بيروت (رويترز): قد يشعر القارىء وهو يتابع quot;اوراق الملا زعفرانquot; لنزار اغري ان الكاتب العراقي اراد مما اسماه رواية مجرد ذريعة لسرد التاريخ الكردي بكل ما فيه من الام ومصائب وحروب دائمة. وفي كلام ملتبس عبر رمزيته.. يبدو كأن الكاتب يقول بلسان بطله الملا زعفران ان الاكراد حرموا من بعض الخير الذي وزعته الرسالة الاسلامية على العالم فلم تشملهم نعمة ما اسماها القران quot;خير أمةquot; اخرجت للناس. الا ان ما يقوله يبقى يحتمل الشيء وعكسه.
تبدو الرواية من ناحية قناعا ومجالا للابتعاد عن الكتابة السياسية المباشرة وتذكر بالطرق الفنية التي درج الكتاب والصحافيون على اللجوء اليها هربا من الرقابات المتعددة في هذه المنطقة من العالم. كما تبدو للوهلة الاولى قريبة من ان تكون عملا رمزيا لكن رموزها شفافة جدا فهي تظهر اكثر مما تخفي بل انها بادعاء الاخفاء ربما كانت تقول اكثر مما لو اتيح لها قدر اكبر من المجاهرة.. ففي المجاهرة غالبا اضطرار الى وضع حدود وضوابط وكوابح نظرية على الاقل. الحيلة الفنية التي لجأ اليها الكاتب تذكر نوعا ما -بطريقتها لا بالغاية من رحلة بطلها البعيدة- برواية quot;ادويسة بالثازارquot; للكاتب اللبناني المقيم في باريس امين المعلوف وسعي بطله وراء الكتاب السري النادر.
جاءت الرواية في 132 صفحة من القطع الوسط وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يبدأ الكتاب بحيلة فنية معروفة هي العثور على مخطوطة والانطلاق عبرها الى احداث وذكريات هي في الواقع ذرائع لأفكار ووجهات نظر.. او قد تكون هي عينها الاسباب التي ادت الى هذه الافكار ووجهات النظر. الامر اذن هو نوع من تفسير الحاضر بالماضي. والحاضر والماضي كلاهما يدوران حول الشعب الكردي وعلاقاته بمن حوله وبالعرب -قبل الاسلام الى حد ما- ثم بعده في معظم ما اشتمله الكتاب.
يبدأ اغري روايته بكلام يشبه التوطئة لكنه يفترض ان يكون جزءا مهما من الرواية وهذا امر لم يتحقق. فقصة الكاهن الايطالي في عثوره على المخطوطة لا تشكل امرا جوهريا في الرواية اذ اننا اذا حذفنا هذا القسم واستعضنا عنه باسطر قليلة تصف العثور على مخطوط قديمة عند احد الوراقين لم تفقد الرواية امرا مهما. اهميتها قد تكون في انها في النهاية تشكل مرتكزا لخاتمة رمزية اولا.. وثانيا انها وسيلة ايهام بالبعد.. اي بعد الكاتب نفسه عن احداث روايته ومسحها بمسحة تاريخية مفترضة.
يقول الكاتب انه في النصف الاول من القرن الثامن عشر انطلق كاهن ايطالي اسمه ماريو ارزوني من مدينة باليرمو quot;وحط به المقام في بقاع جبلية تمتد من اطراف ايران عند الخط المظلل من زاغروس وتنتهي عند الصدغ اللامع للاناضول.quot; وقد حمل معه الانجيل وكتب الرحالة ومصنفات عن عادات اهل تلك الجهات. وتعرف الى الناس وتطبع بعاداتهم وتقاليدهم حتى غدا كأنه واحد منهم ووضع مؤلفات عنهم وعن لغاتهم وجمع كتبا ومخطوطات منها واحدة في مدينة بدليس لشخص يدعى الملا زعفران وهي اقرب الى سيرة ذاتية دونها من لقب بالملا زعفران.
