استفتاء إيلاف الشعري
ما جدوى الشعراء في زمان البأساء والضراء؟ (2)

لمعرفة السؤال وقصيدة هولدرلن وأجوبة: صلاح حسن/ جمال بدومة/ عبدالكريم كاصد/ محمود عبدالغني وإبراهيم نصر، انظر:ماجدوى الشعراء: أجوبة أولى

والآن إلى الحلقة الثاني:

نصر جميل شعث
السؤال الذي يواجه الشاعر من قبل العوام، وأصحاب المشاغل والتجارة، هو: ما جدوى الشعر؟ والذي سيعتبره الشاعر المحبّ للفن والجمال، سؤال رعاع وتافهين. أما بشأن مُسائلة الشاعر نفسه: ما جدوى الشعراء في زمن البأساء والضراء؛ فإنها من الغصّة، وهي يُعبّر عن هشاشة أمام الشعراء أمام البأساء و الضرّاء. لكن ومع هذا، فجدوى الشعر وِمنَّتُه على الشاعر في أنّه فعل حياة وتجاوز للذات. أما أنّ يحمي الشعراء البشريةَ من الحروب والمهالك؛ فتلك مهمة أصعب ما تكون أمام جبروت الشّر القويّ. الشعراءُ عاجزون، إنهم في زمن الدول والأمن، كالغير، ما هم إلا أرقاماً وأسماءً على معاملةٍ بيروقراطية أو أمنية.

***

باسم المرعبي: هولدرلن.. مختصر محنة الشعراء

ومَن سوى هولدرلن ينوء بمثل هذا السؤال؟
- وهو الذي خبِر quot;التعرّض لبروق الآلهةquot; كما كتب ذات مرة لأحد اصدقائه -
ومن ذات الأعماق المفخورة بالبرق تكفّل بالإجابة عن سؤاله، ذلك السؤال المفتوح الذي يطال الأزمنة جميعها، ولا مراء في ان هولدرلن واحد من قلائل الشعراء الذين جلدت أرواحَهم سياط الأسئلة المؤرقة، ان لم يكن، برؤاه، من ندرة الندرة إذا ما استذكرنا تسمية هيدغر له: شاعر الشاعر، في معرض تسويغه لاختيار شعره مادة للدراسة، موحياً بالمفاضلة بينه وبين بقية الشعراء.
لكن ماذا عنا نحن الذين نتعرض لاختبار سؤال هولدرلن ذاته؟
هل نعمد الى معادلة زمن البأساء والضراء بـ quot;الوعدquot; الذي يمثله الشاعر أو بمكنته أن يجترحه؟ ألم يقل هو نفسه: )ينبغي للشعراء أيضا أن يكونوا الروحانيين في العالم (.
هل نعمد الى جواب/ أجوبة هي نوع من العزاء، الذي هو على أية حال، ربما قدر الكلمة منذ ان أفاضت بها السماء على الإنسان. لكن ألا يتضمن تساؤل هولدرلن الجواب في ذاته أي ان تلك الأزمنة عينها التي ندَبَها الشاعر هي التي تدلّ على جدوى الشعراء؟ أليس وبعبارة هولدرلن ذاته: ما يدوم يؤسسه الشعراء.
لقد لاحَ لي في كتابٍ ما ذات مرة: ان دانتي عندما كان يسير في شوارع quot;رافيناquot;، حزيناً منفياً صامتاً مطرقاً الى الأرض، كان الناس يتهامسون قائلين: ذلك هو الرجل الذي كان في الجحيم. وكأنّ لا بدّ لحملَة الضوء أن يكابدوا أو يسقطوا صرعى الوهج او quot;النارquot; التي يضيئون بها الى العالم.
غير ان كلما أوغلَ العالم في الزمن جعل من الشعر quot;ظِهرياquot; في الوقت الذي أشدّ ما تكون الحاجة الى ذلك، أي الشعر، الأمر الذي ينطوي على ذروة المفارقة. وهنا يكمن صلب معركة quot;الشاعرquot; الملقى - أبداً - بين شعراء كذَبة وquot;جمهورquot; خائن!
ما أحوجَني الى استعادة )مؤازرة( المتنبي:
أنا في أُمة تداركها الله غريبٌ كصالح في ثمود

ليس ثمة ما هو أكثر بؤساً وضرراً واغتراباً بالنسبة للشاعر من مشهد عالم يُلبس فيه كلّ شيء بالمقلوب: أفواه فجة لا تعرف إلا الكذب طريقاً للأشياء quot;تستخدمquot; الشعر، وجمهور quot;يشبّquot; على ان هذه الفجاجات والإدعاءات هي الشعر. ما أكبرَ حزن الشعراء من quot;طينةquot; هولدرلن حين تكون القصيدة لديهم ضرباً من المقدّس. ألم يقل هيدغر، أيضاً، ودائماً عن هولدرلن: ان قصيدته هي quot;صدى السماءquot;.

