تأليف حسين السكاف

المكان
أثاث غرفة نوم بيتية تشغل حيز المسرح. في وسط المسرح ينتصب سرير لشخصين، معلقة فوقه حيث الجدار صورة لعروسين في ملابس الزفاف. باب الغرفة إلى يمين المسرح، وبين الباب والسرير خزانة صغيرة بأدراج ثم شماعة ملابس، إلى الجانب الأيسر من السرير منضدة قراءة عليها بعض الكتب والأوراق، وبجانبيها كرسيان. إلى أقصى يسار المسرح، توجد خزانة ملابس بثلاثة أبواب تشغل ضلع الغرفة المقابل لبابها. ثم منضدة دائرية صغيرة لا يتجاوز ارتفاعها متراً واحداً، تكون قريبة من حافة المسرح المواجهة للجمهور.

المشهد الاستهلالي
ستار
( quot; لا تظهر خلال المشهد أية قطعة من ديكور الغرفة.quot; المشهد يستغل النصف الأمامي من خشبة المسرح، حيث تظهر أكوام من التراب ترمز إلى قبور، وعلى كل كومة مثبتة لوحة صغيرة مكتوب عليها رقم. تكون الأرقام على الشكل التالي 1979، 1980، 1981، 1982، 1983، 1984 ... حتى الرقم الأخير 2003. يبدأ المشهد بموسيقى هادئة لآلة الجلو، ثم يدخل طفل جميل مبالغ في جماله ونظافته وشفافية ملابسه، وكأنه طائر كوني هبط من السماء. الطفل لا يتكلم بل يأتي صوته من خلف الكواليس إشارةً إلى صوت السماء أو صوت الحقيقة، والطفل يؤدي حركات إيمائية وكأن روحه هي التي تتكلم. يحمل بين يديه باقة ورد كبيرة، يخطو بين أكوام التراب وكأنه يلعب. يقوم الطفل في أثناء تحركه بوضع زهرة على كومة التراب التي يختارها بشكل عشوائي، يقف قليلاً وكأنه يصلي ثم يضع الوردة، ويذهب ليختار كومة أخرى )
الطفل - أيها الطيبون، أبناء الحياة
ها قد ولى زمنٌ وفات
أيها الحالمون، بقرص خبز
وكرامة أرض وثبات
مَنْ؟
أأنتم؟،
أم حلوُ الغاية صار رفاة؟
أيتها الأرواح الممزوجة بطيب الأرض
في الدنيا، وفي الممات
ها قد ولى زمن وفات
أيها الطيبون، أبناء الحياة
ها قد مضى زمن الطغاة
منذ زمن بعيد، بعيد جداً، والإنسان منشغل في ابتكار طرق وأساليب لمعرفة مصيره. استخدم من أجل تلك الفكرة كل شيء، النجوم، الألوان، الحيوانات، الفصول، وغيرها الكثير الكثير، ولم يبق شيء عرفه إلا واستخدمه من أجل تلك الفكرة التي كانت وما زالت تعيق مسير حياته. قلة قلية من البشر كانوا يفكرون في الواقع، كانوا يستخدمون رموز الواقع المعاش لتحسين مصيرهم وليس لمعرفته، فهناك فرق كبير بينهما، فالذي يسعى جاهداً لمعرفة مصيره تراه هائماً في عالم الضياع، غارقاً بهلوسة الغيبيات، بينما تجد من يسعى لتحسين مصيره، أو من يحاول تصحيح صورة المصير ليكون أجمل من ما هو متوقع، يتصف بالعقل الراجح والكياسة. الذين يفكرون بتحسين مصيرهم كانوا يدربون أنفسهم على أشياء كثيرة، أحدهم قال: إذا كانت هناك حرب فعليك أن تفكر جيداً على ألا تكون من ضحاياها، وإذا كنتَ في أمان عليك أن تفكر جيداً كيف تحافظ عليه، وقال الآخر: إنَّ على الإنسان أن يتعلم التقاط الإشارات المنبعثة من الإنسان المقابل، فلكل طبيعة بشرية إشارتها الخاصة، للطيب إشارة، وللخبيث إشارة، للقاتل إشارة وللمسالم إشارة، للخجول إشارة وللوقح إشارة، على الإنسان أن يدرب نفسه على التقاط تلك الإشارات كي يتوجه إلى طريقه السالك المؤدي إلى تحسين مصيره. بمقدور الإنسان فعل ذلك، أليس هو من يلتقط إشارات الحب بأقصر زمن ودون أية كلمة؟، إذاً فعلية أن يدرب نفسه على الإشارات الأخرى.

أيتها الأرواح الممزوجة بطيب الأرض
في الدنيا وفي الممات
ها قد ولى زمن وفات
أيها الطيبون، أبناء الحياة
ها قد مضى زمن الطغاة

ستار

المشهد الأول

(موسيقى لعزف عود منفرد، يعزف لحن معين، سيتكرر بين مشاهد المسرحية، أحياناً بمرافقة الغناء، وأحياناً أخرى موسيقى فقط. تدخل امرأة في الأربعين من عمرها يظهر عليها الحزن والقنوط، وآثار تراب ظاهر على عباءتها. تقترب من شماعة الملابس فتشرع في تعليق عباءتها، تسمع صوتاً نسائياً من داخل البيت )
العمة - ( يأتي صوتها من خلف الكواليس ) وفية، بشريني هل سمعتِ شيئاً ؟.
ترفع وفية يدها اليمنى بصمت لتوحي إلى الصوت بالسكوت، فهي في حالة يأس ووجوم. تستدير بوجهها إلى الجمهور فيظهر كيسٌ بلاستيكي كبير بعض الشيء تحمله في يدها اليسرى، ترفع الكيس ببطء وهي تقترب من حافة المسرح ثم تحتضنه كالطفل وتطوح بذراعيها والكيس بينهما وكأنها تهدهد طفلاً رضيعاً، يبدأ صوتها بآهات مختنقة تظهر حرقةً وجزعاً
وفية - آه .. آه .. آه .. حبيبي .. يا حبيبي .. آه .. آه . ( تستمر في أناتها لتظهر شقاءً ولوعةً استمرت معها طويلاً، لتجد نفسها اليوم وقد تخلصت من ذلك الشقاء بشكل نهائي. ينخفض صوتها رويداً رويداً ثم تصمت مغمضة العينين راميةً رأسها على كتفها الأيمن وكأنها في إغفاءة. تنطفئ الأضواء بشكل تدريجي ثوانيَ معدودات )


المشهد الثاني

( جميع زوايا المسرح مظلمة، سوى بقعة ضوء كبيرة مسلطة على وفية حيث السرير، تظهر المرأة وهي جالسة على حافة السرير تنظر إلى الكيس البلاستيكي الذي يتوسط السرير، تبدأ الغناء بصوت منخفض يعلو تدريجياً )
وفية - خايفة ... تنساني حبيبي
يا حبيبي خايفة
يمحيني البعد من بالك
وتمحيني المسافة
يمحيني البعد من بالك
وتمحيني المسافة
العمة - ( يأتي صوتها قاطعاً غناء وفية التي تصمت حين سماعها صوت عمتها ) وفية لماذا تغنين الآن، الوقت مبكر للنوم؟
وفية - ( وهي تنظر إلى الكيس البلاستيكي ) حبيبي لماذا لا تفي بوعدك هذه المرة، لم أعتد منك نكث العهود، حتى وعدك الأخير لي عندما اختطفك اللصوص من بين أحضاني في تلك الليلة الممطرة، نظرت إليَّ وأنتَ بين أيديهم وقلت لي، لا تخافي سأعود، وها أنتَ تفي بوعدك وتعود لي، لا يهم كيف عدت ومَنْ أتى بك، فمن الطبيعي أن تحتاج إلى من يصطحبك إلى بيتك بعد هذا الغياب الطويل، هل تعرف كم طال غيابك، بالتأكيد تعرف، عشرون عاماً، تصور عشرين عاماً بالتمام والكمال، عليك أن تفي بوعدك الآن، ألم تقل لي بأن صوتي يحيي العظام وهي رميم؟ ألم تقل بأنك تشعر حين تسمع غنائي كأنك تولد من جديد، قلت لي حينها بأن هذه الأغنية تجعلني كعفريت مصباح علاء الدين، فحين تغنيها أخرج بين يديكِ طفلاً نقياً حتى لو كنت تحت الأرض.
