... منذ طرفة بن العبد، و أبعَد، و الشعراء يعانون من هاجس الوقوع في حقل غيرهم الشعري، سواءً أحدث مثل هذا الانزلاق عند مستوى البناء البكر للنص الشعري "اللفظة – الشرائح اللغوية" أو عند مستويات أعلى "البناء و التراكيب، يدخل في هذا المستوى: الأسلوب و الأداء الشعري إجمالاً".. وصولاً إلى الحقل المحيط بالنص الشعري، و نعني به " المشار إليه، أو الدلالة ". فالفكرة هي رأس مال الشاعر، و لأجلها يسعى و يكد و يأرق وليس أعنف، آنئذٍ، من أن يرثها عنه غيرُه. فقد جعلت العرب من سرقة المشار إليه " المعنى " جريرة لا تغتفر، كما لم يتسامح كبار النقّاد و الشعراء – قديماً – في محاكمة المحاكاة الفنيّة و الدخول في جلباب الآخر، فهذا ابن الحاجب يفضح البحتري ؛ متّهماً إياه بسرقة حبيب بن أوس الطائي " أبي تمام" قائلاً:
كل بيتٍ له يجودُ معناهُ... فمعناهُ لابن أوسٍ حبيب
الأمر الذي دفع جل الشعراء، كباراً و صغاراً، إلى محاولة التبرّؤ من هذه المثلبة و نفيها عنهم متى تسنّ لهم الأمر. و من هنا، أيضاً، يتوفّر لدينا فهمٌ ناجز عن قول طرفة بن العبد عن نفسه:و لا أغيرُ على الأشعار أسرِقها.. عنها غنيتُ و شرّ الناس من سرقا..
فكان هذا الهاجس الفني و الأدبي وراء مقولة الإمام عليّ بن أبي طالب في قوله " لولا أنّ الكلام يعاد لنفد " و ما جسّده " رهينُ المحبسين " في قوله " ما نرانا نقولُ إلا معاداً " فالأمر يببدو، و ربما بوضوح مخادع، منهما محاولة لفك شفرة تأزّم الأداء الشعري، و اختلاط مهارات التقديم الفنّي، و أيضاً توطئة ذهنية لمفهوم مصالحة مع واقع يحتمل الإغارات و الاستنساخ. في حين جعل بعضهم يفضح العملية برمّتها، و لم ينجُ منها البحتري على جلال مكانه، حتى قيل: يغير البحتري على أبي تمّام إغارةً و يأخذ منه صريحاً و إشارة.
و لأن الشعر ظل إلى ما قبل تحولات أدوات الإنتاج المدينيّة في مجتمع الدولة العربية المتّسع و المتنامي، و منها أدوات الإنتاج الثقافية، ديوان العرب – حسب توصيف ابن خلدون – فإن قضية السرقة الأدبية (تنقّلت اللفظة في درجات: الاختلاس، التلفيق، الاهتدام، الاستلحاق، الإدعاء، الاصطراف، الإغارة، ... الغصب.) أخذت حقّها و أكثر من حقّها، بل أصبح علم " السرقة الأدبية " فنّاً من الفنون له رجاله و ناسه، كأبي عمرو بن العلاء، و ابن الحاجب، و الجرجاني، و غيرهم..و لم يكُن من اليسير أن يمر معنى شعري مستنسخ لشاعر على يد شاعر آخر دون أن يقبض عليه بطاركة النقد و الشعر. و في ثنايا هذا الهوجة، لم تفلح معالجات شعراء و نقّاد حاولوا التهوين من القضيّة، ربما عملاً بوصية سلفهم علي بن أبي طالب، كالمتنبي القائل: الشعرُ جادّة، و ربما وقع الحافرُ على الحافر. غير أن شاعراً كالمتنبي ما كان له أن يعتقد بمثل هذه العقيدة ما لم تكن قولته في معرض رد على سائل يسأله عن تطابق " أسلوب " شاعرٍِ و شاعر آخر لم يسمعا من بعضيهما و لم يرَ أحدُهما صاحبه أو يجايله. كما أنّ المتنبي نفسه لم يُعلم عنه أن أحداً انتحل شعره و نسبه إليه، و إن كان ذلك قد حدث بالفعل. و أيضاً، و إن حدث أن سرِق المتنبي، فإن الذاكرة الجماعية حفظت أصوله الفنيّة و نبذت كل دخيل يقاويه، أو يحاكيه، أو يتماحك معه. و من هنا نفهم سر مهادنته في هذا الشأن. كما كان الحال مع شعراء آخرين كبشار بن برد الذي خرج في الناس صارخاً و لاعناً و هو يقول: ابن الفاعلة دعبل الخزاعي ذهب ببيتي. ذلك أن بشاراً قال:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته.. و فاز بالطيّبات القاتلُ اللهجُ..
فقال دعبل، من بعده:
من راقب الناس مات غمّاً.. و فاز باللذة الجسور ُ.