***

إبراهيم المصري: آآآآآآآآآآه ؟

حسناَ ...
إنْ كان للخبَّازين من جدوى في أي زمن بوصفهم مُنتجي ( الخبز ) ، فإنَّ للشعراء جدوى أيضاً بوصفهم مُنتجي ( الشعر )
غيرَ أنَّ الاستهلاك يعطي هذا المُنتَج أو ذاك .. سوقاً .. تحدد القيمة والجدوى والطلب ، وبالطبع .. يخسر الشعراء .. وإنْ كانوا يحاولون دائماً تنشيط بضاعتهم بالمخيِّلة :
رغم ظهورهما معاً
في الصور الفوتوغرافية
لا تقول العصافير
للينابيع شيئاً ...
الشعراء يُصرِّون
على أنها تقول
خوفا من كساد تجارتهم .
تكمن الصعوبة في أنَّ الشعراء يظنون أنفسهم .. بشراً استثنائيين .. وأنَّ لهم جدوى ودوراً إلى آخره ، وإنْ أخذنا الصورةَ كلها على محمل البساطة ، فإنَّ جدوى الشعراء في أي زمن هو أنهم يحبون .. القول الشعري .. ويصدعون به في قصائدهم ، أي أنهم يستمتعون بنشاط ذاتي يُعمم بعد ذلك بوصفه فناً لغوياً .
وعلى أي حال فإنَّ بعض الغرور واجبٌ هنا ، لأنَّ المُنتَج الشعري وخاصة الجيد منه يمكن أنْ يخفف وطأةَ الحياةِ على البشر :
لقد ابتكروا ...
خيوطاً لقـَطبِ الجراحة
تذوبُ مع التئام الجرح
لقد عرفوا أخيراً
استخداماً عملياً للشعر .
وكلُّ من قرأ قصيدة ودهمت روحه باستعادة الأنفاس وتنظيم ضربات القلب سوف يعرف ذلك .
لقد حيَّرني هذا السؤال عن الجدوى ، حتى أنني ذهبتُ بالحيرة كلها وكتبتُ كتاباً كاملاً بوصفي .. شاعراً .. وعنوان الكتاب ( الشعر كائنٌ بلا .. عمل )
نعم الشعر كائنٌ بلا .. عمل . لكن الشعراء لديهم هذا العمل الذي يعني كتابة الشعر الجيد ، أمَّا البأساء والضراء فهما تبسيط إمَّا ناجمان عن قبحٍ في هذا العالم يتعين إزالته بالعقل وبالعمل الواقعي المباشر ، أو يَفترض الشعراء أنهم غرباء عن هذا العالم الذي لا يتوافق وما يرونه في المخيلة عن عالم بلا شرور ولهذا يكتبون الشعر بحثاً عن عالم يغردون فيه سعداء .
يا للعصافير و يا لراحة بالها .. من الأسئلة .
أمَّا عن نفسي :
أدعوكم
إلى البحث عن ذهبِ الشعر
بكتابةِ قصيدة ...
فقط اتركوا لي
ضربةَ البداية
وأقترحها
بكلمةِ .. آآآآآه .

إبراهيم المصري
شاعر من مصر .
المقاطع من ( الشعر كائنٌ بلا .. عمل )

