عرفت رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء يوم الجمعة 17 يونيو 2005، ندوة علمية في محور (صورة اسبانيا في الرحلات المغربية) من تنظيم مختبر السرديات، وقد شارك فيها عدد من الباحثين الأكاديميين المتخصصين في الأدب الإسباني والتاريخ وأدب الرحلة، من جامعات مغربية متعددة (المحمدية -بنمسيك والرباط وفاس وتطوان والقنيطرة والجديدة والسطات). افتتح اللقاء بجلسة أولية ترأسها عبد اللطيف محفوظ رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها وعضو مختبر السرديات، وألقيت فيها كلمتا عميد الكلية عبد المجيد القدوري، ورئيس المختبر شعيب حليفي، حيث ركزا على أهمية الحفر في النص الرحلي المغربي ودوره في رسم الرؤية وفهم طبيعة الأنا والآخر، وفي تيسير سبل الحوار الثقافي الذي ساد خلال قرون بين المغرب وإسبانيا.

وقد عرف هذا اللقاء جلستين ثريتين، الأولى ترأسها الأستاذ مصطفى النحال وتدخل فيها الدكتور عبد الهادي التازي يموضوع (ابن بطوطة ما يزال في حاجة إلينا). والذي قدم كعادته الجديد والطريف، رغم اقتصاره هذه المرة على اللقاء الذي جمع ابن بطوطة بجماعة من التجار والعلماء بمكان محدود حدا بضواحي غرناطة، حيث أبرز من خلال الأصول المختلفة لهذه المجموعة الملتئمة في ذلك المكان، أهمية الأندلس آنذاك. كما تطرق لبعض الثغرات في رحلة ابن بطوطة، وحاول فهمها وتداركها من خلال بحثه عن التقويم والتدقيق في بعض ما سقط من ابن جزي.
المداخلة الثانية للباحث الدكتور سليمان القرشي، الفائز مؤخرا بجائزة السويدي ـ ابو ظبي للدراسات والتحقيق في النص الرحلي. وكانت تحت عنوان ( اسبانيا كما رآها ابن بطوطة وابن الخطيب وابن خلدون) حيث استنتج الباحث أن الواقع الاجتماعي والسياسي كان ذا قوة وفاعلية في التأثير على مكونات صورة الأندلس/إسبانيا في رحلات ابن بطوطة وابن الخطيب وابن خلدون، والتي تمت في سياق تاريخي حرج ومؤثر ، وسم كل الأعمال الثقافية والفكرية التي انتسبت إليه بميسمه الخاص المفعم بطعم الهزيمة والانحدار والمتخم برائحة الخيبة والانكسار. وإذا بدت هذه الصورة باهتة في رحلة ابن بطوطة التي اكتفت بالتلويح دون التصريح، وأثرت الإشارة على العبارة، فإن ألوان الصورة المهزوزة للأندلس سرعان ما بدت فاقعة في رحلات لسان الدين بن الخطيب الذي صور في قالب ساخر خريف شجرة الأندلس العربية الإسلامية، وهو الخريف الذي أتى على كل مكوناتها.