العمة - وفية، لم تقولي شيئاً، هل سمعتي أي شيء عن عزيز؟
( تنهض وفية بفزع متوسط الحدة وكأنها استيقظت من حلم جميل، بينما يبقى نظرها شاخصاَ إلى الكيس )
وفية - هذا صوت عمتي، أمك، ( تستدير لتواجه باب الغرفة )، ترى ماذا يحصل لهذه المرأة التي شاطرتني همومي طيلة هذه السنين لو أخبرتها بأن ابنها قد عاد، هل تصدق؟ هل تحظى بعناقه بعد ما صار العناق أمنيةً مستحيلة الحصول؟ عمتي التي أطفأت الدموع نور عينيها منذ عشرة أعوام، هل ترضى بعودته دون أن تشم رائحة ابنها وهي تعانقه؟
العمة - وفية أخبريني ماذا حصل معك؟ هل تعرفين بأني بدأت أشم رائحة عزيز منتشرة في فناء الدار، رائحته تصلني بشكل خفيف، يبدو أنه في الطريق إلينا. ( تبدأ العمة بترنيمة غنائية، تشبه ترنيمة الأطفال
)
ردْت الولد من بعد العيـونْ
بعـد العـَمام الما يحنـون
ردتهُم بالعمَى ودومَنْ يونون
( تستدير وفية صوب الكيس بينما العمة مستمرة في ترنيمتها، تمسح بيدها اليسرى أعلى الكيس وكأنها تداعب شعر طفلها، وحين تنتهي العمة من الكلام )
وفية - يبدو أنك تريد أن أكمل لك الأغنية حتى تريني وجهك الجميل، ( تبدأ وفية بالغناء )
خايفة يتشرد الغيم .. وأتشرد وحيدة
خايفة تجي الفرحة .. تلكَاني بعيدة
لون السما يحزن .. وشمعاتنا يطفن
وتذبل فرحة العيد .. وتضيع القصيدة
تضيع القصيدة
خايفة
العمة - ألم أقل لكِ بأني أشم رائحة عزيز؟ وهذا غناؤك في الوقت غير المعتاد هو أهم علامة لعودته.
وفية - آه حبيبي، أرجوك لا تكن عنيداً، اظهر لي كما وعدتني، ( تقف وفية بشكل مفاجئ وكأنها تذكرت شيئاً مهماً )، لا، لا تظهر الآن إنتظر لحظة، ( تذهب صوب خزانة الملابس وتختفي خلف بابها الذي فتحته للتو، بينما تستمر بكلامها )، يبدو أن الصحراء التي جبتها اليوم بحثاً عنك قد عفر ترابها وجهي، أنت محق بالطبع فكيف تريني وجهك الجميل وأنا معفرة بالتراب؟، هل تعرف حبيبي أن الرقم الذي عثرت من خلاله عليك هو رقم العام الذي تزوجنا فيه، نعم، أقسم لك أن الرقم كان 1983، الملاعين الكلاب تركوا اسمك بالسجل فقط، وحولوك إلى رقم ثبتوه على التراب الذي كنت تختبئ تحته، تصور يعرفون أين تختبئ وحين كنا نسأل عنك كانوا يقولون إن اسمك لم يمر عليهم إطلاقاً. ( تخرج بعد أن أغلقت باب الخزانة وهي مرتدية قميص نوم أبيض يغطيه روب من اللون نفسه، تخرج وهي تحاول أن ترتب حاجبيها بيديها وبعض الحركات التي تظهر اهتمام في ترتيب المظهر، ثم تعود إلى وضعها السابق وهي تداعب الكيس.)
الآن أنا جاهزة على ما أعتقد، لكن حبيبي أرجوك ألا تعيب عليَّ إذا كان هناك بعض العيب. هل تتذكر هذا القميص إنه قميص العرس، لم ألبسه منذ تلك الليلة التي خطفك فيها الأنذال، أتذكر تلك الليلة جيداً، كنت حينها جالساً خلف مكتبك ذاك، تكتب قصيدة عن صورة طفل في عامه الأول ( تطفأ الإضاءة في الجانب الذي تتواجد فيه وفية بينما تضاء بقعة من الضوء يظهر عزيز جالساً خلف المكتب مشغولاً في الكتابة، بينما تستمر وفية في الحديث وهي تقترب من مكان عزيز دون أن تسلط عليها الأضواء ) أتذكر اسم القصيدة كان عنوانها quot; شقيق الورد quot; وحينها سألتك عن معنى ذلك الاسم ( تنير بقعة ضوء أخرى على الكرسي المحاذي للطاولة التي يجلس خلفها عزيز فتظهر وفية قائلة ) حبيبي ماذا تقصد بشقيق الورد؟
عزيز - شقيق الورد هو الطفل، تلك الصورة التي طالما اعتمرتها مخيلتي، فالطفل منذ اليوم الأول لولادته حتى يتم عامه الأول لا يختلف كثيراً عن الوردة، لونه، رقته، رائحته، صفاؤه، حبه للحياة، وغير ذلك. وشقيق الورد هو اسم ابني الذي أنتظره، سوف أسميه شقيق الورد.