****

محمد جميل أحمد: الروحانيون في العالم

لا تنفصل فكرة السؤال عن جدوى الشعراء في زمان البأساء والضراء. عن جدوى الشعر. لكن نسيج الروح يمنح إهابه للذين نعتهم هولدرلين ذات مرة بـ(الروحانيين في العالم). والحال أن جدوى الشعراء في الحياة ليست لأن العالم في غنى عن الحالمين أو أن صخبه خلا من أصواتهم. بل لأنها جدوى مؤجلة و غريبة، لا يراها غير حداة الأفق. فأن تكون شاعرا في زمن البأساء والضراء يعني أن تكون قدميك في الهاوية لأن الشعراء (أقدامهم تلاقي الهاوية) كما قال هولدرلين أيضا ً. و الشعراء يشهدون الحياة لحياة أخرى وراء هم أو أمامهم. ويدخلون عالمهم الشعري بما يمكن أن يستعاد. أو يكون طيفا في سماء الأزمنة. وتسجيلا لمزايا الإنسان حين يعجز عن إدراكها وهو يحايث مأزقه في التاريخ. ذلك أن البأساء والضراء لا تعدو أن تكون حالات وعي شرس يسحق الروح الشاعرة التي تقابل ذلك الوعي الشرس بما هو أقوى منه، بما هو كامن من حالات التحدي والاستجابة. باللاوعي الذي يحرر الشاعر آفاقه الملتقطة من العالم المادي إلى عالم الروح. وينتج تلك التمثلات التي يشتق منها الهامش الجمالي من ضغط التاريخ. تلك الجدوى المؤجلة في وعي العالم العنيف هي ما تمنح مسافة الغياب حضورها. إذ لايمكن أن يخلو العالم من طبقة تجترح له التعبير الأسمى للوجود من خلال مأزق الوعي، طبقة غريبة معزولة تكتب ما هو غائب عبر شهودها العابر. جدوى الشعراء هي أن يجد العالم من يسبقه لحلم يؤجل انهياره في حياة مصورة. أن يجد مشـّائين يبكونه قبل أن يبكي عليهم. جدوى الشعراء هي أن يلاحقوا صورهم الممسوخة بالآخرين. وأن يغسلوا باستمرار هيكل العالم في مياههم الأبدية. وأن يهزموا التاريخ ببطولات خاسرة. لأنهم أطياف برتقالية تنادي على ما تبقى من روح الإنسان في الأزمنة الحديثة.
جدوى الشعراء في فوضى العالم هي جدوى العالم إلى نفسه. أي جدوى الغائب إلى الشاهد

شاعر سوداني مقيم في السعودية

*****

سلمان مصالحة: إنْ قالت النّارُ خُذْني إلى البحر

هَلِ الشِّعْرُ إنْسٌ غَرِيبٌ أَتَى راجلاً
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، وَسُرْعَانَ مَا
يَعْتَرِيهِ أُوَارُ النَّدَمْ؟
أَمِ الشّعْرُ حِسٌّ خَفِيتٌ تَوَارَى مَعَ
النّارِ حِينَ قَضَتْ نَحْبَهَا، إذْ مَضَتْ
فِي اخْتِبارِ حُدُودِ الأَلَمْ؟
***
وَمَنْ يَحْمِلُ الصَّوْتَ لَيْلاً، بُعَيْدَ
اخْتِفاءِ الحَنِينِ الَّذِي أَشْبَعَ الذّكْرَياتِ
كَلامًا كَثِيفًا نَمَا مِنْ عَدَمْ؟
وَمَنْ يَحْمِلُ النَّفْسَ، حِينَ تُفِيقُ مِنَ
المَوْتِ، حِينَ سَتُبْحِرُ خَلْفَ عُيُونٍ
تَسَمَّرَ فِيها السَّنَا حِقْبَةً، لَمْ تَنَمْ؟
***
وَإنْ قَالَتِ النّارُ لَلْقَلْبِ، خُذْنِي أَصِيلاً
إلَى البَحْرِ؟ هَلْ يَسْمَعُ المَوْجُ صَوْتَ
الوَلِيدِ الَّذِي شَاقَهُ المَرْتَعُ؟
وَكَيْفَ يَكُونُ الحَدِيثُ عَنِ القَلْبِ
بَعْدَ انْقِضاءِ الفُصُولِ، وَماذا يَصِيرُ
الرَّمَادُ الخَفِيفُ إذَا مَسَّهُ المَاءُ،؟
هَلْ يَنْفَعُ الشُّعَرَاءَ لِدَمْلِ الجِراحِ الّتِي
وَرِثُوهَا أَبًا سائِلاً عَنْ أَبٍ.
***
وَحِينَ يَغِيبُ الزَّمانُ عَنِ اللَّحْظَةِ،
وَتَعْلُو مِنَ الهَاوِياتِ الخُطُوبُ الَّتِي
تَأْخُذُ النَّفْسَ فِي رِحْلَةِ اللاَّرُجُوعِ إلَى
حُلُمٍ سَابِقٍ، مَنْ يُعِيدُ الضِّيَاءَ
إلَى مُقْلَةٍ مَكَثَتْْ فِي الغُرُوبِ؟
وَمَنْ فِي الظَّلامِ سَيَرْسِمُ لَيْلاً
لَهُ ما لَهُ مِنْ صَفَا اللَّيْلَةِ؟
***
وَحِينَ يَصِيرُ المَكانُ كَثِيبًا مِنَ
الحُزْنِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ أَنَّى تَرُوحُ.
وَحِينَ سَتُفْتَحُ، بَعْدَ سُبَاتِ
الخَرِيفِ، عَلَى مِصْرَعَيْهَا القُرُوحُ.
وَحِينَ، عَلَى شَفَةِ القَفْرِ، يَنْمُو
الضَّبابُ الجَدِيبُ.وَحِينَ
سَتُمْحَى الدُّرُوبُ وَتَفْنَى عَلَى
هذِهِ الأَرْضِ. يَبْقَى الكَلامُ الجَرِيحُ
بُيوتًا مِنَ الشِّعْرِ، نَارًا تَوَقَّدُ فِي
مَفْرَقِ الرُّوحِ، يَأْوِي إلَيْهَا،
إذَا ما أضاعَ الطَّرِيقَ، الغَرِيبُ.

