تدرب و تهذب لتصبح فعالة في مجال معين من التعامل مع صفات الإبتمال، المصنعة منها أم الطبيعية.
الإشارة إلى تكوين بنيوية الدورة الإنتاجية ستدلنا على آلية و حركة تحقيق صفة الإبتمال في المصنعات. إن سيكولوجية حسية صفة الإبتمال للفرد الإنسان لا تنشط أو تحرك إلا ضمن الدورة الإنتاجية، و لا تدخل فيها من غير تجربة سابقة في حسها بصفات الإبتمال في الأشياء المتعامل معها، أي من غير تعليم و تجربة و ذاكرة محملة بصفات الإبتمال.
إن من غير هذه المقومات و شروط التفعيل و التعرف على آليات التفعيل و دور صفة الإبتمال في الدورة الإنتاجية، سيكون البحث في جمالية العمارة، في أي طراز كان، في أفضل حالاته، ممارسة لطيفة لا علمية، و عادة كلام فارغ، و في أسوأ حالاتها تنظير غيبي، و انزلاق في أوهام الإلهام. و بما إن منح القيمة هي حالة ذاتية، سيكولوجية حضارية، لذا ستكون قاعدة هذه الدراسة هي مقارنة بين الحضارة العربية ـ الإسلامية مع ما ابتكرت حضارات أخرى من قيم لصفات الإبتمال. و لتسهيل هذه المقارنة سأختار اقرب حضارة إلى الحضارة العربية الإسلامية من حيث الرؤيا للوجود، و تقاربها في الموقع، و هي الحضارة المسيحية.
لقد حققت الحضارة المسيحية، منذ القرن الثاني عشر، نقلات leap كثيرة تضمنت صيغاً متعددة لصفة الإبتمال، و تبعاً قيم جمالية متعددة. بينما حققت الحضارة العربية ـ الإسلامية

1.1.
قيماً جمالية في مرحلة نشوئها، في القرن الثامن، و توقفت في القرن الثاني عشر. و قد وعى العالم العربي / الإسلامي منذ بداية القرن التاسع عشر مع دخول نابليون مصر، بأنه يواجه قيماً جمالية تنبني على معرفة تقنية إنشائية و استطيقية لم يكن له دور في ابتكارها، و لم يتمكّن لحدّ يومنا هذا من استيعابها. أدى هذا التباين إلى عجز القيم التقليدية و تبلد دورها في الإنتاج، فتبلّد الإنتاج بصورة عامة، ما عدا الإنتاج الذي يتحقق بتقنيات و قيم أوربية. فالسؤال الذي ينبغي أن يطرح، لماذا تمكنت الحضارة المسيحية من إحداث هذه النقلات المتعددة، بينما عجزت عن ذلك الحضارة العربية ـ الإسلامية. فالمقارنة بين هاتين الحضارتين ستدلنا إلى البعض من هذه العوامل التي أدت لهذا التباين، و ربما تدلنا إلى موقع عجز الحضارة العربية ـ الإسلامية.
أنا لست بصدد بحث تاريخ هاتين الحضارتين، في هذه المقالة، و إنما حصراً الإشارة إلى بعض الأسباب التي اعتقد أنها رئيسية جعلت من الممكن لمجتمع الأيديولوجية المسيحية أن يحقق نقلات فكرية متعاقبة، في مجال العمارة و الفنون عامة.
* ( تعني الأيديولوجية هنا، مشروعاً فكرياً شاملاً يسعى لتفهم الوجود، و ابتكار رؤيا عامة مختزلة سهلة الفهم.)
في الوقت نفسه تجمدت الحضارة الأخرى، منذ ثمانية قرون، و لم يعد لها دور في أي من هذه التطورات. بل أصبحت منذ القرن الثالث عشر، معقل الرجعية و التخلف. لا شك هنالك ردات حصلت ضمن الحضارة المسيحية ـ و إنا أقصد المسيحية اللاتينية، التي جلست على قاعدة الحضارة الرومانية، و ليس مسيحية الشرق الأوسط أو أرثوذكسية أوربا الشرقية. لا تهمنا هذه الردّات لأن الحضارة الأخرى، العربية ـ الإسلامية، تنافسها في هذا، أو تتشابه معها. و نحن لسنا بصدد بحث تاريخ هاتين الحضارتين، إنما بحث ظرف ابتكار قيم صفات الإبتمال التي تتصف بها العمارة ـ ربما من الأفضل أن نقول بأن الحضارة العربية ـ الإسلامية لم تلاقِ ردّات لتطور جذري في المعرفة في مسيرة تاريخها، كما لاقته الحضارة المسيحية اللاتينية. لأن هذه الأخيرة حققت نقلات معرفية جذرية متعددة. فتعرضت إلى ردّات جذرية كذلك. بينما الحضارة العربية ـ الإسلامية لم تحقق نقلات معرفية جذرية، و استمرت منذ نشأتها في القرن السابع بنفس الأيديولوجية و المعرفة التي تأسست عليها. إن حركة المعتزلة، بالرغم من أهميتها المعرفية المساءلة، لم تكن أكثر من صحوة(4) ، أحبطت في مهدها، و زالت من الخزين المعرفي. لذا، فإن السياسة الرجعية التي جاء بها المتوكل، و زوال حركة المعتزلة، هي إحباط صحوة، و تنشئة معرفة جديدة.