وفية - الله، هذا الاسم لم يخطر في بال أحد من قبل، هل تعرف حبيبي أن هذا الاسم وحده يمثل قصيدة كاملة المعنى والصورة؟
عزيز - ( وهو ينظر صوب زوجته ) لا تبالغي كثيراً، لقد وجدتِ تلك الصورة بعد أن فسرت لك الاسم، وهذا التفسير هو ما يشغلني كي أصوغه على شكل قصيدة. تعرفين بأنني لست بشاعر ولم أكتب لغاية اللحظة سوى عنوان القصيدة ( تطفأ بقعة ضوء المسلطة على وفية بينما يبقى الضوء منيراً على عزيز وهو مستمر بالحديث ) ولكن الصورة في ذهني كاملة منذ زمن بعيد. ( يستدرك ) صحيح حبيبتي أريد أن أسألك، رغم أن زواجنا لم يمض عليه شهران بعد، هل تظنين بأننا سنرزق بشقيق الورد قريباً. ( تطفأ بقعة الضوء المسلطة على عزيز، لتضاء بقعة ضوئية على السرير حيث تظهر وفية في جلستها السابقة، فتقول وهي تنظر صوب طاولة الكتابة )
وفية - ( بشيء من الفزع والغضب ) عندها طرق الكلاب الباب طرقتين هزت الدار، ولم ينتظروا، رفسوا الباب الخارجي ودخلوا مسعورين إلى هنا ليقتادوك دون أن يقولوا شيئاً عن السبب، لم يقولوا سوى الأوامر بالسكوت والتهديد.
العمة - ابنتي، ماذا دهاك اليوم؟ مع من تتحدثين، هل أتى عزيز؟ أشم رائحته تزداد في أروقة البيت، أرجوك أن تقومي بغسل باحة الدار، وأن ترتبي غرفتك جيداً، وأن تغيري شراشف السرير، أنا على يقين بأن ولدي في طريقه إلينا، رائحته تزداد في البيت كلما مر الوقت، ولا تنسي يجب أن نستعد لاستقبال الضيوف، فأصدقاء عزيز، أقصد الذين بقوا من أصدقائه بالتأكيد سوف يأتون لزيارته.
وفية - ( تتكلم دون أن توجه كلامها لعمتها ) أصدقاؤه الذين كان يحبهم أكلهم الغول، غول الحروب، كانوا في كل إجازة يأتون ويسألون عنه وفي كل مرة ينقص عددهم، حتى حيدر تلميذه النجيب، أصبح جسده الغض طعاماً شهياً للكلاب السائبة والذئاب حين قتل وهو منهزم من الحرب التي لم يكن مؤمناً بها، قتل وهو في طريقه إلى أهله بعد أن فر من أرض الكويت، ليصبح طعاماً دسماً ملقى على الأسفلت بين البصرة والناصرية. ( توجه كلامها صوب الكيس ) حبيبي هل تتذكر حيدر، تلميذك الذي حدثتني عنه طويلاً؟ ( تطفاً الإضاءة في الجانب الذي تتواجد به وفية بينما تضاء بقعة من الضوء تظهر عزيزاً واقفاً أمام مرآة الخزانة يسرح شعره، بينما تستمر وفية في الحديث وهي تقترب من مكان عزيز دون أن تسلط عليها الأضواء ) تلميذك الذي كنت معجباً به وبرسوماته الجميلة؟، أتذكره جيداً، أتذكر كيف كنت تحدثني عنه؟ حينها قلت:
عزيز - هل تعرفين بأن أحد طلابي فنان تشكيلي موهوب، أعتقد أن شأنه سيكون كبيراً في المستقبل، أستطيع أن أقرأ مستقبله من خلال خطوطه الجريئة، وخياله الواسع، اليوم مثلاً، رسم عيناً بشريةً بدقة هائلة وكأنه درسَ مادة التشريح على أعظم الفنانيين التشكيليين في العالم، ( يضحك ساخراً ) التشريح مادة يدرسها طلبة الفن التشكيلي، وليس تشريح الأطباء طبعاً. ( تطفأ الإضاءة المسلطة على عزيز، وتعاد الإضاءة التي كانت مسلطة على وفية )
وفية - ( توجه حديثها إلى الكيس ) كان المسكين يزورنا باستمرار، في البداية كان يقف عند الباب، يسألنا ويطمئن علينا، وعندما كنا نلح عليه كي يدخل البيت، كان يرفض، فأصبح يصطحب والدته معه في كل مرة كي يلبي رغبتنا. المسكين لم يقبلوه في الأكاديمية كي يدرس الرسم، لقد رفضوه لأنه لا ينتمي إليهم، فعلى الرغم من نجاحه بشهادة الإعدادية بمعدل جيد، إلا أنه لم يختار سوى دراسة الرسم، رفضوه وساقوه إلى العسكرية، كي يصبح طعاماً للكلاب.
العمة - ( تعيد كلامها السابق ) وفية .. أرجوك أن تقومي بغسل باحة الدار، وأن ترتبي غرفتك جيداً، وأن تغيري شراشف السرير، أنا على يقين بأن ولدي في طريقه إلينا، رائحته تزداد في البيت كلما مر الوقت، ولا تنسي يجب أن نستعد لاستقبال الضيوف، فأصدقاء عزيز، أقصد الذين بقوا من أصدقائه بالتأكيد سوف يأتون لزيارته. آه يا عزيز، أشم رائحتك ولا أراك، آه .. آه
مـن كثـر همـي غـديت اتـراب
مثـل الذبيحـة بيـد گصـاب
والموت أشوه ( يا عزيز ) من العذاب
وفية - عمتي .. آه هي محقة، علي أن أرتب غرفتي كي تليق بعودة حبيبي الذي انتظرته طويلاً ( تحمل الكيس البلاستيكي وتضعه برفق مبالغ فيه على الطاولة الصغيرة التي تتوسط أرضية المسرح، تقف وتنظر إلى الكيس، ثم تبتسم وتبدأ بالغناء بصوت خافت، يعلو حينها صوت أوتار العود وهو يعزف لحن ما تغنيه وفية، عندها تباشر في ترتيب سريرها بعد أن تخرج من الخزانة شراشف العرس البيض والأغطية، ومع كل قطعة تقوم بتغييرها تقربها من الكيس وكانها تريها إلى شخص معين )
خايفة ... تنساني حبيبي
يا حبيبي خايفة
يمحيني البعد من بالك
وتمحيني المسافة
يمحيني البعد من بالك
وتمحيني المسافة
العمة - ( ياتي صوتها قاطع غناء وفية ) عطر ولدي يقترب من روحي، وتلك المجنونة تغني، عطر ولدي وغناء زوجته يشعرني بالدفء والرغبة في البكاء.
( يتوقف الغناء بعد أن تنتهي وفية من الترتيب، ويبقى صوت العود يعزف موسيقاه التي تُسمع وكأنها بعيدة بعض الشيء، تقترب وفية من الكيس، وتجثو على ركبتيها خلف الطاولة وهي تنظر إليه بحنان ورقة مبالغ فيها ).