القدس، ديسمبر 2005


****

عبد الله بحري - ناقد جزائري

ما حاجتنا للشعر و نحن نخاطب زمنا مختلفا ، تعقدت فيه الحياة أكثر مما يجب ، و تلونت فيه الأهواء و باعدت بيننا متطلبات العيش حتى صرنا نتمنى الوحدة حتى في عملنا الجمعوي ، و ما حاجتنا للحديث عن المشاعر و البؤس يصور بشكل رائع آلامنا؟
بل و أعيد صياغة السؤال مرة أخرى لأقول: ما حاجتنا لأن ننام قرب كلمات تزيد من فقرنا و ضررنا ؟
هل كان جميع الشعراء الكبار يفكرون في البؤس و هم يكتبون القصائد ؟ وهل القصيدة هي لسان البائس المقتر ؟
أسئلة تولد من رحم سؤال واحد ذكره السائل ، هل نحن في حاجة إلى الشعراء في زمان البأساء و الضراء ؟
و هل الشعر عقبة تحول بين آمالنا ، و هل الشعر سبب في البؤس الذي نتداخل إليه أفواجا ..
ربما لا يصح أن أتساءل بهذا المنهج ، لأنني لن ألغي ما هو موجود فعلا ..
و لكن الحاجة الحقيقية للشعراء ، النمط الشعري القادر على تعرية الذات و العالم الخارجي ، وصلة لا بد من وجودها كي تكتمل أوراق الحقيقة ، فالشعراء يرون العمق دون حاجة لأن يلبسوا نظرات ، و من هناك يقرأون هذا الزمن ثم يستشرفون ..
أجل .. نحن في حاجة للشعراء خصوصا في زمن البأساء و الضراء ..

***

شوقي مسلماني: جدوى الشعر؟

ربّما ما جدوى كلّ شيء وسط هذا العبث منذ البداية وحتى النهاية، أو وسط هذا الإحتراق والرماد الأوّل والرماد الأخير، أو وسط هذه المخاتلة تفاؤلاً كذّاباً، حيث كلّ شيء هنا ولا شيء حقّاً هنا، حيث ظلال العدم على ما يشبه قطرة ماء في هذا الكون اللانهائي.

ولا غرابة في ذلك، أمّا ما جدوى الشاعر!، وهو سؤال العارف ولا شكّ، فهو الغرابة ذاتها، أو الألم ذاته، أو الإندحار المحتّم ذاته، ففي ما يشبه قطرة الماء الجبريّة مَنْ يُعاكس ويشاكس ويتمرّد ويُريد .. لا يأمل فقط بل يريد أيضاً .. ولذلك يهدر أو يبذل ـ سيّان ـ ناظريه ودمَه أحياناً لتكون ابتسامة حقيقيّة أو ليكون فجر حقيقي صنيعه هو لا صنيع خذلانه وهشاشته وخيالاته وأوهامه وأمراضه التي لا سلطان فيها .. هنا الكفاح والخيبات والمرارات في سباق حثيث ودائب وقاهر ومُذِل مع جحافلِ ـ جرادِ ـ عينِ عاصفةِ ما يُسمّى الزمن الهادر نزيفاً والمصرِّ في آنٍ أن يلتئم ويبرأ من كلّ هذه الفوضى والملل والقرف والعمى الدموي، وهنا الظلام الذي لا يندحر.