2 ـ الحاجة عند الإنسان
2،1 ـ مفهوم الحاجة عند الإنسان
لقد أقدمت قدرات الابتكار و الذاكرة، التي ظهرت مع الإنسان العاقل، و ابتكرت رؤيا الأيديولوجية. تتضمن الأيديولوجية رؤيا للوجود، بما في ذلك من العقائد و الأفكار و القيم و العواطف، و التي تظهر و تتجسد كأديان و مفاهيم سياسية و فلسفية، و غيرها التي تعبر عن صورة الإنسان و المجتمع في مخيلة الإنسان.
و ما إن تبتكر أيديولوجية معينة، و تعتمد من قبل المجتمع، فتتقدم الدينامكية القائمة ضمن رؤيتها للوجود، و تبتكر الكلجريات Culture المناسبة التي تقوم بوظيفة قيادة و إدارة

1.2.
سلوكيات أفراد المجتمع المؤمنين أو التابعين لهذه الأيديولوجية المعتمدة من قبل السلطة، أو البعض من الفئات ضمن المجتمع المعين. و تبتكر بدورها هذه الكلجريات طقوس المناسبة التي تقوم بدور دعم هذه الكلجريات المبتكرة، و بالتداخل دعم تلك الأيديولوجيات.
* ( الكلجرية(5) culture، هي مجموع المعرفة و الأدوات التي تسخر لقيادة سلوكيات أفراد المجتمع، و توضح العلاقات فيما بينهم. فهناك ضمن المجتمع كلجريات الطهي، و الصدق، و الكذب، و السرقة، و الإنصاف، و الرياضة، و الموسيقي، و الرقص، و الشعر، و الانسجام العائلي، و الدقة في العمل و التأني، و غيرها من مختلف السلوكيات. و لكل منها أدواتها التي تعتبر جزءاً مقوماً ضمن الكلجرية المعينة. و حينما يكون التعليم معرفة متخصصة في مجال معين من إدامة المجتمع، كالنجارة، و القضاء، و اللاهوت، و الطب، حيث تؤلف كل منها كياناً معرفياً مستقلاً، فإن الثقافة هي تلك القدرة المعرفية التي تربط الكثير من مقومات المعرفة و تجعل منها رؤيا منسجمة. و بقدر ما تتعاطف هذه الرؤيا مع وجدانية المجتمع، تأخذ صفة الانتلجنسيا intelligentsia).
فنجد في شبكة التكوين الرؤيوي لمختلف الأيديولوجيات التي ابتكرتها حضارة الإنسان، حدساً لعبثية الوجود. تتمثل هذه الرؤيا بتلك المساءلة في جدوى الوجود، و عبثية الوجود. إنها مساءلات للوجود نجدها في مسرحيات يوربيدوس، و منطق سقراط، و رباعيات عمر الخيام. و قد عبرت عنها عبقرية شكسبير بلسان ماكبث: فيسأل و يشبه الوجود، أوّلاً بشمعة، و ثم بممثل ينهي دوره فيزول:
laquo; يزحف غدُّ، و عدُّ، و غدُّ
بهذه الخطى البطيئة من يوم إلى يوم
إلى آخر لحظة مكتوبة للحياة
و كل أيامنا المضيئة أنارت للحمقى
الطريق إلى الموت المعفّر
انطفئي أيتها الشمعة القصيرة الأجل
ما الحياة إلاّ ظل سائر، ممثل بائس
يؤدي ساعته على المسرح بتبجح و حماسة
ثم لا يُسمع منه شئ. الحياة حكاية
يرويها ممثل أخرق، مشحونة بالصخب و النزق
و لا تعني شيئاًraquo;.(6)
هذه مساءلة لواقع الوجود، و لذا تستمر في الزمن، بل تمتد معه، لأنها تعبر عن هموم سيكولوجية الوعي بهذا الوجود، ما زال هذا الوجود قائماً، و ما زال هناك وعي يعي هذا الوجود. هذه مساءلة لا تخص نظاماً أو ديناً أو سلطة، لأن هذه الأخيرة طارئة في حضارة البشر، و إنما تخص تصادفية ظهور الوعي بالوجود نفسه.
لذا أقدمت القدرات الابتكارية التي تولدت مع تطور ظهور الإنسان العاقل و ابتكرت الحاجة الاستطيقية. فأصبحت حاجة متأصلة في كيانه السيكولوجي. أشبه بما عند الحيوانات التي تمارس الاستمتاع و اللعب، كالكلاب و الدولفين و بعض الطيور، مثلا، و ليس منحى إضافياً تابعاً للحاجتين القاعدية basic ـ تتضمن الحاجة القاعدية: النفعية و الرمزية.
و قبل أكثر من ثلاثة آلف عام من الزمن نجد في ملحمة جلجامش، مختزلا هائلاً يصف العلاقة بين عبثية الوجود و الاستمتاع به. تنصح صاحبة الحانة الملك جلجامش و تقول له:
laquo;إلى أين تسعى يا جلجامش
إن الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة العظام البشر
قدّرت الموت على البشرية
و استأثرت هي بالحياة
أما أنت يا جلجامش فليكن كرشك مليئاً على الدوام
و كن فرحاً مبتهجاً نهار مساء
و أُقم الأفراح في كل يوم من أيامك
و ارقص و العب مساء نهار
و أجعل ثيابك نظيفة زاهية
و اغسل رأسك و استحم في الماء....
و افرح الزوجة بين أحضانك
و هذا هو نصيب البشريةraquo;(7)

و هكذا، منذ إن ظهر الإنسان العاقل، ابتكر وظائف رئيسية لهذا الوجود التي ميزته عن باقي الحيوانات: أولاً، ابتكر صيغ العلاقات الاجتماعية. و ثانياً، ابتكر المصنعات التي يسخرها في تعامله مع متطلبات البيئة(8) . و ثالثاً، ابتكر الصور التي يحملها في مخيلته عن عالم هذا البقاء الذي يسكنه و يجد نفسه فيه، أي ابتكر موقعاً واعياً لذاته في عالمه،