وفية - منذ زمن بعيد، منذ الأيام الأولى لاختفائك بين أيدي اللصوص باتت الذكرى عطري الليلي، وخيالك قميص نومي، وتلك الحدقة السوداء قلادتي، أصابعك شموع الدفء وذكرى صوتك موسيقاي. منذ زمن بعيد وخيالك ينام إلى جانبي على هذا السرير الذي جمعنا أياماً معدودات. ولكن، اليوم وبعد أن عدتَ، وبعد أن لبستُ قميص عرسي وعاد السرير إلى عهده، لن أتنازل عن احتضانك ونحن في سريرنا لتشعرني بالدفء، أعتقد بأنك تشاطرني الرغبة؟، ألم تشتق لي طيلة تلك السنين البغيضة التي مرت بثقل مقرف .. ها؟، تعالَ إذاً ( تحتضن الكيس وتستدير صوب السرير ) سوف أعيدك إلى العرش الذي بنيناه معاً، عرش الحب والحياة، وتلك الأمنيات التي كانت تحرك طيور الجنان في أحشائنا وهي تتحقق الواحدة تلو الأخرى. ( تضع الكيس على السرير وتباشر في فك رباطه، تطفأ الأنوار على زوايا المسرح كافة ويبقى النور مسلطاً على السرير ووفية والكيس ) تعالى يا حبيبي سوف تنام إلى جانبي هذه الليلة ( تبدأ بإخراج العظام التي يحتويها الكيس الواحدة تلو الأخرى ) هذا ساعدك القوي الذي كنت تطوقني به، سوف تلفه الليلة على عنقي، وهذا ساعدك الأخر الذي اعتاد تطويق خصري، سيكون مكانه هنا في هذا المكان ( تضاء بقعة ضوء على الطاولة الصغيرة التي تتوسط مساحة الغرفة، فيظهر الطفل، الطفل نفسه الذي كان قد ظهر في المشهد الاستهلالي، وبهيئته نفسها وملابسه، وبالطريقة نفسها حيث يأتي صوته من خلف الكواليس، بينما يقوم بحركات توحي بأن الكلام له )
الطفل - هذه الأم المزعومة عاشقة حد الجنون، لا تعرف اليأس، بل اليأس أصبح فيها مجنوناً.
وفية - الأضلاع .. آه الأضلاع .. سوف أرتبها كما يجب، لا تخف يا حبيبي سوف أضعها كما كانت من قبل.
الطفل - لو أني ولدت حقاً، طفلاً صغيراً لهذه المرأة وتلك العظام، على أية صورة يا ترى سيكون الفطام؟ .. على لعنة السلطة لذرية العصيان، أم الصبر والشعارات والحروب والهذيان؟ ... أم على روح خاوية أجمل ما فيها حطام؟
وفية - لا تهتم كثيراً حبيبي، سأرتب كل جزء حسب مكانه، ما عليك سوى أن تستعد لعناقي، أن تستعد لتقبيلي وأن تضمني كما كنت في السابق، آه هذا الجزء ( وهي تحمل عظم الحوض بين يديها ) أعرفه جيداً، إنه عظم الـ ( تُظهِر علامات الخجل وهي تبتسم ) سوف أضعه أسفل الأضلاع، هنا، نعم هنا، ألم أقل لك لا تقلق؟ فأنا أعرف تماماً مكان كل جزء في جسدك الجميل.
الطفل - مجانين، يتزوجون وينجبون دون أن يتأكدوا فيما إذا كانوا مؤهلين لذلك أم لا، تدفعهم رغبتهم الجنسية إلى الزواج ولا يريدون أن يصرحوا بها، بعضهم يتزوج بذريعة الحب، والآخر يريد امرأة تخدمه وتقضي له حاجياته اليومية، وهناك من يقول إنه قدر محتوم، فمصير الفتاة هو بيت زوجها، ويتمادى بعضهم في الكذب فيقول إن لوالديه الحق عليه في أن يجد لهما من يعتني بهما، وهكذا. كلهم يكذبون، كلهم يتزوجون بدافع الرغبة الجنسية، أقصد حين يكبر الحيوان في داخلهم ويصبح أكثر هيجاناً، يذهبون إلى قانون الحياة، يحتالون عليه بأكاذيبهم.
وفية - هذا الساق سيكون أسفل عظم الحوض، هنا، و ... وهذا الساق الآخر هنا، بجانبه، أو بجانبي، فأنا سأنام في هذه الجهة من السرير.
الطفل - يتزوجون وينجبون الأطفال، من دون أن يعرفوا، هل هم مؤهلون لتربيتهم أم لا، بالله عليكم قولوا لي ( يتوجه الطفل بنظره صوب الجمهور ) أليس هناك في سجون العالم آباء وأمهات من المجرمين والقتلة؟، ألم يوجد الكثير من المعاقين والمتخلفين عقلياً واجتماعياً في كل المجتمعات؟، هل يصلح كل هؤلاء لتربية أطفال من أجل أن يكوّنوا جيلاً صالحاً يفكر بإنشاء مجتمع سليم معافى خال من الجريمة والتخلف؟ لماذا يتوجب على المعلم أن يتجاوز سيلاً من الاختبارات بدءاً من الدراسة الإبتدائية حتى الامتحان النهائي الذي يؤهله ليكون معلماً لأطفال صغار في سن السادسة، في حين يتزوج من يشاء وينجب من يشاء، من دون شهادة حسن سيرة وسلوك، أو حتى تعليم متوسط، أليست هذه مهزلة؟
وفية - سأضع أصابع يدك اليمنى على وسادتي كي أغفوَ وهي تحت وجنتيَّ، هنا، الإبهام ثم السبابة، والكل حسب الترتيب هذه هنا، وهذه هنا، أما هذه.
الطفل - هم لا يعرفون بأن الطفل قبل أن يصبح جنيناً في بطن أمه، يكون روحاً هائمةً في المكان، مكان العشاق والأحبة وحتى الذين يتزوجون لإرضاء الوالدين، أماكن كثير تتجول فيها تلك الروح، الشارع والبيت والأزقه، يسمع الأحاديث ويعرف الأحداث، يضحك لضحك الناس ويبكي لبكائهم. أتذكر منذ أكثر من عشرين عاماً حين أتتني الرغبة في أن أكون جنيناً في أحشاء هذه المرأة، كنت أستمع للسيد عزيز الذي كان من المفروض أن يكون أبي، وهو يقول ( تضاء بقعة ضوئية على المكتب بعد أن تطفأ بقعة الضوء المسلطة على وفية والطفل في أن واحد )
عزيز - طفلنا القادم سيكون متميز جداً، سأربيه وأجتهد بتعليمه، سأبذل قصارى جهدي لأجعل منه رجلاً يختلف عن بقية الرجال، سوف أسمعه الموسيقى، الموسيقى التي لم يسمعها طفل غيره من قبل، سأعلمه الألوان وطريقة الرسم، سأتلو عليه أجمل قصائد الدنيا، سأبني له على هذا الجدار مكتبة تضم أروع الكتب وأهمها، هل تعرفين يا حبيبتي ماذا يعني لي شقيق الورد ( إنارة على الكرسي المجاور للطاولة التي يجلس خلفها عزيز، تظهر وفية في حالة إصغاء، يأخذ عزيز كفي وفية بكلتا يديه ) يعني لي كل شيء، هو الملك الوحيد الذي سأتخلى له عن عرشي في هذه الدنيا، سأسخر نفسي خادماً له، سأمنحه كل شيء جميل مما ستمنحني الحياة.