الضوء يرسم وهو يمحو، الضوء يهب وهو يتسلّل وينهب، الضوء يُعمِّر وهو يُخرِّب ويُدمِّر،
الضوء يشدو وهو ينعق .. هنا كلّما مات الله كلّما هبّت أصنام، وكلّما وقف الإنسان على قدميه هبّت أصنام أيضاً .. وتقول الأصنام ذاتها ـ والأرض تطوِّح بأثقالها وتخنق عيونها وتذرِّر أرواحها وضوءها وتدسّه في التراب ـ لقد انتهى التاريخ! .. الأصنام ذاتها تقول ـ والأرض هذه حالها البائس الحزين المؤسف المتأوِّه الصارخ ـ لقد برد كلّ شيء، استسلموا.

أجل خلف كلّ طاغية جبّة أو قلنصوة، وخلف كلّ جبّة أو قلنصوة طاغية.

وتقول الأصنام ذاتها: الإنسان هو الذي مات والأصنام ذاتها تقول: مات الشعر، أي الشاعر.

بل كلّ الجدوى هو هذا الروح، بل هو ما يشبه قطرة الماء في هذا الحيِّز من هذا الكون، بل هو جذوة الهبوب الذي يأمل ويريد.

ولِد الإنسان يوم ولِد، وولِد يوم ولِد الإنسان .. هما معاً هذا الذي يحلم ويريد.

والإنسان ينام وهو الملاك الحارس، ويبكي وهو المواسي، ويتخاصم وهو الذي يُصالِح، ويعطش وهو الذي يروي، ويُظلِم وهو الذي يُنير .. ويتهالك وهو الذي يشدّ الأزر .. كلاهما واحد: الإنسان والشعر.

وبعد، أجدوى أم لا جدوى؟

****

محمد حسن أحمد (شاعر إماراتي)

الشعر هو اليقين المفرط، نأخذه مرارا خارج السرب لكن نعود به مع بعض الرصاص ونشيد وطني وجثث .. الشعر لا يليق به سوى البؤس لأنه قادم من الموت، من الاحتضار، حيث تفلت الروح إلى السماء بينما يبقى الشعر نصل الذبيحة، في طفولتي عرفت شكل الليل وشاهدت مرارا أجساد النساء، ولعبت بالكرة لساعات طويلة مع بعض الغبار، وعرفت رائحة أمي، وكبرت حماقاتي وهدوئي لكن أبدا لم أكن على علم بأن الله يدس لي شيئا لليوم الأسود إلا حين تعرفت على الشعر وهو يكتبني لأول مرة.
كان المذاق كما جنة الخيانة، كما لو أنه رسول كسول يطلب منّي أن ادخل علانية في شهوة الكتابة، وكل ما اعرفه عن الشعر أنه جعلني أتعرف على أشخاص ممسوسين يسمون قبورهم، ويعرفون لون المهد، ولا خوف عليهم ولا سلطان بينما لا شيء يدل عليهم في المدينة سوى التصاقهم بالبحر والبارات والفنادق الرخيصة أو الطرق المتعبة من أقدامهم .
أؤمن بأن للشعر دخل كبير بما سيحدث يوم القيامة.
الشعر أخذ بيدي إلى الصبر والسلوان.
للشعر كما لأصابعي أظافر وتجاعيد.
تبدأ الفوضى حيث يبدأ الشعر.
لا جدوى للشعر حين يموت علي العندل وجمعة الفيروز وهم لا يملكون ثمن الدواء.. لا جدوى أن نقرأ قصائدهم بصوت عالي فلا أحد يعرفهم في المدينة سوى بعض الأصدقاء بينما الحكومة تجتمع لبناء ناطحات السحاب والحديث عن التركيبة السكانية .
الشعر فاحش الثراء، لكنه بخيل.
الشعر كما أي امرأة عارية لا تصدق حتى الرجل الأعمى.
حاولت أن اكفر بالشعر .. خفت من نار جهنم .
الشعر هو أول من نطق باسم الفقر والبؤس والضراء.. هو أول مكان تتعلم فيه أن تكون عظيما بعد الرب.
لـ نبقى على الشعر .. كي يخفف علينا صوت الرصاص في العالم.
لو ولدت قبل الماء قبل الصمت لاخترت أن أكون آلهة الشعر.

يتبع