الاطار العام لحديث هذا الملا كان عن حياته مع زوجته وابنه في اوان دخول العرب ديار الاكراد ونشر الدين الاسلامي فيها. الا انه كثيرا فعلا يروي وقائع واحداثا شهدها في اثناء ذلك فيصف تصادم العرب والكرد quot;في تلك اللحظات التاريخية التي كانت تغير مجرى التاريخ ومصائر البشر هناك.quot; وفي نوع من اضفاء الطابع الواقعي والتاريخي على الامر اضاف اغري يقول ان الكاهن درس المخطوطة بتأن وكتب لها مقدمة واضاف اليها ملاحق وانه عثر على هذه الاشياء في زيارة له الى اربيل quot;بين عدد من الكتب المفروشة يبيعها اصحابها بأثمان زهيدةquot; فدفع المخطوطة الى صديق له صاحب مطبعة فقام بطبعها.
وتحت عنوان quot;فقرات من مقدمة الكاهن الايطاليquot; حديث عن كيفية حصوله على المخطوطة ومعلومات عن الملا زعفران فهو يروي جوانب من حياته وحياة زوجته وابنهما الذي اختفى في هجوم على منزل العائلة. وتداركا لما قد يؤخذ على تاريخية quot;الروايةquot; وللاشارة الى بعض مصادر موادها يقول اغري بلسان الكاهن الايطالي -وهو كما يبدو بوضوح هنا رمز لاهتمام غربي عبر المستشرقين بأمور منها الكشف عن بعض النواحي التاريخية والادبية في هذه المنطقة من العالم- انه يعتقد ان اكثر من رجل واحد كتبوا اليوميات وان الامر استغرق اكثر من جيل وان صفحات منها مأخوذة او منقولة عن كتب وتراجم وتواريخ معروفة وان الملا quot;استعار كي لا اقول سرق صفحات كاملة من مؤلفات الدينوري وابن الاثير والمسعودي...quot; وغيرهم.
وشخصية رجل الدين الكردي هنا لا تخرج كثيرا عن الصورة النموذجية في الذهن الغربي -والشرقي الحديث الى حد ما- عن تحالف رجال الدين والسلطة والطبقات الحاكمة اجمالا في حقب كثيرة تحالفا فيه مصلحة الطرفين من جهة وفيه مواقف مبدئية واقتناعات عميقة عند قسم منهم ايضا. وفي مزج بين الروائي المتخيل والرمزي يعرف الملا زعفران بنفسه فيقول quot;اسمي عبد الله منصور الموصلي. يلقبونني بالملا زعفران. عمري الف عام او اكثر او اقل. كنت ولم ازل مفتيا. كنت مفتي السلاطين والباديشات. جعلتهم بفتاويّ اشداء بانزال الخراب بالساعين في الفتن ومواطن الشر. اعنتهم ما استطعت في ذلك سبيلا على قهر الاشقياء ووأد الطامعين. رسمت لهم قمر النجاة من حصار المنافقين وتهالك الكفار. منحت فتاويّ لرؤوس جيوش العرب والترك والعجم عونا على حميتهم في الذود عن ديار الايمان ومكامن الدين. كثير من فتاويّ ذهب في خنق عصيان الكرد وكسر شوكة تمردهم. والكرد وهم قومي وانا اعرفهم اصحاب ميل في الزوغ والميلان.quot;
واضاف ان في كلام الله اشارة الى ان quot;في جمعهم خسارة وفي تشتتهم مكسب. وهذا ما انا في اثره ماض أرضيquot; الله والرسول. وتحدث في مجالات اخرى عن اتساع نطاق الانتصارات العربية الاسلامية quot;ووصلت قوافل الرجاء الى نخجوان وبرذعة وارمينيا وتفليس في بلاد الكرد. وكان عليهم ان يتجاوزوا خندق الكرد ويكسروا شوكتهم حتى تفتح الارض ارجاءها جميعا. كان الكرد عقبة كأداء وكانت قلاعهم... مثل جبال نار تحرق ما يدنو منها. اخذت على نفسي ان ادنو من عوامهم فأنفخ في صدرهم نفس الجبار وأفتح عينيهم على بهاء الكتاب المبين.quot;
