مات يوسف الصائغ. مات هذا المسرحي والروائي والشاعر الكبير. التقيته في بغداد، عام 2000، ولم أملك إلا أن أحبه. قيل لي الكثير عن مواقفه تجاه صدام. لكنني فوجئت بتحلّق المثقفين العراقيين حوله، ومحبتهم البادية له. ولم يطل عجبي، فالرجل، حين تحدثت إليه، وحين ضمنا المجلس أكثر من مرة. اكتشفتُ كم هو وادع، ووديع - سبعيني في إهاب طفل! شاعر يكتب للمسرح ويكتب الرواية، ويكتب المذكرات أيضاً. ربما كان الشاعر الوحيد القريب من صدام، ورغم هذا أحببته! فقد شعرت بأنه، في دخيلته، على عكس ما يتقوّل الآخرون. فنان، هي الكلمة الوحيدة التي يمكننا اختصاره بها. استمعت إلى آرائه في أدونيس وعبد الوهاب البياتي، اختلفت معه حول الأول، واتفقت كثيراً حول الثاني. لكن في جميع الأحوال، لا تملك مع هذا الفنان، إلا أن تحترم رأيه، وتظل على ودّ معه، رغم الخلاف. قيل لي إنه أسلم، فلم آبه. بل ظللت أنظر إليه على أنه المثقف العلماني الذي كان وما زال. وعلى أنه الفنان، وحسبي بها من صفة. كان في العام 2000، في صحة جيدة قياساً إلى عمره. بعد الحرب ورحيله إلى دمشق، بدأت متاعبه الصحية الحقيقية، وبدأ الجسد يتهاوى تحت ثقل السنين، والربو، وثقل تداعيات الحرب والرحيل. حتى أنني فوجئت بصورة حديثة له، قبل شهرين،كدت لا أعرفه منها! يوسف الصائغ، الذي أهداني بعض دواوينه، وحين عدت إلى بلادي، حصلت على أعماله الكاملة من صديق، هو شاعر كبير بغير مقياس. ويكفيه [اعترافات مالك بن الريب _ جزآن] كعمل شعري، لكي يُؤطر في خانة كبار الشعراء. أما اقترابه من صدام، فأظن أنه كان مجبراً على ذلك، كغيره من المبدعين العراقيين الذين آثروا البقاء في العراق، على رحيلٍ لم يكن يناسب أعمارهم وظروفهم ولا هواهم. فيوسف كان عاشقاً نادراً لبغداد، ولم يكن بمقدوره تركها والرحيل إلى غيرها. ويعرف الأخوة المبدعون العراقيون، أن صدام الطاغية، لم يكن ليترك أديباً في حاله، إلا إذا مدحه وتغنى به، فإن رفض الأديب وتعالى، فمصيره معروف. وأظن، أن يوسف، أتخذ ما اتخذ من مواقف، مرغماً، كي يظل في العراق، وكي يتلافى بطش الطاغية. ربما لا يغفر له المثقفون العراقيون هذا الموقف، وأنا أعذرهم ههنا أيضاً. لكني، مع ذلك، أطالبهم بالمغفرة، وأطالبهم بألا يقسوا على شاعر كبير، وإنسان صادق ونبيل، مهما يكن! ففي الأول والأخير، يوسف الصائغ، شاعر عراقي ومحسوب على العراق، قبل أن يُحسب على لغة العرب وبلدان العرب، كواحد من كبار شعرائها في القرن العشرين. لقد ساهم وأعطى في عدة حقول معاً، وبنفس درجة الإبداع. فكما كتب أكثر من عشرة دواوين شعرية، كتب روايات مثل [اللعبة] و [المسافة] و [السرداب رقم 2] _ والرواية الأخيرة قرأتها، فور صدورها عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة عام 1997.