وفية - وأنا، أين سأكون من هذا؟
عزيز - أنتِ الملكة الأم، ألا يكفي هذا؟ أنتِ الجنة التي سيدخلها شقيق الورد ليكون ملكاً على ورود الكون، أنت القلب النابض الذي سيمنحه الحياه. ( تطفأ بقعتا الضوء المسلطتان على وفية وعزيز، وتضاء البقعة الضوئية على الطفل )
الطفل - تلك الكلمات التي قالها أبي المزعوم، جعلتني أشفق عليه، وجعلتني أحترمهُ أيضاً، فهو إنسانٌ نبيل، محب للخير وللحياة. حينها قررت أن أدخل رحم زوجته، وكنت على يقين بأن كل ما قاله الرجل هو محض أحلام، ولكن احترامي الكبير له، والذي صنعته كلماته الحالمة تلك، جعلتني اتخذ القرار، في الوقت الذي كنت أرى الحقيقة غير ذلك، ففي ذلك الوقت الذي كان فيه أبي المفترض يحلم بملكوته، كانت أعداد اليتامى تزداد بشكل مهول، كان قد مضت ثلاث سنوات على اشتغال طاحونة الحرب، الحرب .. هل تتذكرونها؟ وكان سيل جثث الآباء والأخوة والأزواج يأتي من جهة الشرق، وكنت أعرف بأن من سيكون أبي، شخصٌ عادي، بسيط، لايمتلك شيئاً سوى الثقافة والأخلاق العالية وحب الناس، وهذا النوع من البشر يولد شهيداً، على الأقل هنا، أو لأكون متفائلاً قليلاً وأقول، في ذلك الوقت.
العمة - ها يا ابنتي هل أتممتي ترتيب غرفتك، هل فعلتِ ما قلته لك؟ أشم رائحة ولدي، ولكني تعبت قليلاً، سوف أنام وحين يأتي عزيز سأصحو، بالتأكيد سأصحو، لأن رائحته ستزداد وتوقظني.
الطفل - هذا صوت جدتي، ضحية أخرى من ضحايا الأحلام، تزوجت وأنجبت، تزوجت من رجل شريف، يحب الحياة ويمتلك ثقافة لا بأس بها، كان ضابطاً عسكرياً شريفاً يحب وطنه، ويفكر بالفقراء واليتامى، ولكنه قُتلْ، نعم قتل لأنه ولد شهيداً، قتلوه بالخطأ حين اندلعت أحداث التغيير. حين قتل جدي كان أبي المفترض في عامه الأول ( يطفأ الضوء على الطفل، ويضاء على الحيز الذي يشغله السرير، تظهر وفية وهي تهم بالوقوف بعد أن كانت جاثيةً على ركبتيها وبين يديها جمجمة بنية اللون بلون التراب )
وفية - ( تبدأ بالغناء، تتجول في بعض أماكن المسرح وهي تنظر بحب إلى الجمجمة )
خايفة ... تنساني حبيبي
يا حبيبي خايفة
يمحيني البعد من بالك
وتمحيني المسافة
( تضع الجمجمة على الوسادة فيكتمل شكل الهيكل العظمي، تقف وتنظر إليه كما ينظر المرء إلى عمل فني شديد الجمال، وهي مستمرة في الغناء، ثم تأخذ مكانها لتستلقي إلى جانب الهيكل العظمي، وهي مستمرة بالغناء بمصاحبة موسيقى آلة العود )
خايفة يتشرد الغيم .. وأتشرد وحيدة
خايفة تجي الفرحة .. تلكَاني بعيدة
لون السما يحزن .. وشمعاتنا يطفن
وتذبل فرحة العيد .. وتضيع القصيدة
وتضيع القصيدة
( تطفأ أضواء المسرح فيسود ظلام كثيف، ويبقى صوت العود يعزف اللحن لثوانٍ، فتنار الإضاءة على الطفل )
الطفل - هذا الرجل الذي كان من المفروض أن يكون أبي لم يعلمه أحد فن التقاط الإشارة، ولم يفكر فيه من قبل، لذا نجد أن مصيره صار مأساوياً، ( يحاول أن يتكلم بهمس ) على الرغم من أني أعرف جيداً ألا أحد يستطيع الصمود أمام الحروب والعقول العفنة التي لا تحترم النفس البشرية الطاهرة، ( يعود ويتكلم كما في السابق ) مسكين أبي، أقصد الذي كان سيكون أبي، لم يُسمِعه أحدٌ أو يعلمه من قبل الحكمة القديمة التي تقول quot; اعرف نفسك بنفسك quot; وعلى الرغم من أني متأكد من أنه سمعها من قبل، إلا أنني متأكد بالقدر نفسه، بأنه كان يقول كما الآخرون quot; أنا أعرف نفسي جيداً quot; والحقيقة تقول إن أغلب الضحايا كانوا لا يعرفون أنفسهم، من منهم حاول أن يدخل إلى أعماقه ويضع قدراته في ميزان؟ من منهم حاول قياس الزمن الخارجي مع زمنه الداخلي؟ إن كل الناس قادرون على اكتشاف الحقيقة، شريطة أن يستخدموا عقولهم وحواسهم، عليهم أن يركزوا تفكيرهم في حيز الحقيقة التي يريدون معرفتها، وألا يذهبوا إلى حيز آخر يشتت أفكارهم، مثل السعي وراء معرفة المصير، لا وراء تحسين صورة المصير. ( يحاول أن يتكلم بهمس مرة أخرى ) ولكن رصاصات العقول العفنة تبحث عن ذلك النوع النيِّر من العقول بشكل خاص، لتستقر داخله، ( يعود ويتكلم بصوت عال )، ولكن مالعمل؟ ( تطفأ الإنارة )

المشهد الثالث

( تضاء بقعة ضوء كبيرة بعض الشيء على السرير، يظهر عزيز ووفية وهما مستلقيان، ثم يحاولان النهوض بطريقة أشبه بالحلم، يظهر هذا من خلال نظرات الاندهاش التي تبديها وفية، والابتسامات الخجلى الحانية التي توحي بالشعور بالذنب على ملامح عزيز، أنغام العود مستمرة، حيث تتعالى مع بداية المشهد، ثم تبدأ وفية بالغناء قبل أن ينهض الاثنان من على السرير )
وفية - خايفة ... تنساني حبيبي ( تبدأ وفية بمراقصة عزيز، بطريقة أشبه بالطيران مع حركات دوران بين الاثنين، يجوبان أرضية المسرح وبقعة الضوء تلاحقهما. وفية مستمرة بالغناء، وعزيز يظهر متعة الاستماع إلى صوتها الذي افتقده سنوات طوال )
يا حبيبي خايفة
يمحيني البعد من بالك
وتمحيني المسافة
وفية - ( ينخفض صوت العود تدريجياً ) ها أنت تفي بوعدك، أعرفك جيداً، حبيبي الذي لا يخلف الوعد، قلتَ لي إنك ستظهر لي حين أغنيك هذه الأغنية حتى لو كنت كومة عظام ( تستمر بالغناء وهي تراقص زوجها )
خايفة يتشرد الغيم .. وأتشرد وحيدة
خايفة تجي الفرحة .. تلكَاني بعيدة
لون السما يحزن .. وشمعاتنا يطفن
وتذبل فرحة العيد .. وتضيع القصيدة
وتضيع القصيدة
خايفة
عزيز - ( تتوقف وفية عن الغناء، ويستمر صوت العوت بالعزف، ثم ينخفض تدريجياً حتى يتوقف ) الله كم اشتقت إلى سماع صوتك الجميل هذا، كان صوتك يرن في أذنيَّ طيلة السنوات الماضية، كان زادي وقوتي، كان صبري على تلك الأيام التي لم أرَ فيها الشمس، الله يا وفية لو تعلمين هول ما رأيت، وفظاعة ما حل بي!