وبسبب موقف زعفران انتقم بعض الكرد منه فأحرقوا منزله وخطفوا ابنه. quot;ولدنا الوحيد هوزان ضاع منا في يوم حالك السواد... ولو لم نهرب لكانوا اخذونا ايضا. كانت هذه فعلة الكرد quot;الداسنيينquot;. كنت قد افتيت بقتلهم وسبي حريمهم ما لم يهرعوا لاحتضان الدين القويم.quot; وقد حدث ذلك. صار الملا وزوجته يرافقان العساكر العربية لتشجيعها وللبحث عن ابنهما. وسيطر الحزن على زوجته واصابها الذبول. وتكاثرت اعمال العصيان عند الاكراد وتكاثر قمعها بارشاد وتحريض من الملا الذي كان يشعر بالخيبة وquot;العيبquot; عندما كان الجيش يقول ان اشد الناس فتكا به هم الاكراد فطلب من القائد عتبة الا يرأف بهم. ولنا هنا ان نقرأ احداث الماضي كأنها الحاضر فالخليفة رمز تغير عبر الزمن الى ان نصل الى حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
صارت تنتاب الملا زعفران احلام مرعبة بفعل شعور بالذنب تغلغل في اعماقه. يقول عن حلم منها quot;كانت زوجتي تحمل جثتي على ظهرها وتدور بها في المدن والقرى وتلح على الناس للوقوف وتأملها وتقول لهم.. هذا هو الرجل الذي قتل ابنه وأهله فيدنو الناس مني... يرمقونني باستنكارهم ثم يعمد بعضهم الى ضربي...quot;
وخيم الموت والدمار على المناطق التي تشهد تمرد الكرد quot;ويكثر الفتك فيصير ايتام وثكلى وتائهون وهاربون وخائفون وناقمون وهائمون على وجوههم.quot; نكمل القراءة على ان نفهم مصطلحات الماضي على اساس انها دول الحاضر. quot;وضع العرب والفرس والسلجوق خطتهم للعمل فأقاموا طوقا من النار حاصروا به ارض الكرد.quot; ولم يكتف الاكراد بقتال الاخرين بل انقسموا على انفسهم الى امارة سلمان وامارة بهمان وقامت حدود لكل منهما وما لبث قادتهما ان انغمسوا في حياة الترف واللهو.
وبمرارة وخيبة امل قام الملا الذي أيد فئة من الاثنتين في البداية بكتابة رسالة الى الخليفة قال فيها quot;هذه الارض في الجملة فسيفساء عرقية وتباينات متناثرة لا تنقاد الا لسلطان قاهر فهي ارض متاعب جمة المصاعب لكل جاد ولاعب... والاكراد بشقيهم المهماني والسلماني قد اعطوا صفقة ايديهم وثمرة قلوبهم للزنادقة وفتحوا ارضهم للابالسة وصاروا قاعدة يتسللون عبر اراضيهم ويتخذونهم جسرا يعبرون عليه... وانا ماض بفتاويّ أدبر لهم المكائد كي تغور بهم الارض.quot; ويأتي جواب الخليفة من بغداد شاكرا له اخلاصه وصداقته ووفاءه وحسن ديانته ويقول له quot;وقد ارسلت مع مخصصاتكم ثلاثة الاف جنيه ذهب وفروة سمورquot; وهدايا عديدة. لكن لما عم الموت بلاد الكرد وسويت الدور والقصور بالارض قال الملا زعفران لنفسه quot;لم يعد ثمة مكان لي هنا ولا وظيفة.. لقد كانت ولادتي في هذه البقعة من ارض العالمين لعنة. لم امنح فضيلة الانتماء الى سلسلة خير امة اطلعت من صحراء جدباء ونثرت رذاذ النعمة من حولها فشمل الخير الناس اجمعين.quot;
اما كيف تنتهي رواية الملا فمتروك للصفحة الاخيرة وهي من كلام الكاهن الايطالي. قال quot;كنت لم ازل في كردستان حين تناهت اليّ اقاويل تخبر عن لجوء الملا زعفران الى قشتاليا واستقر في بلدة صغيرة منها وهناك تزوج امرأة من نسائها ولا يعلم ان كانت صارت على دينه ام انه صار على دينها ام بقي كل منهما على دين اسلافه. ولكنه انجب منها اولادا كثيرين انتشروا في اصقاع متباعدة واخذوا يفعلون ما كان ابوهم يفعل فينشرون دعوته ويروجون لاقواله ويصدرون فتاوى في شؤون الدنيا والاخرة.quot;