وأودّ الآن التذكير، بالكلمة المفتتح، والتي صدّر يوسف الرواية بها، فعلّنا كما آمل، نلمس مقدار ما فيها، على بساطته، من صدق ونبل، ربما يلخصان مسار يوسف الصائغ ومسيرته. يقول يوسف تحت عنوان [كلمة] ما يلي: ( ليس لهذه التجربة اتصال بأي غرض سياسي..أو أية جهة سياسية..إنها تصف معاناة، اشترك فيها الكثير من الناس الذين، واجهوا العسف، بسبب ما يُسمى [سياسة]..على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم... هذه الصفحات معنية بأن تعيد لهم جميعاً اعتبارهم، لأنهم لأسباب عديدة، حاولوا أن يكونوا طيبين وصادقين..ولم يكن ذلك، دائماً، في متناولهم..بسبب السرداب]. ولا أريد الآن، خوض غمار هذه الرواية، ذات العالم المقبض: عالم السجون والمعتقلات، فبإمكان القارىء المعني، الرجوع إليها، ليقرأ ويعرف تفاصيل حقبة سوداء من تاريخ العراق الحديث. هذا العراق، ذو الشعب الطيب النبيل، والذي قدّم عبقرياته الكبرى، في كل مجال، وكان طليعة الحداثة في الفن، وبالأخص شعراً ونحتاً وتشكيل لوحات. فلم تخرج الريادة من بين يديه، إلى هذه اللحظة. ومع ذلك، فُجِعَ بأعتى الديكتاتوريات، وبأبشع الطغاة، فما تركته هذه، إلا خراباً وأشلاء. في مفارقة تاريخية، يقطر منها السواد والدم. على أننا، ونحن الآن نشهد انتخابات مجلس النواب العراقي، لنأمل ونحلم بعراق جديد، مهما عسُر مخاضُه، ومهما تكالب عليه الظلاميون، فهو واصل حتماً إلى برّ الأمان. وهو بالغ حتماً، ما لم يبلغه العرب المحدثون، من تقدم ورفاهية وديموقراطية، في هذه المرحلة الملتبسة وإنما العظيمة من تاريخ حياته. ولأننا على أبواب عصر جديد بكل المقاييس، عصر الليبرالية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وتداول السلطة سلمياً بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، عصر تشيع فيه قيم احترام الاختلاف، واحترام التنوع والتعدد، والتسامح، فإننا نطالب باحتضان يوسف الصائغ من قبل مثقفي العراق، رغم زلات الرجل وهفواته. فهو لم يكن بالمنافح الأيدولوجي عن الطاغية، بل كان يتقي شره وبطشه، ما أجبره على مديحه أحياناً، لكن يوسفاً، وفي العمق منه، كان شاعر القيم الحديثة، وشاعر الإنسان، وشاعر الليبرالية والتسامح أيضاً. ومن هنا، أشعر بالأسى لرحيله الأبدي، وأعود إلى أعماله الشعرية والمسرحية والروائية، وأقرأ بضع صفحات من مذكراته، فأحس، بأن الرجل ظُلم مرتين: مرة حين حُسب على صدام، وأخرى حين لم تسعفه الظروف، ليكون في صف المعارضة للطاغية الدموي.

فالرحمة له إذاً، والسماح لمن أحب إبداعاته واستهول بعض مواقفه! فهو، كما وصف أبطال روايته [حاول أن يكون طيباً وصادقاً، ولم يكن ذلك، دائماً، في متناوله، بسبب السرداب] نعم: بسبب السرداب، الذي هو سرداب غُيّب فيه العراق الكبير، زمن الطاغية البائد!

الرحمة ليوسف، شاعراً كبيراً وإنساناً وديعاً، والأمل للعراق الليبرالي وهو يتشكّل الآن، منارة للديموقراطية، ووطناً لجميع العراقيين، ورائدَ حرياتٍ يعلّم هذا الشرق، كما علّم البشرية من قديم.

مقالات ذات صلة:

وفاة الشاعر والمسرحي العراقي يوسف الصائغ

رشا فاضل: يوسف الصائغ.. مرحى لك رحيلك عن مقبرتنا الكبيره!