و قد كانت العربُ، و هم لا يفتأون يكونُ الشعرُ " علمهم الذي لا علم عندهم أعلمَ منه (عن عمر بن الخطّاب)، يقولون: يسير شاعرٌ على خطى شاعرٍ فيكون أشبه به من التمرة بالتمرة، و أقرب إليه من الماء إلى الماء، و ليس بينهما إلا كما بين الليلة و الليلة. فإذا ما اختلف الشاعران أداءً و أسلوباً يقولون: بينهما كما بين نون و باقي النجوم.(السرقات الأدبية.. د.بدوي طبانة)
و يبدو، و الحال كذلك، أنّ الشعر ليس بإمكانه أن يغدو ملكاً مشاعاً ضمن "الكلأ و المرعى و النار" كما عند ماركس، و لا ضمن "النساء و البنين والأرض" كما عند المزدكيّة و المانوية. فأبو تمام، الذي ضاق ذرعاً بسارقيه، وقف أخيراً أمام الناس يفضح "محمد بن يزيد الأموي" وهو يقول
يا عذارى الأشعار صرتن من بعدي... سبايا تبعن في الأعرابِ..
و هو ما يعد انقلاباً مبكّراً على عقيدة " موت المؤلف " و صفعةً مباشرة لرولان بارت و ملكيات و مكاسب نظريات التلقي. فعلاقة النص بصاحبه علاقة ولادة و بنوّة، و تلازم أبدي، سواءً وجد القارئ أم لم يوجد. هو أعلى من الانتماء، و أقدس من العبوديّة. و هنا يمكننا أن نتفهّّم تماماً ما يذكره مؤرّخٌ و ناقد كابن رشيق في " العمدة": كانت القبائل تهنّئ بعضها إذا نبغ فيهم شاعرٌ، أو أنجبت لهم فرس، أو ولد لهم مولود (غواية التراث – جابر عصفور). فهي علاقة " ميلاد " و أبوّة على المستوى الجماعي و على المستوى الشخصي، و ميراث كبير بين الشعر و صاحبه و بين الشاعر و الكون و بين الشاعر و النبوّة. هو ذلك الميراث الذي جعل الأثينين يكتبون قصيدة " الأوليمبيّة السابعة " لشاعرهم العظيم " بندار " بماء الذهب على جدران معبدهم المقدّس. كذلك فعلت الأعاريب من بعدهم في " المعلّقات"، حين رفعها الأعيان و السادة إلى جدران الكعبة، و حفظها الملوك و الذوات في " خزائنهم ".. لأن الشاعر يخلد في نصّه، و لا ينبغي أن ينهب. و قديماً قال سذّج العرب: يغار الشعراء على بنات الأفكار كما يغارون على البنات الأبكار
... أين يقع الانتحال الأدبي، أو دعنا نكُن أصدقاءًا أكثر:
أين يكون الاحتذاء الأدبي؟
- يكون عند المستويات الإبداعية المتدرّجة للنص الشعري.
* اللغة، كأدوات أولية، و مشغل مليء بالخرز و الإبر و الخيوط المتباينة و أقمشة جاهزة أو مجهّزة
• مستوى التركيب.. و يدخل فيه " الأسلوب، بتكنيكاته اللانهائية، خانة الاستدلال، حقول التعاطي الفنّي، تقنيّة تشكيل الصورة، العبارة و الجملة نفسها، الشكل الشعري فيما يخص الابتكار الفردي فيه، تقنيّة الارتقاء بالنص إلى مستوى الوحدة العضويّة، الأداء السردي في النص، العلاقات الداخلية في النص و طريقة توزيعها و استخلاص أشكالها و أنماطها، المساحات الشعرية الجديدة التي يخلقها النص فتصبح فتحاً خاصّاً لصاحب النص نفسه، ....) إلخ

* الحقل الدلالي، أو المشار إليه.. و هنا قد يصعب الاتّفاق، وإن كان التسليم بوقوع الانتحال الأدبي عند المستوى الدلالي " المعنى " منطقيّاً و جائزاً جدّاً. و إذا كانت العرب تعتقد أن المعاني موجودة على السكك وفي الطرقات، و هي – بالتالي - ثمرة مشاعة فإن الحال تغيّر حديثاً عندما أصبحت الدلالة المفتوحة و اللانهائية ملكاً للقارئ نفسه، و أصبح من حقّه أن يعتبر الانتحال عند هذا المستوى جريمة لا تقل عن جرائم سرقة الأداء الفني. و لأن الفهوم الشعرية، بما في ذلك التصور النموذجي للشعر، قد تغيّرت كثيراً حين رُشّح الشعر ليكون وعياً جديداً بالكون، و فلسفة منوطًا بها أن تزيد سعة الأرض" على حد تعبير أدونيس " فقد غدت السرقة عند مستوى الصورة المؤدّية / المفضية إلى مشار إليه قريب أو سامي عملاً تخريبيّاً في فنون الأداء الشعري.