1.3.
ونقل الوعي بحالة البقاء المحض، و جعل منه وعياً بالوجود. أي، ابتكرت قدراته الابتكارية وجودية الذات الواعية بذاتها. رابعاً، أبتكر صيغ الاستمتاع بهذا الوجود، فنقل الوعي بالوجود من واقعه العبثي، إلى وجود متضمن قدرات الاستمتاع. أو، بقدر ما هيأ لنفسه تدريب و تنضيج قدرات الاستمتاع، و بقدر ما سخرها و أستمتع بوجوده، يكون قد منح بهذا القدر قيمة لإنسانيته، و يكون ابتكر قيمة الإنسان.
فأصبح وجود الإنسان الواعي عبارة عن سيرورات من ابتكارات لتفاعل جدلي بين متطلبات خصائص مادية البيئة الطبيعية والحاجة التي يعيها، و التي تبتكرها مخيلته.
فهو تفاعل يمكن ان نفهمه بكونه قوى كامنة في أربعة مقومات: 1 ـ القدرات الابتكارية التي يحملها الدماغ، 2 ـ المناحي الغريزية التي تحملها سيكولوجية الإنسان، 3 ـ القدرات الفسيولوجية التي يستورثها البدن، 4 ـ متطلبات البيئة المتعامل معها، سواء القائمة أم المتغيرة، أم المستحدثة من قبل القدرات الابتكارية ذاتها.
في حركة هذه المقومات الأربعة، يتحول التفاعل بين القدرات الابتكارية و المناحي الغريزية إلى طاقة تحرك سلوكيات الوجود. و من جهة أخرى، يتحول مركب هذه الحركة، و يتجسد و تصبح خزيناً معرفياً و عاطفياً. فتؤلف ذاكرة الأيديولوجيات و الكلجريات و الطقوس و التقاليد، بما في ذلك ذاكرة الأديان و صيغ المعيش و العلاقات العائلية و الاجتماعية و مختلف صيغها الفئوية. فتتفاعل هذه الذاكرة من القدرات الابتكارية، و تصبح فعالة و تنضج، بقدر ما تتهيأ لها فرصة التنظيم و التدريب و التعليم، سواء بسبب جهد خاص، أم حالة تنظيم المجتمع المتفاعل معها.
فأخذ الإنسان قدرات الابتكار المتفاعلة مع الذاكرة، يستحدث و يبتكر مصنعات، بما في ذلك العمارة و العربة و الملابس و أدوات الطهي. و بقدر ما يحس بصفات الإبتمال المحملة على أشكال هذه المصنعات، و يبتكر و ينوع أشكالها، و يتأمل و يتفلسف فيها، و يبتكر لها وصفات و تعاريف، و بقدر ما يمنحها أهمية بالنسبة إليه، أي يمنحها قيمة، فاصطلح عليها بالجمال، و الكمال و الرشاقة و الأناقة. و اصطلح خلافاً لهذه القيم القبح، و البشاعة، و الزيف و أداة نكد العيش. و هكذا تمكن الإنسان إرضاء الحاجة التي يعيها، و التي يبتكرها و يتعرض إليها.

2،2 ـ مقولات الحاجة(9)
تتألف الحاجة عند الإنسان من ثلاث مقولات: النفعية، و الرمزية، و الاستطيقية، و هي مقولات متداخلة و متفاعلة، و لكن لكل منها وظيفتها الوجودية: الحياتية و الاجتماعية. و لذا فالحاجة، عند الإنسان، بطبيعتها هي مركبة. مما أصبح يتعين على الفرد إرضاء كل منها ككيان قائم بذاته، بعلاقة متوازنة بين وظائفها و أداء إرضائها، باعتبارها كياناً مركباً بالضرورة.
1 ـ الحاجة النفعية ـ وظيفة(10) الحاجة النفعية هي تأمين بقاء البدن، إدامته و نموه و تكاثره، حيث تتضمن تأمين المأكل و الحماية و الراحة البدينة و ملجأ المعيش اليومي.
2 ـ الحاجة الرمزية(11) ـ وظيفة الحاجة الرمزية هي إرضاء متطلبات الحس السيكولوجي لعلاقات الذات الواعية بكيانها. حيث تحدد هذه العلاقات مع موقع و مقام الذات بين الأشياء و الظواهر الطبيعية، و بين العلاقات و التراتيبية(12) الاجتماعية، أي مركب هوية الذات. كما إن هذه الحاجة هي وعي سيكولوجي يواجه و يعالج مسألة بقاء و زوال كيان الذات ـ أي الوعي الوجودي بالحياة و الموت. تؤلف وظيفة هذين الحاجتين: النفعية و الرمزية، بما نصطلح عليه بالوظيفة أو الحاجة القاعدية.
3 ـ الحاجة الاستطيقية ـ وظيفة الحاجة الاستطيقية هي إرضاء متطلبات سيكولوجية الفرد في الاستمتاع بالوجود، فتمنحه قيمة، و معنى وجودياً حسياً مستمتعاً. و ذلك بعد ان يحصل تأمين البقاء عن طريق تحقيق إرضاء الحاجتين القاعدية. فسيكون سؤال الذات: و ماذا بعد هذا البقاء غير الزوال! و ما إن يتحقق تأمين البقاء بإرضاء الحاجة القاعدية، ستمل سيكولوجية الفرد من تكرار التعامل، و يصبح الوعي بالوجود حالة مملة. بمعنى، ان واقع تأمين البقاء البيولوجي حالة تبعث السأم و العبثية. هكذا ظهرت الحاجة الاستطيقية، مع ظهور دماغ الإنسان العاقل، و تطور قدراته الابتكارية، كحاجة مستقلة، أسوة بالحاجتين القاعدية، و تأصلت في سيكولوجيته.
فالدار، مثلا، توظف لإرضاء الحاجة النفعية، كملجأ لتأمين الحماية من العوامل المناخية و من خطر العدو، إضافة إلى تأمين حيز للخلوة و العزلة و خصوصية المعيش.
كما أنها ترضي الحاجة الرمزية لأنها توظف لتعبر عن موقع مقام الساكن في المجتمع بالنسبة للآخرين، أي توظف الدار للتعبير عن هوية الذات الساكنة فيها، و عن هوية الجماعة التي تقترن هويتها مع مقام ذلك الساكن.
و أخيرا الدار أداة سرور و استمتاع بالنسبة للساكن، و بالنسبة إلى المشاهد. لذا الدار هي كذلك أداة تسخر في إرضاء الحاجة الاستطيقية، و هي حاجة الاستمتاع بالوجود، و إلا