وفية - ( تضع أصابعها على فم عزيز بحنان ) أرجوك، قل لي قبل كل شيء، لماذا أخذك الكلاب، وبأي تهمة؟
عزيز - هذا السؤال لازمني ولم يفارق شفتي ثلاث سنوات، كنت في كل لحظة أسألهم، لماذا أنا هنا؟، ماهي تهمتي، لماذا لا تحاكمونني؟، ثلاث سنين وأنتم تضربونني كالكلب، أليس من حقي أن أعرف الذنب الذي اقترفته؟، كانوا يردون على أسئلتي تلك بجواب واحد، لا تتغاب أنت تعرف لماذا أنت هنا. وفي كل ليلة وأنا أئنُ من آلام الجروح والكدمات، حرقة الجوع والعطش التي قررت التعايش معها، وفي هذياني وغيبوبتي، أحاول أن استرجع شريط حياتي، يوماً بيوم، ساعةً بساعة، ولكني في كل مرة أجد نفسي عاجزاً عن أن أتذكر بأني اقترفتُ فعلةً واحدةً تعكر مزاج أي مخلوق، لم أنتمِ إلى أي حزب أو منظمة أو تجمع طلابي، لم أناقش أي إنسان في موضوع خارج نطاق الرسم والألوان والفن التشكيلي، حتى اللوحات التي كنت أرسمها كانت لوحات تعبر عن الطبيعة، الأرض والبساتين والشوارع والأنهار والوجوه البشرية والحيوانات. حتى أني اكتشفت في إحدى الليالي وأنا أتذوق طعم الدم بين أسناني، أنني اخترت الرسم منذ طفولتي لأنني كنت طفلاً منطوياً، أميل إلى العزلة، أتحدث مع نفسي، ثم تحدثني الأشكال التي كنت أرسمها، كنت أتخذ منها أصدقاء وصديقات، أحببتهم جميعاً، وفي كل مرة أعيد رسمهم بشكل أجمل وبحب أكبر، وهذا، وحسب ما اكتشفته من خلال التفكير المستمر فيما مضى من حياتي والوضوح الذي بات يتسع يوماً بعد يوم، أقصد ليلة دموية بعد ليلة دموية أخرى داخل الزنزانة، هو ما جعلني ماهراً ومتمكناً من فن الرسم، وهو الذي منحني أسلوباً خاصاً ونظرةً خاصةً.
وفية - وبعد ذلك هل عرفت السبب؟، فليس من المعقول أن تبقى عشرين سنة دون معرفة السبب الذي قادك إلى حضيرة الكلاب؟
عزيز - أتذكر جيداً في صباح يومٍ بغيضٍ، أتى أحد السجانيين بشاربه الكث وكرشه المتدلي فوق رمز ذكورته الزائفة، وفي يده مجموعة أوراق. وقف عند الباب ونادى باسمي، أجبته بنعم وأنا طريح الفراش بسبب حفلة أمس.
وفية - حفلة، كيف هذا، حفلة في داخل السجن؟
عزيز - الحفلة يا وردتي التي عاقبتني الحياة على فعلة اقتطافها لتمنعني التمتع بالنظر إليها سنوات طوال، هي حلقة التعذيب اليومي الذي كنا نخضع لها باستمرار، وكان في الليل نصيبي منها دائماً، لذا كنا نسميها الحفلة، وأحياناً نسميها حمام ما قبل النوم، لا عليك، عندما ناداني ذلك السجان البغيض كنت طريح الفراش، أو طريح البطانية التي كنت اتخذها فراشاً، عندها صاح بي صيحةً زلزلت جدران الزنزانة. quot; قف أيها الكلب قبل أن ترد عليَّ، قف على قدميك يا ابن الحرام وأقترب هنا، اليوم سوف تعرف مصيرك المحتوم، مصير كل الخونة أولاد الزنى. عندها انتفض جسدي ووقفت على أقدامي، ولا أدري كيف تلاشت كل تلك الآلام وتوقفت الأنات وغاب عن جسدي الوهن، قلت له وأنا أقف وقفة الجندي الهمام، quot; حاضر سيدي quot;، دسست قدمي في نعلين إسفنجيين وذهبت معه، حينها أمسك برقبتي كالخروف، وأوشك أن يكسرها لولا أن إشارة خفية أوحت لي أن أرفع رأسي إلى الأعلى قليلاً كي تنحسر المسافة التي تسيطر عليها أصابعه. سار بي قاطعاً عدة ممرات ضيقة تتراصف على جانبيها أبواب حديدية، حاولت النظر إلى الأبواب علني أرى بشراً خلفها، ولكني لم أفلح، فلقد شلّت رقبتي من قبضته المحكمة، عندها فهمت سبب تلك القبضة اللعينة، وبعد أن اجتزنا الممر الأخير استدار بي إلى جهة اليسار لأواجه سلماً حديدياً ارتقيناه معاً، وبعد عدة أمتار وصلنا إلى غرفة موصدة، وقف السجان ووقفت بجانبه، عندها أفلت رقبتي من قبضته، أحسست بالدماء تتدفق بسرعة إلى رأسي فأصابني الدوار وكدت أقع، ولكن الراحة البسيطة التي اعترتني شجعتني على التماسك، عندها أخرج كومة المفاتيح من جيبه لينتقي واحداً منها، فتح الباب ومسكني من قميصي ليشدني في لمح البصر فأصبح أمامه، وضع كفه في ظهري ودفعني بشدة جنونية ألقتني على الأرض بعد بضع خطوات راكضة. ( تطفأ الإنارة على عزيز وزوجته، بينما يستمر عزيز في الكلام حتى بداية المشهد التالي )، حاولت النظر، لم أستطع أن أرى أي شيء، كان الظلام حالكاً، ورائحة المكان نتنة إلى حد الرغبة بالتقيؤ، وحين وقفت اصطدم رأسي بشيء تبينت فيما بعد أنه كرسي، حاولت الجلوس عليه بعد أن تأكدت من مقعده، وحين جلست أنير فوق رأسي مصباح خافت.