كما شدد الباحث على أن الفاصل الزمني بين رحلات ابن الخطيب ورحلة ابن خلدون إلى الأندلس قصير الحبل، فإن المؤثرات التي وجهت صورة الأندلس/إسبانيا في المتن الرحلي الخطيبي قد تحكمت في بؤرة الصورة الخلدونية ووجهت إطارها، أما مكمن الخلاف بين الصورتين فيكمن في اختلاف زاوية النظر للأندلس بين ابن الخطيب الذي رصدها من الداخل ورسمها عن قرب، فيما اكتفى ابن خلدون بتقديم الأندلس كصورة جزئية تتعالق مع صور كلية للعالم العربي الإسلامي الذي جابه شرقا وغربا خلال القرن الثامن للهجرة.
المداخلة الثالثة للدكتورة وفاء العجوري ( الإطار الجيوتاريخي للرحلات العلمية بالأندلس في القرن 11) سعت من خلالها الباحثة إلى استنطاق كتب التاريخ من أجل ضبط حقيقة النشاط المكثف للرحلات العلمية بالأندلس خلال القرن 11 م كما توقفت عند دلالة بعض المصطلحات والمفردات الدقيقة، التي ترددت في عدد من المصادر، ولم تكن تخل من شحنة عاطفية وبعد تاريخي.
كما بحثت في أسباب ودوافع الرحلات العلمية داخل الأندلس ونتائجها على المستوى العام ، وخلصت إلى دوافع سياسية وأخرى دينية ثم اقتصادية واجتماعية وأخيرا علمية.
وختمت بحثها بملحق لأشهر الشيوخ المستقرين بمدنهم أو المتجولين ببعض مدن الأندلس.
وفي مداخلة رابعة تدخل الدكتور محمد رزوق في موضوع (عن مشاهدات شهاب الدين افوقاي). مؤكدا أن هذه الرحلة، هي تشريح للمجتمع الإسباني، ومحاولة لفحصه من الداخل، من خلال البحث عن موقع الطائفة المورسكية داخله..
وقد أبرز الجدل الذي لازم تلك المشاهدات وركز على الخصوصيات التي ما زالت تثير حتى الآن العديد من النقاش والتساؤلات. كما أشار إلى اختلاف وصف أفوقاي لإسبانيا عن وصف الرحالة المغاربة الذين زاروها خلال القرون التالية موضحا أن هذا الاختلاف يكمن في كون أفوقاي قد وصف أحداثا عاشها فعلا، بل وكان طرفا فيها. وذلك لأنه لم يكن زائرا عاديا يلاحظ ويسجل ، ليروي ما شاهد بعد ذلك للمغاربة، بل إن ما يرويه عن إسبانيا في رحلته هو تجربة حياة فعلية، تطرح حسب تقدير الباحث مسألة حضارية بالغة الأهمية : لماذا لم يندمج المورسكيون في المجتمع الإسباني ؟ ألأنهم كانوا ما زالوا متشبثين بهويتهم العربية الإسلامية ؟ أم لأنهم كانوا دائما يعتبرون أنفسهم "مواطنين" من الدرجة الثانية؟
أما الدكتور عبد المنعم بونو، صاحب المداخلة الأخيرة في هذه الجلسة الصباحية، فقد شارك بموضوع عن رحلة الوزير الغساني ( ق 17 م) الذي توجه في سفارة من المغرب إلى فليب الثاني من أجل تبادل الأسرى وافتكاكهم.
حلل الباحث النص الرحلي من منظور المعطيات المتوفرة فيه، ليخلص إلى رصد ثلاثة جوانب أساسية في هذه الرحلة:
ـ الجانب الطبيعي عبر وصف المدن والقرى التي عبرها.
ـ الجانب المعماري ـ الحضاري.
ـ وأخيرا الجانب الإنساني.
وانتهى إلى اعتبر النص شهادة تاريخية تتداخل فيها عناصر فكرية وسياسية وذاتية وموضوعية.

وقد أفرز نقاش هذه الجلسة الصباحية الأولى عددا من الأسئلة التي تهم أشكال تمثلات صورة اسبانيا عبر قرون مختلفة، وما تتضمنه تلك التمثلات من عناصر مشتركة وأخرى مختلفة.

أما الجلسة الزوالة، التي ترأسها الدكتور عبد الرحمن غانمي، فقد تدخل فيها الدكتور عبد الرحيم مؤدن بمداخلة ( الرحلة الأندلسية : صور الحوار وحوار الصور) تناول خلالها نص رحلة محمد بن سالم الورداني ( مثقـف تونسي : 1861-1905) بعنــوان ( الرحلة الأندلسية) وهي حلقة من حلقات الرحلات العربية الإسلامية المتجهة نحو الآخر أو الغرب في القرن التاسع عشر، مسارها العام دوافع علمية تجسدت في الاهتمام بشأن تقدم العلوم والمعارف، عن طريق بعثة نظارة المعارف العمومية السلطانية، إلى إسبانيا وباريس ولندرة، للإطلاع على بعض ما بها من الآثار العربية والكتب النفيسة. وقد خلصت المداخلة بعد تحديد كافة حقولها إلى أشكال من الصور التي تؤطر وعي الرحالة في رؤيته لهذا الآخر بمعطياته العامة والخاصة :
1 – الصــور التركيبية : وتقوم على محاولة الانتصار للمـــاضي (الأندلس ) والاعــتراف بالحاضر ( إسبانيا) .
2 – الصور النقدية وتعمل على تأويل الظاهرة من موقع المقارنة بين سلبيات المجتمعين.
3 – الصور الموضوعية ، وفي هذا المستوى نجد الرحالة المتابع لمختلف التطورات في الماضي والحاضر.
4 – الصور المتوجسة : وهي صور تطل من ذاكرة الرحالة أثناء تجواله بالمكان.
وفي مداخلة الدكتور علي فضول حول رحلة المهدي الغزال في القرن الثامن عشر الذي عرف اتصالات ديبلوماسية بين اسبانيا والمغرب حول استئناف الحوار من أجل حل القضايا العالقة واختبار النوايا السلمية بين الطرفين، جرى توضيح أنه في هذا الإطار كلف السلطان محمد بن عبد الله السفير احمد بن المهدي الغزال سنة 1767 بالسفر إلى مدريد. وقد دون هذه الرحلة في نص طريف تحت عنوان ( نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد), ثم أشار الباحث إلى وجود سفارة ثانية في نفس الموضوع سيرأسها السفير ابن عثمان المكناسي ويقيدها في رحلة ( الأكسير في فكاك الأسير).