1.4.
من دونها، لأصبحت الدور التي نعيش فيها، و القرى و المدن التي نتعايش فيها مع الآخرين، مادة جامدة بليدة، أداة ضجر و سأم.
ـ الاستطيقية إذن، ترضي حاجة حس و وعي سيكولوجية الفرد المعين باستمتاعه بوجوده، و سروره بنشوة هذا الحس. إن الأداة المادية لهذا الحس، هي صفة الإبتمال القائمة في علاقات التكوين الشكلي و التي يجملها بدن المُصنَّع.
ـ الفن هو تلك المصنعات التي تؤلف الأداة التي توظف في إرضاء متطلبات الحاجة الاستطيقية، و التي تشمل القطع الفنية كالعمارة و النحت و الرسم و الخط، كما تشمل السلوكيات التي ترضي الحاجة الاستطيقية كالرقص و الغناء و الرياضة و اللعب عامة.
ـ الجمال، هو تلك القيمة الحسية التي تمنحها ذاتية الفرد إلى معالم المصنع و الأشياء، و التي بتعامل القدرات الحسية السيكولوجية معها، تنسر. و بهذا السرور و الاستمتاع، تكون منحت سيكولوجية الذات قيمة لوجودها. فالعمارة و القطعة الفنية النحتية و الموسيقى و العربة و غيرها من التي يسخرها الفرد و المجتمع في إرضاء متطلبات الحاجة المركبة هي مصنعات ابتكرها فكر، و فاعل رؤيته مع مادة خام، فكانت المحصلة كيان المصنَّع. فيظهر المصنع شكلاً ملموساً يتم التعامل معه، بهدف إرضاء حاجة ما.
إن بحث العمارة من غير اعتبار صفة الابتمال و قيمة الجمال في سيكولوجية الفرد جزءا متأصلاً في الدورة الإنتاجية، سيصبح البحث مثالياً و غيبياً، و خارج عن واقعية مادية كيان الأشياء، و مادية وجودية الفرد الإنسان. لذا سيكون من المفيد قبل أن نشير إلى المبادئ الرئيسية للدورة الإنتاجية، أن نشير إلى مقوماتها و حركاتها.

3 ـ الدورة الإنتاجية ـ مراحل الدورة الإنتاجية، آلياتها و مقوماتها
3،1 ـ آلية حركة الدورة الإنتاجية
إن البنيوية العامة لآلية الدورة الإنتاجية هي تفاعل ثلاثة أقطاب في علاقات جدلية:
ـ القطب الأول، الوعي هناك حاجة ينبغي إرضاؤها، و يقترن هذا الوعي بدافع إرضاء هذه الحاجة، مع موقف سيكولوجي يمنحها أهمية بالقدر المناسب، بحيث يقرر استنفاد طاقة بهدف تحقيق إرضائها.
ـ القطب الثاني، التقنية الاجتماعية، و المتضمنة: المعرفة المكتسبة، و قدرات الابتكارية المستورثة، و المادة الخام، و قدرات جسم الإنسان في الحركة، و الطاقة المتوفرة طبيعيا.
كلا القطبين، يظهران للوجود، و يصبحان أقطاباً فعالة في تحريك الدورة الإنتاجية، حينما تقدم سيكولوجية الفرد و تحرك هذين القطبين، فتتفاعل. يحصل هذا ضمن تركيب لدورة إنتاجية، ضمن تنظيم اجتماعي معين، و في زمن و مكان محدد. لذا فالدورة الإنتاجية هي ضمن زمن التاريخ، لا تظهر أقطابها المتفاعلة كمقومات خارج زمن التاريخ.
لذا الإنتاج، و مصنعاته، كالعمارة، تمثل المجتمع، و تعبر عن الحضارة التي يبتكرها لنفسه.
إنها حركة حيث يقدم الكواز و يفاعل الطين في حالته الخام، بهدف تغير هذه الحالة و ابتكار الشكل الذي يكون في مخيلة الكواز، و الذي يؤلف هدف الحركة. في هذه الحركة، ستؤلف خصائص المادة، بحالتها المستقرة/ قوى العطالة، قوى تقاوم حركة الكواز. لذا يستنفد الكواز الطاقة المناسبة لإخضاع الخصائص لتأخذ الشكل المطلوب. و بهذا التفاعل المركب من مخيلة الكواز و الطاقة المستنفدة، يكون الطين قد تقولب و اخذ شكلاً مصنعاً. يحمل معالم تعبر عن مخيلة الكواز و قدراته المعرفية.
أن كفاءة الدورة الإنتاجية، في تحقيق صفات الإبتمال لشكل المصنعات، هي التي تحقق ظهور الحضارات بقدر ما تكون دورات كفوءة و ملائمة في زمانها و مكانها. عكس هذا، بقدر ما تعجز الدورة الإنتاجية عن تحقيق أداء كفء، ستخفق و تخسر موقعاً مناسباً في آليات المنافسة. لذا ستتخلف، و تزول و تستبدل بغيرها، و معها يكون مصير الحضارة التي تنبني عليها.

3،2 ـ قدرات الابتكار و الذاكرة
هناك علاقة متداخلة بين هذين القدرتين: الابتكار و الذاكرة.
إلا أن العلاقة بين الذاكرة و الابتكار ليست علاقة بسيطة مباشرة، و إنما شديدة التركيب و التعقيد، لأن وظيفة كلّ منهما تختلف عن الأخرى. فبتفاعلهما، يفرض كل منهما على الأخرى، شروط التفاعل، فتحدد أو تنشط أو تشوه أو توسع أو تنضج قدرات الأخرى.
فالابتكار له القدرة على ابتكار المعرفة، و الذاكرة لها القدرة في حفظ تلك المعرفة.
و بتقدم أداة الذاكرة و توسعها، تتقدم قدرات الابتكار و تبتكر أداة حفظ الذاكرة. يتمثل هذا بابتكار الأنماط حيث يظهر بصيغ الإيقاع و التناغم و الوزن، و التي تنبني عليها بنية سلوكيات فنون الغناء و الرقص و الرسم و الشعر. كما تبتكر قدرات الابتكار أداة التوثيق عن طريق شكل المصنعات، متمثلة بالكتابة و النحت و العمارة و الرسم و مختلف المصنعات الأخرى. بهذا يوثق المجتمع و يحفظ مختلف ما يبتكر من أيديولوجيات و تقنيات الإنتاج و كلجريات الأديان و الشرائع و القوانين و الأساطير و الطقوس، التي توظّف في تنظيم العلاقات الاجتماعية، و سلوكيات أفرادها.
هذه العلاقة بين المقدرتين: الذاكرة و الابتكار، هي التي تفسر لنا ظهور تنظيم و إدارة العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك رؤيا الأيديولوجيات و الأديان و الآلهة و أنظمة السلطة و غيرها من الأنظمة، و كذلك ابتكار مختلف المصنعات في الزمن. فتظهر كل من هذه للوجود، و تصبح فعالة، فتنضج، و ينتهي زمنها ثم تزول، و يظهر غيرها و يستبدلها. إنها ا