المشهد الرابع

( تنار إضاءة خفيفة فوق عزيز، يظهر في قميص متسخ ببقع دماء جافة وهو جالس على كرسي في الجهة اليمنى القريبة بعض الشيء من وسط المسرح، يأتي بعد ذلك صوت من خلف الكواليس، هو صوت ضابط التحقيق )
الضابط - أنتَ عزيز؟
عزيز - نعم سيدي
الضابط - رسام؟ .. يعني ترسم لوحات؟
عزيز - نعم سيدي
الضابط - أنت مدرس في ثانوية النضال؟
عزيز - نعم سيدي
الضابط - تعرف لماذا أنت هنا؟
عزيز - أقسم بالله العظيم وبشرفي لا أعرف، وقد سألت كثيراً عن السبب، ولكن لا جواب
الضابط - دع الشرف جانباً، فلو كنت تمتلك الشرف لما كنت هنا، وتذكّر!.. لا تتكلم كثيراً، وعليك الإجابة على قدر السؤال.
عزيز - أمرك سيدي!
الضابط - أنت متهم بالتفكير بقلب نظام الحكم وتحريض الطلبة على المشاركة بما كنت تفكر فيه، فما هو ردك؟
عزيز - ( في ذهول ) قلب نظام الحكم؟ ... أنا؟ ... أحرض التلاميذ؟ ...، سيدي، الله يمد بعمرك، أرجوك أن تتأكد من الاسم الذي توجه إليه هذه التهمة، فبالتأكيد هناك خطأ.
الضابط - سألتك عن اسمك وعنوانك وعملك وأجبت بالإيجاب، فلا تتغابَ أكثر. من أنت حتى تفكر بتغيير الحكم، أنت مجرد كلب أجرب، حشرة، لاشيء، أستطيع أن أزهق روحك بحذائي هذا. ( بصوت عال ) أجب، كيف راودتك الفكرة؟
عزيز - أية فكرة سيدي؟، إن ما تقوله غريب ولم يخطر لي ببال، كيف أفكر بتغيير النظام وكل الشعب يهتف لقائده ويتمنى له العمر المديد، من أين تأتيني الفكرة وأنا أرى كل يوم الحرس والجيش والشرطة يحملون صوره على صدورهم؟، أرجوك سيدي، ارحمني، فأنا أوشك على الموت رعباً منذ أن سمعت الاتهام، فكيف أفكر فيه؟
الضابط - تأكد بأنك ستموت، ولكن قبل أن يتم هذا عليك الاعتراف بكل شيء. أنت متهم بالتفكير في قلب كرسي الحكم، وهذه تهمة تعرف جيداً عقوبتها، ولا أظنك ستفلت منها.
عزيز - طيب سيدي سوف أعترف لكم بك شيء، أقصد كما ترغبون، ولكن كيف اكتشفتم بانني أفكر بهذا الأمر؟ على الرغم من أني متأكد بأن تلك الفكرة لم ولن تخطر في بالي، فهل دخل أحد في عقلي واكتشفها؟
الضابط - يا حيوان، هل تعتقد بأننا أغبياء أو نائمون حتى نجعلكم تفكرون كما تشاؤون؟. بماذا تفسر تصرفك حين نصبت مشنقة في وسط قاعة الرسم وأمام الطلاب وعلّقت فيها الكرسي، ثم طلبت من الطلبة أن يرسموه، أجب!.
وفية - ( يأتي صوتها من وسط الظلام، بينما تظهر على عزيز علامات الذهول وكأنه لم يسمع صوت وفية ) فعلها ابن الزانية، كنت أعرف أنه من دبر لك هذه المكيدة، فعلها ابن الزنى.
عزيز - سيدي كان هذا درساً في الرسم، أتذكر حينها قال لي أحد التلاميذ بأنه سأم من رسم الطبيعة الصامتة، فالأشكال المعتادة كانت مملة على حد قوله، وقال أيضاً، لماذا أرسم هذا الكرسي كما أراه أو كما يراه الآخرون؟. عندها خطرت لي فكرة أن نرسم كرسي مقذوف في الفراغ، فرحت إلى فكرة تعليقه بحبل كي يظهر بشكل مختلف عن المعتاد وكي أرضي الطالب الذي كنت أتوقع له مستقبلاً فنياً مهماً.
الضابط - إذن فأنت تعترف بأنك من قام بشنق الكرسي، وهذا اعتراف صريح بجريمة التحريض، انتهى التحقيق. ( تطفأ الإنارة المسلطة على عزيز وفي الوقت نفسه تضاء على المكان الذي تتواجد فيه وفية )
وفية - ( واضعة رأسها بين كفيها ) فعلها ابن الزانية، فعلها إبن quot; حَدوة quot;، كنت طوال الوقت أشك فيه، كانت كلماته وتلميحاته واضحة، وكنت أتذكر دائما ما قلته لي في ذلك اليوم، أتذكر؟ كنا جالسين في فناء الدار تحت شجرة التوت، حينها قلت لي بأن حاتم ابن حدوة مدرس مادة الجغرافية دخل عليكم فجأة ورأى الكرسي معلقاً بالحبل، حينها طلب منك بضع دقائق ليكلمك خارج القاعة، أتذكر؟ ( تضاء بقعة ضوء فوق عزيز وهو في وضع جلوس على الكرسي الآخر بجانب الطاولة، ويبدأ بالكلام بعد أن يأخذ كفي وفية بين يديه )
عزيز - أتذكر جيداً، حينها قال لي وهو مصفر الوجه، خائف، quot; ماذا تفعل أيها المجنون، أتشنق الكرسي أمام الطلبة، ألم تعرف بأن الكرسي يمثل كرسي الحاكم؟ quot; حينها ضحكت منه بسخرية عالية,قلت له بأنه مجرد درس للرسم، فلا تذهب بعيداً بتفكيرك القذر. (تنار الإضاءة على الطفل فيظهر جالساً فوق المنضدة الدائرية الصغيرة، بينما تبقى الإنارة مضاءة على عزيز ووفية، ويظهران غارقين في حديثهما ولكن دون صوت يسمع )
الطفل - لو كان عزيز الطيب هذا قد سبق له وآمن بأن هناك أناساً أشراراً، ولا يعرفون سوى الشر، لربما .. وأقول ربما، قد استطاع أن يحمي نفسه من ذلك الشرير، ذلك الذي لم يعتنِ به أو يربيه أحد، على الرغم من أنه قد عرف آلاف الرجال الذين كانوا يدخلون بيت أمه، كان يعرف بأنه هو وعائلته ينتمون إلى أرذل شريحة اجتماعية، لذا، فلقد لبسه الحقد على كل شريف. لو أن أحداً علّمَ عزيزاً من قبل كيف يلتقط إشارة الخبث والحقد من بين عيون الناس الذين مروا بحياته، لربما ... أقول ربما، استطاع أن يحسن من مصيره. ( تطفأ الإنارة على الطفل )