وحول ( مشاهدات الكردودي في اسبانيا بين السياق والتاريخ) تدخل الدكتور محمد معروف الدفالي مقاربا، الرحلة السفارية "التحفة السنية للحضرة الشريفة الحسنية بالمملكة الاصبنيولية"، انطلاقا من السياق الداعي لها، والذي يتمثل في حل بعض المشاكل، والرغبة في توثيق العلاقات، خصوصا وأن المغرب في النصف الثاني من القرن 19 كان في وضعية حرجة بعد عدة هزائم، مقابل اسبانيا التي كانت من الدول المتنافسة على احتلاله. بعد ذلك عالج الباحث مشاهدات الكردودي في اسبانيا العسكرية والحضارية المدينية والمآثر الإسلامية المتبقية.
وقدمت الباحثة أسماء طهيري قراءة تحليلية لمؤلف الكاتبة الاسبانية نييبس باراديلا ألونسو ( المتاهة الاسبانية الأخرى : الرحالة العرب إلى اسبانيا ما بين القرن 17 والقرن 20(، وقد تعرضت لمختلف فصول الكتاب مركزة على منهجية الكاتبة، وعلى الرؤى التي استنبطتها من كتابات الرحالة العرب، خلال كل هذه الفترة الطويلة. ووضحت كيف أن اسبانيا قد بدت في تلك النصوص بمثابة متاهة في طياتها الكثير من الأسرار والحقائق، انصهر فيها الماضي بالحاضر بالمستقبل.
أما المداخلة الأخيرة فقد قدمها الدكتور بوشعيب الساوري، وكانت تحت عنوان ( صورة الأنا والآخر في الرحلة الأندلسية). وهي عبارة عن قراءة في رحلة علي الورداني عبر الوقوف عند تصوره للآخر(مستعمر، خامل، متعصب، متوحش). وهو تصور موسوم من جهة بالانشداد إلى الماضي الذي يهم الذات، مثل عدم تسامح اسبانيا الديني غداة تقويض الحكم العربي بالأندلس، ونزوعها إلى التوسع والاحتلال، ومن جهة ثانية بالرجوع إلى بعض العادات مثل طول زمن القيلولة، والاستمتاع بصرع الثيران..
وقد اعتبر الباحث أن الورداني قد قام برحلتين في رحلة واحدة، الأولى فعلية أنجزت في الحاضر، أما الثانية فرمزية أنجزت في التاريخ العربي الإسلامي بالأندلس.
واختتم هذا اللقاء العلمي بإثارة عدد من الأسئلة الاستراتيجية، التي أكدت على انفتاح آفاق البحث في الموضوع الذي يظل على الدوام في حاجة إلى مزيد من التدقيق. وأخيرا أعطيت الكلمة للدكتور عبد الهادي التازي الذي تحدث – انطلاقا من تجربته الديبلوماسية - عن الرحلة السفارية. ثم أنهى كلمته بالتأكيد على ضرورة تجديد دماء البحث في الرحلة المغربية، ورؤاها التي لا تبتعد قيد أنملة عن الحاضر الذي نحياه..