1.5.
لآلية نفسها، في صيغتها الايجابية التي تؤدي إلى ظهور الحضارات الجديدة، و بصيغتها السلبية تؤدي إلى تجميد تطور الحضارات و بالتالي إلى انحطاطها و زوالها، فيحصل استبدالها بحضارة أخرى، أو زوال ذلك المجتمع.
3،3 ـ تفعيل الابتكار و الذاكرة
إن القدرتين: الابتكارية و الذاكرة، هما قدرات مستورثة بيولوجياً، غريزياً، و تبقى كامنة سابتة، و لا تؤلف سلوكيات أو معرفة أو قدرات إنتاج، و إنما إمكان محتمل في انتظار تفعيلها. أي، لا تتحرك و لا تفعل القدرات، ما لم تنشط. إنها إمكانات(13) potentialities ، إن لم تحرك، و تثار، و تدرب و تهذب، ستبقى قدرات فجة، غير مهذبة. لذا على المجتمع أن يهيئ الظرف المناسب لتفعيل هذه القدرات.
بيئة مجال تفعيل هذين القدرتين، متعددة، ربما أهمها: أولاً، صيغة التعليم، ثانياً، حرية الإرادة، ثالثاً، البيئة الاستطيقية لوجود الذات، رابعاً، الموقف من الإنتاج. تتداخل هذه المجالات و تؤلف بتداخلها البيئة الحسية و المعرفية و التعليمية التي يتعامل الفرد ضمنها و معها.
لذا على المجتمع إن يهيئ الظرف المناسب، و الفرص المتضمنة فيه، ليتمكن الفرد المعين، أن يقوم بتحريك قدراته الذاتية المستورثة. فيتقدم و يفاعل الكلجريات القائمة، و يبتكر الجديد منها و التي تتضمن التدريب و التثقيف و التعليم. و يقوم بترويض هذه القدرات و تنظيمها ليتمكن من تحقيق صفة الإبتمال في الإنتاج. و من هنا يصبح كياناً فعالاً مبتكراً. من غير تحريك هذه القدرات و تدريبها و تهذيبها، ستبقى سابتة كامنة، جامدة، متبلدة. كان هذا وصفاً لأهمية تحريك القدرات الابتكارية عن طريق التعليم و التدريب، و الآن، ننتقل و نشير إلى حرية الإرادة بكونها مجالاً أساساً في تفعيل قدرات الابتكار و الذاكرة.
لان الابتكار الذي يتحقق، كان من الممكن أن لا يحصل، و يأخذ بدائل أخرى مبتكرة. فالبدائل لا تؤلف حالة قائمة، فتكتشف، و إنما حالة تبتكر من قبل قدرات الابتكار. فالابتكار هو انتقال من المعروف و القائم، إلى اللاّ موجود أصلاً، و اللاّ معروف، إنه ابتكار من لا شيء. و لكنه فعل ينبني على قاعدة ظرف التعامل، و أساساً على خصائص المادة، و حصراً ضمن القدرات التي من الممكن أن تحقق التغير في ذلك الظرف. فابتكار شكل الكرسي يكون محدداً بمتطلبات البدن، و بخصائص المادة التي يصنع منها، و لكن بدائل الشكل غير قائمة في الوجود، ما قبل الابتكار، فالابتكار عملية توليد من اللا موجود، و لكنها تنبني على واقع مادي و ظرفي قائم. هذا التفاعل و الفعل يحصل ضمن الظرف الذي يهيئه المجتمع لهذا الفرد المُبتَكر. من غير هذه الفرصة التي يهيئها المجتمع لا يتمكن الفرد من تحقيق الابتكار. أو غالبا لا يحصل تحريك الفرد و يعي أن هناك مطلب جديد ينبغي إرضاؤها، من غير ظرف الإثارة.
إن أي تعامل مع البيئة يهدف إلى تأمين البقاء، يتعين بالضرورة أن يتضمن القدر المناسب من معرفة قائمة في الذاكرة، كمرجعية معرفية. تؤلف هذه المعرفة ذاكرة فعالة بقدر ما تكون متوافقة مع متطلبات خصائص المادة و البيئة: سواء منها الاجتماعية أم الحياتية أم الطبيعية. و بقدر ما يكون التعامل غير متوافق سيشغل طاقات غير ضرورية. و بهذا القدر سيصبح التعامل عاطلاً، أو سيعجز بنفس القدر عن تأمين البقاء، و غالباً بالمقارنة في مجال المنافسة مع الغير.
إن آلية الحس بصفة الإبتمال، هي سيرورة منح قيمة لهذه الصفة، و هي تحريك القدرات الطبيعية للحس بالابتمال التي يستورثها الفرد طبيعياً. في الوقت عينه، هي تحريك ما تحمل الذاكرة من تجربة سابقة و تراكم من خبرة التعامل و الحس بصفة الإبتمال. من غير تفعيل هذه القدرات الطبيعية و تفعيلها مع الذاكرة، و تداخل اقتران التفعيل الآني مع الذاكرة، ستعجز قدرات حسية الفرد من التعامل مع الأشياء المصنّعة و الطبيعية و القدرة على الحس بصفات الإبتمال.