* المساحة الراهنة التي يتحرّك فيها النص و يفتتحها بحدوسه العالية، و بكل سماتها التخليقية المتوقّدة. يدخل في هذا الأمرِ الفضاءُ الشعري الذي " يشتغل " فيه الناصّ، و ما به من مساحات و إجراءات و معادلات شعرية غير تقليدية ؛ مما يوقع أي شاعر يحاكي الناص في مأزق الدخول في " منطقة تحظر فيها الكتابة وفق تعليمات صاحب السور " قد لا تكون محسوسة لدى الشاعر المحاكي نظراً لانشغاله في الأداء الجزئي " صور و تراكيب و إضاءات، .." و هو أداءٌ لا ينجو به من جنحة اختراق منطقة شعرية محرّمة، أو التسارر معها، على الأقل.
و لأن الأداء الشعري في جوهره هو خلق لـ" حقل " فنّي إبداعي قبلاً، و استشعار حدسي بعد ذلك، فإن شاعراً كالفرزدق كان يعي كيمياء هذا النوع من النشاط الذهني و الوجداني، معاً، لمّا أن هتف بأصحابه " كأنه شعري، أو: هذا يشبه شعري " بينما كانوا جميعاً يستمعون إلى شاعر يلقي على الناس شعراً.. كانت الناس تحفظ شعر الفرزدق، أو جلّ شعره على الأقـل، و لم يجدوا في ما يلقيه الرجلُ من شعر الفرزدق شيئاً يدفعهم إلى الاعتقاد بمثل ما يعتقد الفرزدق نفسه، لكنه – و هو صاحب الحدس الشعري المتوقّد – أدرك أن الفضاءات the atmospherics التي يتحرّك فيها الشاعر المشار إليه لم تكن من تخليقه أو مهارات تنوع الأداء و التجربة لديه " بمعنى: ليس لهذا الرجل علامات أسلوبية بالإمكان أن نعزو إليها عمله الشعري قيد التداول " بل بدا، و الأمر كذلك، تجاوزاً و دخولاً في منطقة الأداء الشعري الخاص بالفرزدق، و من حقّه ألا يهادن في مثل هذه القضية حفاظاً على استقلاله الإبداعي.
و لعلّ هذا الأمر سيدعونا إلى إعادة التفكير – بسخرية ليست مقصودة لذاتها - في مفهوم الرئي الشعري، أو الجنّي الموحي للشاعر. حيثُ سيبدو لنا أن الجنّي هنا هو إنسيٌّ مكتمل البشرية، و أن الشاعر نسخة تحاول أن تفر من حالة التلبّس هذه ربما بكسل، أو بانعدام حيلة. و الفروق – في الحال هذه - قد لا تكون بيّنة لكنها ستنصرف في جوهرها إلى حقيقة " الأداء الشعري " من حيثُ هو أرض لم توطّأ، ثم لا شيء أهم بعد ذلك. فالحركة داخل إطار جاهز ليست مآل الأداء الشعري، و إن امتلأت بالعمل الجزئي اللامع. هذا الوعي سيجعلنا نرفض ما ردده بعض النقاد القدامى عن " الحلية الماهرة " و الجديدة التي يكسبها شاعرٌ لمعان شاعر آخر، و أحقيته – بل أسبقيته – بالمعنى الشعري حينذاك. إن الجاهزيّة الفنيّة و الذهنية تقف دائماً وراء أي أداء غير نمطي. و لأن كيمياء النص الشعري و معادلاته الداخلية قد لا تنجح في التخفّي كما يجب، أو يُوجَب، فنحنُ سنعلمُ يقيناً أن كل شاعر قد يصبح في مرمى الاستنساخ ما لم يفر من ذلك بالاحتماء بالذاكرة الجمعية و سرعة تأسيس ذائقة سريعة لأدائه المنفرد (بمعنى: تسجيل بصمته الصوتيّة كرقم إيداع ينشّط الذاكرة البيولوجية لدى المتلقي الجمعي باستمرار و يزيد من حساسيتها لأي أداء مقارب) ثم يترك أمر حراسة ممتلكات نشاطه الفنّي للمجموع، قارئاً و ناقداً
و لعلّي سأختم مقالتي بتصوير فاجعة السطو الشعري، بما قاله السّريّ الرفاءُ في شاعرين أغارا على أشعاره بالإشارة و الادعاء الصريح:
شنّا على الآداب أقبح غارةٍ..جرحت قلوب محاسن الآدابِ
لا يسلبان أخا الثراء، و إنما.. يتناهبان نتائج الألباب..

فجاء "الحريري" من بعده - كما في السرقات الأدبية لطبانة - ليصوّر عِظَم هذه الجنحة نفسياً و أدبيّاً: و استراق الشعر عند الشعراء أفظع من استراق البيضاء و الصفراء. و ليتهم الحريري ذاته " عاش في القرن السادس الهجري " بمحاكاة، بل وسرقة، مقامات الهمذاني، لدرجة تكرار عناوين المقامات ذاتها..و ليتأصل، رغماً عن الجميع، المفهوم الجارح و الموجع على حدّ سواء " الشاعر سنبلة تعرّت للجياع " كما أطلقها الشاعر الاسكندري الجميل "محمود أمين".. لكن، أي جياع أولئك الذين يأكلون قلوب الناس و عيونهم!