وفية - ولكني حذرتك منه مراراً، وكم مرة أخبرتك بأن نظراته لي كانت ترعبني، أتذكر؟ كان كلما يزورنا في الكلية، يسأل عني أولاً قبل أن يسأل عنك، لقد حذرتك منه مراراً، كان يلمّح لي بأن حبي لك لا جدوى منه، كان يقول بصريح العبارة، بأنه سيقطع كل يد تمتد لتنال من وردته الجميلة، ألم تدرك بأن وردته تلك كانت أنا وليست واحدةً غيري؟
عزيز - ولكنكِ لم تقولي لي ذلك من قبل، منذ متى وأنت تعرفين ذلك؟
وفية - كنت أقولها لك باستمرار، ولكن طيبتك المفرطة كانت تصم أذنيك وتشل عقلك عن التفكير بكل شيء سيء، وبعد أن أخذك الكلاب، تأكدت من قذارة ابن حدوة منذ ذلك اليوم الذي طرق الكلاب بابنا بوحشية أرعبت حتى الجدران ( إضاءة على الطاولة الصغيرة المستديرة وسط المسرح، حيث يظهر الطفل جالساً فوقها )
الطفل - في ذلك اليوم كنت في أحشاء تلك المرأة، داخل رحمها، بعد أن دخلته من قبل، قبل أن يُطرَق الباب بأسبوعين، عندها أرعبتني الأصوات والجلبة ونباح الكلاب، فحولني الرعب إلى قطرات دم خرجتُ من خلالها إلى عالم الترقب والانتظار مرة أخرى، عسى أن أجد فرصةً أخرى وأدخل رحم تلك المرأة ثانية، أو أي رحم أجد فيه قناعة تغريني وتشدني إليه. ولكن كم أتمنى أن يسأل المرء نفسه قبل التفكير بالإنجاب والانصياع لغريزة الأمومة أوالأبوة، هل أنا حقاً قادر على تأمين مناخ صحيح لطفلي القادم؟ هل هذا العالم جدير باحتضان طفلي الموعود؟، هل .. لا، هذا يكفي ( تطفأ الأنوار المسلطة على الطفل )
وفية - ( وهي تكمل كلامها السابق ) وبعد أن أخذوك، وبعد أن صرخت وبكيت ولطمت، أحسست بحرارة سائل ينساب بين فخذي وعلى ساقيَّ، وحين تبينت الأمر، وجدت ساقيَّ سابحتين بالدم، لقد أجهضني الكلاب، هل تعرف هذا؟ كنت أحمل شقيق الورد داخل أحشائي وأنا لا أدري.
عزيز - شقيق الورد، أما زلتِ تذكرين؟ آه يا حبيبتي، كان حلماً جميلاً.
وفية - حينها أخذتني عمتي وغسلت دمائي، وسقتني سائلاً ساخناً وهي تذرف الدموع من دون أن تنطق بحرف واحد. في اليوم نفسه وبعد ساعات قليلة أتى ابن حدوة وهو يسأل عمّا جرى، وقال إنه سمع من الناس أن شرطة بملابس مدنية قد دخلوا الدار وأخذوا عزيزاً معهم، حين ذاك طلب منا ألا نقلق، فهو يعرف كل رجال الشرطة وضباطهم، ثم عاد إلينا في اليوم التالي وأخبرنا بأنه كلف أحد أصدقائه الضباط للبحث في موضوعك، وأصبح يتردد علينا كل يوم، وهو ينظر إليَّ نظراته الحقيرة المعتادة، وفي أحد الأيام زارني في مكان عملي.
عزيز - في مدرسة البنات؟
وفية - لا يا حبيبي في المستشفى، فبعد فترة من زمن غيابك صدر لي أمر وزاري بنقلي إلى وزارة الصحة، وتم تعييني قاطعة تذاكر في المستشفى، تصور تحولت من مدرّسة موسيقى خريجة أكاديمية حاملة لشهادة البكلوريوس، إلى وظيفة يستطيع أي شخص لم يكمل الابتدائية القيام بها. زارني حاتم في المستشفى وطلب أن يحدثني في أمر هام وعلى انفراد، ذهبت معه إلى ركن من أركان المستشفى وحينها أخبرني بانه عرف مكان وجودك، ويريد مني ألا أخبر أحداً عن ذلك حتى عمتي، واتفقنا على أن يلتقيني في اليوم التالي في أحد المطاعم. في بداية الأمر رفضت وقلت له، هل عزيز مسجون في مطعم، ضحك وكشر عن أنيابه وقال لا، ففي المطعم سوف نلتقي الضابط الذي سيأخذنا إلى مكانك.
عزيز - الحقير الذليل، بالتأكيد كان يكذب عليك؟
وفية - ( تضحك ) ها .. يبدو أن السجن قد علمك الكثير؟. قابلته في اليوم التالي ودخلنا المطعم ننتظر الشخص الذي قال عنه، كان المطعم فخماً جداً، حينها طلب لنا العصير، ثم الأكل والشاي بعد ذلك، وراح يحدثني عن جمالي وموهبتي الموسيقية، وكم أنه معجب بي وبأخلاقي، وقال لي حينها، لو لم تكوني متزوجة من أعز أصدقائي لتقدمت لخطبتك الآن. تصور، يقول عليك أعز أصدقائه؟. حينها أرعبتني كلماته وذاك المكر المخيف الذي كان يسكن عينيه، وكنت كل دقيقة أنظر إلى ساعتي، وأسأل عن الشخص الذي يجب أن نلتقيه، وحين تأخر الوقت وقررت العودة إلى البيت، انتابته نوبة من الارتباك وطلب مني الجلوس بضع دقائق لأنه يريد أن يقول لي شيئاً مهماً.
عزيز - آه ياحبيبتي، أرجوك توقفي عن الكلام، أرى الحزن والمرارة مرسومين على وجهك وفي عينيك، أرجوك توقفي عن الكلام وأن تنسي الماضي، عليك أن تفكري بالمستقبل.
وفية - كيف تقول هذا وأنت الضحية، ضحية الأنذال والدسائس ومعدومي الضمير، لقد سرقوا الزمن من بين سنوات عمرك، غيبوك سنوات طويلة لتعود لا حول لك ولا قوة.
عزيز - لم أكن وحدي كان هناك الآلاف، صحيح أنا الضحية بشكلها المباشر، ولكنكِ أنتِ أيضاً، وأمي، وشقيق الورد، وغيرنا، كلنا ضحايا.
وفية - دعني أكمل إذاً، فأنا وأنت وعمتي وشقيق الورد ضحايا ابن الزانية، ضحايا الذئب الغارق بدم الأبرياء ذاك الذي استدرجني إلى المطعم، هل تعرف ماذا قال لي حينها؟، هل تعرف ماذا قال بعد أن وجدني مصرّة على الذهاب وتركه وحيداً مع شهوته الحيوانية؟، قال بأنه عرف مكانك وتأكد من ألا أمل من خروجك من بين أيدي الكلاب، وعليَّ أن أعيش حياتي وأنساك، وهو على استعداد تام لطلاقي منك غيابياً، ثم يتزوجني بعدها، وختم قوله بعبارته التي طالما كررها أمامي وأمامك، ولكن تلك المرة بشك