3،4ـ الدورة الإنتاجية
تنبني الدورة الإنتاجية على تفاعل جدلي/ سببي بين مقررين مستقطبين: الأول الحاجة الاجتماعية و الثاني التقنية الاجتماعية. يتضمن المستقطب الأول، من الحاجة المركبة بمقولاتها الثلاث التي اشرنا إليها سابقاً. و يتضمن المستقطب الثاني، المتضمنة: الفكر و الحس و الحدس و المعرفة و المهارة و المادة الخام و الطاقة المسخرة، و غيرها من مقومات التقنية الاجتماعية، و كل ما له علاقة بقوى تحريك الدورة الإنتاجية.
ـ مراحل الدورة الإنتاجية
تتألف الدورة الإنتاجية من أربع مراحل، و هي المراحل ذاتها حيث يتحقق تحويل المادة الخام إلى الشكل المُصنَّع، كما هي المراحل حيث يتحقق إيصال المعلومات من المرسِل إلى المرسَل إليه، و يتحقق إرضاء الحاجة:
1. المرحلة الرؤيوية perception ـ الحس و الوعي بحاجة ما، أو ابتكار المخيلة حاجة ما جديدة، مثل ابتكار شكل محتمل لمصنع الذي يمكن أن يوظف في تلّقٍ مجدٍ.
2. مرحلة التصنيع ـ يقوم المُصنِّع و يوظف قدراته المعرفية و الحسية، التقنية التي يتعامل بموجبها، و يفعّل الرؤية التي يتلقاها من المرحلة الأولى، و يفعّلها مع المادة الخام. و بهذا يسخر طاقاته البدنية و الذهنية، مثل تلك الطاقات المستخرجة من مصادر طبيعية خارج بدنه، فيحصل تحول المادة من حالتها الخام، إلى شكل المصنّع.
3. مرحلة التلقي reception ـ يقوم المتلقي، بتفعيل المصنَّع، و عن طريق هذا التفعيل، الملموس و المحسوس يتحقق ظرف إرضاء الحاجة.
4. مرحلة التغذية الاسترجاعية Feedback ـ تقوم مرحلة التلقي، غالباً كمجموعات، و تنظم خبرتها في إرضاء الحاجة المتحققة ضمن ظرف تفعيل المصنّع، و تنقل هذه الخبرة إلى الدورة الإنتاجية اللاحقة. و تصبح ذاكرة فعالة ضمن الدورة الإنتاجية.
إن كفاءة الدورة الإنتاجية، في تحقيق صفات الإبتمال لشكل المصنعات، هي التي تحقق ظهور الحضارات بقدر ما تكون دورات كفوءة، و ملائمة بالنسبة إلى زمانها و مكانها. عكس هذا، بقدر ما تعجز الدورة الإنتاجية عن تحقيق أداء كفء، ستخفق، و تخسر موقعاً مناسباً في آليات المنافسة. لذا ستتخلف الدورة، و تزول و تستبدل بغيرها.

3،5 ـ التعليم و تطور بردميات (14) paradigm حضارة الإنسان
إن من بين أهم مقومات و صفات التعليم في الدورة الإنتاجية أن يتضمن المعرفة العامة لخصائص الظواهر و المادة. ان شرط هذه المعرفة لتصبح مجدية في ديناميكية المنافسة، و تكون فعالة في مجال الإنتاج و بناء حضارة المجتمع المعين، إن يكون مضمونها يتمتع بموقع منافس جيد في ديناميكية المنافسة لحضارة الإنسان عامة ـ هذا خاصة بقدر ما أصبحت الحضارات متداخلة. لهذا السبب، نجد أن الإنتاج المتقدم نسبيا في ديناميكية المنافسة، و ضمن أي حضارة كانت، سيكون ضمن بردمية حضارية متقدمة نسبة للحضارات الأخرى. كما يكون متقدماً في دور المنافسة و المقارنة نسبة إلى إنتاج البردميات الأخرى، و الفعالة في تطور و تقدم حضارة البشر.
يحصل نسبة تقدم الإنتاج، سواء كان في العمارة أم مختلف الفنون و المصنعات الأخرى، ضمن البردمية المعرفية الفعالة، و بالمقارنة مع القدرات المعرفية التي تحققها بردميات الحضارات الأخرى.
* (البردمية paradigm هي ذلك الإطار الحضاري السيكولوجي الذي يحجز فكر الجماعة/ المجتمع، ضمن أيديولوجية معينة معتمدة من قبل مؤسسات و منظمات قيادة المجتمع، المتمثلة بالدينية و السياسية و التعليمية و الإعلامية، و غيرها من القوى، بما في ذلك الكثير من الكلجريات culture الفعالة. فتصبح الأيديولوجية الفعالة في المجتمع، رؤيا للوجود و صيغ الإنتاج و إدارته و علاقاته، شبكة معرفية و اجتماعية، متعذر تجاوزها سيكولوجيا و اجتماعيا، إلا بجهد ثوري و معنوي، يقدم عليه البعض من قادة المجتمع. فاصطلح على هذا الإطار السيكولوجي و المعرفي بالبردمية. و النقلة leap هي تغير حضاري من بردمية لأخرى، لذا لها أهميتها التاريخية و الحضارية.)

1.6.
لذا نجد الإنتاج ضمن الحضارة العباسية مثلا، متمثلاً بإنتاج الأقمشة و المصنعات المعدنية و العمارة كان متقدم نسبيا إلى ما حققته حضارات زمانها، و يضاهيها. فكان إنتاج هذه الحضارة في القرن التاسع و العاشر متقدماً، لان البردمية المعرفية التي كان المجتمع يتعامل بموجبها متقدمة نسبة إلى الحضارات البيزنطية و الكارولونجية(15) Carolingian، التي كانت قائمة في أوربا المسيحية آنذاك.
ففي القرون الأولى من العصور التي اصطلح عليها بالقرون الوسطى، و لغاية القرن الثالث عشر، كانت الحضارة العباسية، و ما تتضمن من معرفة في مجال الإنتاج، معرفة مدعمة بمعرفة متقدمة في مجالات الفلك و صناعة المعادن و الطب و الفيزياء و الرياضيات، بالمقارنة مع ما كانت عليه في أوربا المسيحية اللاتينية.

3،6 ـ الأيديولوجية و التعليم
إن من بين أهم القوي الاجتماعية التي تصطدم مع تغير المعرفة هي الإيديولوجية القائمة، خاصة بصيغها الدينية. لأن المنظمات الدينية، بقدر ما تجمد التطور المعرفي، و تستمر في اعتماد المعرفة السابقة، ستجد نفسها على طرفي نقيض مع تلك المعرفة المستحدثة. كما إن هناك تداخلاً بين الأيديولوجية القائمة و صيغ التعليم، و هي صيغ كانت ابتكرت أصلا لتؤلف قاعدة معرفية لدعم الأيديولوجية، و ترويجها و الدفاع عنها. لذا فالتجديد في المعرفة سيتعارض مع قاعدة المعرفة القائمة.
يحصل هذا العجز بقدر ما تفقد القيادة اللاهوتية قدراتها على استيعاب متطلبات المعرفة الجديدة، والتكيّف معها. لذا تكتفي هذه القيادة بما لديها من معرفة، لا سيما إذا شعرت بأن التغير في المعرفة سيهدد مقامها و قيادتها في المجتمع.
كما يتمثل هذا العجز بصيغة أخرى، و هو ظهور ردود فعل لا عقلانية، و أحيانا عنيفة، ضد التطور المعرفي، و ذلك لتغطية عجز قادة المجتمع عن استيعاب متطلبات التغير في المعرفة. و يتمثل هذا بعجز الحضارة العباسية، فظهر في ذلك المجتمع حركات تنكر التقدم المعرفي. تمثلت هذه الحركات بموقف أبو حامد الغزالي من المعرفة، و الفلسفة عامة، في القرن الحادي عشر. و إن اعتبرنا أن هذه الحركات الرافضة للتطور المعرفي بدأت و تمثلت بإدارة سلطة الخليفة المتوكل، في القرن التاسع، فقد بالغ بالرفض المعرفي أبن تيمية، في القرن الثالث عشر. فكان له تأثير فعال في رفض التطور المعرفي، و لم يزل تأثيره قائماً حتى الآن. إذ عجزت قدرات هذه الحضارة عن مواكبة النقلات المعرفية التي حققتها أوربا اللاتينية منذ القرن الحادي عشر ـ لأن هذه النقلات تطلبت تغييراً جذريا في تكوين رؤيا الأيديولوجية الفعالة. و يتمثل هذا العجز في الرؤيا برفض السلطة العثمانية قبول تقنية الطباعة لمدة ثلاثة قرون.

4،0 ـ تطور القدرات الاستطيقية في العالم الإسلامي.
4،1 ـ المقدمة، اعتماد المقارنة الحضارية
حينما نسعى للتعامل مع مصنعات ابتكرتها الحضارة العربية ـ الإسلامية، كالتي نجدها في الفخار ذو البريق المعدني luster tiles في القرن الثامن، و الجصيات في سامراء القرن التاسع، و الزجاجيات منذ القرن الثالث عشر، أو الطوس البرونزية منذ القرن الرابع عشر، و الخشبيات المتضمنة أشكالاً هندسية و نباتية التي ظهرت في أبواب و محارب كثير من الجوامع و القصور و المدارس و الخانات منذ القرن العاشر، و ليس اقل أهمية المقرنص الذي ظهر و امتد من الشرق الأوسط إلى قرطبة، التي نتأملها، و نستمتع بجمالها. و نحن بهذا الاستمتاع نمنح قيمة لصفات الإبتمال التي تحملها هذه المصنعات و نحسها في أشكالها، لأننا نكون أدركنا، بمعرفة و حس و حدس لصفة الإبتمال القائمة في هذه الأشكال.
إن المقارنة بين صفات الإبتمال المحملة على أشكال المصنعات، و الحس بها و منحها أهمية، و الاستمتاع بجماليتها ضمن الطراز نفسه، سواء في شكل مصنعات تؤدي الوظيفة نفسها، أو مصنعات ترضي حاجات أخرى، تؤلف مقارنة مهمة. تؤهلنا هذه المقارنات إلى التعرف على القدرات الحسية و المعرفية التي حققتها الحضارة المعينة مقارنة مع أخرى، و توسع قدراتنا للتعرف على كل منها، و تهيئ لنا مرجعية موسعة نستخدمها في تقييم صفات الإبتمال القائمة في مصنعات، عمارة الحضارة المعينة. هذا خاصة بقدر ما نوسع هذه المقارنات و نقرنها بصفات إبتمالية لأشكال الظواهر الطبيعية المتمثلة بأشكال الزهور و أبدان الحيوانات و الغيوم و الأنهر، و غيرها من الظواهر ـ و التي بحكم كونها ظواهر طبيعية فكل من حالاتها تؤلف حالة لصفة مبتملة، كما اشرنا سابقا.
إن دراسة طراز الحضارة العربية ـ الإسلامية مفيد، و أهميته في أنه سيبين لنا القدرات الابتكارية و الحسية و المعرفية التي ظهرت و تطورت ضمن مراحل تطور الحضارة نفسها. و مع نظرة عامة لما ابتكر هذا الطراز من صفات إبتمالية، سنجد بأنه ابتكر و طور و نضج في القرن التاسع، و آمتد إنتاجه لغاية نهاية القرن التاسع عشر. أي، عشرة قرون من غير أن يحقق نقلة، أو نقلات متعددة في صفات الإبتمال، أي في سمات أشكال المصنعات، أو في التقنيات المسخرة في الإنتاج. لقد حصل تجميد عام لتطور الطراز، بالرغم من أنه ابتكر طرزاً محلية متعددة عمّت و تنوعت بدورها بطرز ثانوية، و آمتدت ضمن كامل حدود الإمبراطورية الإسلامية، و خارجها، من الصين إلى اسبانيا.

1.7.
لهذا السبب، إن حصر المقارنة ضمن الطراز نفسه، بالرغم من أهميته، لا يدلنا على موقع هذا الطراز، و أهمية ما حقق من صفات إبتمالية، بالنسبة إلى تطور عمارة حضارة الإنسان. لذا ستبقى، مقارنة مثل هذه، بهذا المفهوم، مقارنة مقصورة و ناقصة. هنا مصدر أهمية مقارنة طراز حضارة معينة بطراز الحضارات الأخرى، خاصة مقارنة النقلات المعرفية و الطرزية التي حققتها هذه الحضارات في الحقبة الزمنية ذاتها.
مقارنة طراز الحضارة العربية ـ الإسلامية مع حضارة أخرى، كالصينية، مثلا، للفترة التاريخية نفسها، سيؤلف مقارنة مفيدة جدا، و لكنها تتطلب الخوض في بحث معالم متعددة، و مراحل تاريخية غير متزامنة، التي تزيد البحث تعقيدا. و ذلك لأن التكوين الأيديولوجي لهاتين الحضارتين، تطور أحداثها الاجتماعية و السياسية متباينة تماماً. بالرغم من إن كليهما انبنى على بنيوية الإنتاج الزراعي. لذا ابتكرت كل من هاتين الأيديولوجيتين كلجريات و طقوساً و صيغاً للمعيش، متباينة عن الأخرى، في كثير من علاقاتها الإنسانية و الإنتاجية. لذا سيكون من المفيد أن نحدد المقارنة مع حضارة مشابهة في تكوينها، و في تماس معها، أي الحضارة المسيحية.
لقد ظهرت هاتين الحضارتان: المسيحية و العربية/الإسلامية، و انبنت على أيديولوجية مشابهة، أو رؤيا للوجود متطابقة من حيث مصدر المعرفة ـ القدرة الإلهية. هذا ما سيسهل علينا البحث. إن وظيفة الأيديولوجية هي تهيئة رؤية عامة شاملة، سهلة التفهم و التداول و الترويج بين عامة الناس، تتمثل بالأديان، و الرؤيا السياسية الشمولية. بما إن القاعدة الأساس لأيديولوجية هاتين الحضارتين هي متشابهة، هذا ما سيسهل علينا المقارنة في مجال العمارة، و الإنتاج عامة. و يساعدنا في التركيز على المقومات الطرزية و ظروف ابتكارها.
ما أن تبتكر أيديولوجية معينة، و تصبح مستقرة، تبتكر عندئذ كلجريات متعددة تقوم بوظيفة دعم رؤيا الوجود التي تروّج لها و تعتمدها. فتقوم هذه الكلجريات بوظيفة إدارة سلوكيات أفراد المجتمع و العلاقات فيما بينهم. و تنتظم هذه الكلجريات بمؤسسات و منظمات في مختلف مجالات العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك: التعليم، علاقة السلطة بالرعية، علاقة الذكور مع الإناث، صيغ التكاثر، تربية الأطفال، تنظيمات العمل الحرفي، صيغ الاستمتاع بالوجود، صيغ التجارة، البحث المعرفي، تراتيبية التفاضل الاجتماعي، مؤسسات العدل، الموقف من الأيديولوجيات الأخرى، المنافسة و المشابهة، تناول الأطعمة و الموقف من صيغ تناولها، و غيرها من الكلجريات التي تنظم سلوكيات أفراد المجتمع. كما اشرنا بأن هذه الكلجريات تبتكر الطقوس التي تدعم ممارسة هذه السلوكيات، و تجعل أفراد المجتمع مندمجين بها عن طريق إسهام أفراده، و المتمثلة بطقوس الصلاة، و المهرجانات، و الأعياد و غيرها.
لذا سنشير إلى عمارتين، و نقارن بين الحضارتين اللتين ابتكرتهما، و هما: عمارة الحضارة العربية الإسلامية و عمارة الحضارة المسيحية اللاتينية في أوربا. ذلك بقدر ما يتعلق تطور الموقف من العمارة عامة و الحاجة الاستطيقية خاصة، ضمن تطور الحس بقيمة الجمال في كلا الحضارتين.
قبل أن ننتقل إلى وصف مقارن لهاتين الحضارتين و ما تتضمن من أيديولوجيات مشابهة و تأثيرها على العمارة، سيكون من المفيد أن نشير هنا بأننا لا نشير إلى الحضارة اليهودية. هذا بالرغم من إن مصدر الكثير من الأساطير التي جاءت في القرآن هي في التوراة و ليس الإنجيل. و بالرغم من إن مصدر البعض من الكلجريات اليهودية أعتمد من قبل الأيديولوجية الإسلامية، كالختان و بعض مظاهر الموقف من الطعام. (إن سبب إهمالنا لهذه الحضارة الأخيرة، هو أنها انبنت على أيديولوجية حصرية Exclusivity / حقوق مقصورة. لذا لم تتمكن من تأسيس دولة موسعة أو إمبراطورية، لتؤلف قاعدة لتطور معماري متميز يمتد في الزمن، بالمقارنة مع الحضارتين المسيحية و الإسلامية.) حيث تمكنتا من بناء حضاري في عصور متزامنة، لمدة تقارب عشرة قرون ـ من القرن التاسع لغاية القرن التاسع عشر.
قبل أن نقدم على هذه المقارنة، سيكون من المناسب، أن أبين بأننا لا نتكلم أو نقارن عمارة إسلامية مع عمارة مسيحية. مثل هذه العمارة لا وجود لها. إنما نتكلم على حضارتين تمتلكان قاعدة أيديولوجية متشابهة. فالدين هو رؤيا للوجود، و هذه الرؤيا تبتكر كلجريات، تقوم بدورها في ابتكار الفنون و الطرز. لذا من الممكن أن تبتكر كل من هذه الأديان كلجريات متعددة، و كل منها تبتكر طرز متعددة، بينما العقيدة الدينية، تستمر هي ذاتها، لحين تحصل نقلة أيديولوجية فيستبدل الدين بدين آخر.

4،2 ـ الأساس الأيديولوجي للحضارتين: المسيحية و الإسلام
4،2،1 ـ أيديولوجيات التوحيد
الأساس الأيديولوجي لكلتا الحضارتين، المسيحية و الإسلامية هو دين التوحيد، المصطلح عليها أحيانا بالإبراهيمي. يرجع تاريخ تطور رؤيا التوحيد، أي توحيد العبادة بإله واحد، إلى مفاهيم تبلورت في حضارات متعددة. ظهرت هذه الرؤيا، و تبلورت مع ظهور السلطة المركزية في إدارة المجتمع، و مع ظهور الإنتاج الزراعي. و قد تداخل تطور هاتين السلطتين، مركزية إدارة المجتمع، و مركزية العبادة، و ذلك بهدف دعم كل من هاتين المركزيتين احداهما للأخرى. فظهر، أولا إله المدينة، و من ثم إله السلطة المركزية، و أخيرا إله الإمبراطورية مع ظهور الإمبراطوريات الكبرى، تمثل هذا بالإله مردوخ و آشور في حضارة وادي الرافدين، و زيوس كب