لم يمت .. لعله اختفى في مغامرة جديدة.. حتى لو كان اسمها "الموت"، فهذا الرجل الاستثنائي، قادر على ارتكاب الحماقات حتى النزع الأخير، لكن ما حدث ـ على الأقل رسمياً ـ أنه.. مات، وكما يموت الناس.. مات..
ولو قيض للعم محمد مستجاب أن يشاهد جنازته التي شيعت اليوم الأحد بهدوء يليق برجل طالما كان يكره الصخب والضجيج، لملأ الكون سخرية من المشيعين، ومن نفسه، ومن مشهد القبر المتواضع الذي ضم رفاته المنهك بمتاعب القلب والكبد والرئتين، إذ أن الروائي والقاص وكاتب المقالة الذي يراه كثيرون من عشاق أدبه وحتى الغيورين منه، كان آخر سلالة الساخرين العظام، وقد وافته المنية ليلة أمس عن عمر لا يتجاوز 67 عاماً، بعد أن أمضى عدة أيام في الرعاية المركزة بمستشفى قصر العيني بالقاهرة، وحين كان يفيق من الغيبوبة يطلق تعليقاته الساخرة الحريفة، ليعود إلى مواجهة الموت بسخرية خالية تماماً من الادعاء، كونها جزءاً أصيلاً من مكوناته الإنسانية والثقافية، التي تمتد كالنيل تدفقاً وحكمة وعطاء .
ومنذ ظهور مستجاب على الساحة الثقافية في مصر، كحالة استثنائية، خلق عالمه الخاص الذي يتداخل فيه الواقع بالخيال، ويوظف الأساطير الشعبية وحكايات الجدات، وانشغل بصياغة أساطيره الخاصة، أساطير مستجاب ذي الألف وجه ووجه، المسكون بالمتناقضات، وخاصة بعد أن وقع في غواية "آل مستجاب" ففرضهم على معظم شخوص رواياته وقصصه، وراح يحاول بإصرار بناء أعماله استنادا إلى الوجوه المتناقضة لعالم مستجاب، فهو تارة الحكيم الزاهد في كل شئ عدا مصاحبة الغربان والحدادي والثعالب والكلاب الضالة، وهو في وجه آخر رجل العصابات الريفي المتربص بالثروة الذي يخطط للعثور على الكنز الدفين، فيصطحب قصاصي الأثر حتى لا تلتهمه دروب الصحراء، ثم هو مستجاب الأحمق الجشع الذي يسعى إلى التخلص من كل رفاقه واحدا تلو الآخر للانفراد بالحياة، لكن يفاجأ في النهاية بعد أن عاين مصيره المحتوم مع "اللهو الخفي" أن كل الحماقات جديرة بالارتكاب . والفقيد من أبرز أدباء جيل الستينيات واشتهر بالكتابة الساخرة، وله تقنية فريدة في السرد والحكي، واتسمت كتاباته بنكهة خاصة سواء في اهتمامه بالتفاصيل اليومية وشخوص ريف الصعيد المصري، وضفائر الأساطير بالواقع، وطالما ردد أن أكبر أزمة تواجه مصر الآن هي "أزمة خيال" .

اللص الضال
لاشك أن العم مستجاب كان سيغضب مني جداً لو قرأ في تقرير نعيه سيرة ذاتية على الطريقة المدرسية القائلة إنه ولد في عام كذا، ونشأ وترعرع في أحضان الصعيد، ولا أستبعد أنه كان سيقذفني بـ "السبرتاية" التي يصنع بها قهوته بنفسه، ويصفني بحزمة من أبشع الصفات وأبسطها أنني "تافه"، ومن منتجات عالم مابعد الحادي عشر من أيلول، وكان سيحيلني إلى واحدة من تجلياته، وما أكثرها، خاصة حين كنا نلتقي بالجلاليب الصعيدية ونمارس الصعلكة كأب شرير وابن فاسد، كثيراً ما أبدى الندم لأنه لم يطاوع نداء فطرته ليصبح "لصاً"، بدلاً من أن ينحرف ويفرض على نفسه امتهان الأدب .
كثيراً ما قال لي : كنت حتى سن العشرين مهيأ لأن أكون لصا، خاصة وأنني سليل عائلة أفرزت عدداً كافياً من اللصوص، لكن في العائلة أناساً مثاليين، وهذا يؤذيهم جدا، يقولون (يا عم تقول على أهلك حرامية)، بالطبع أنا لم أقل هكذا، فشتانبيك عمل مهرباً للحشيش على الحدود الكندية الأميركية في ولاية ميسوري، وهمنغواي كانت حياته سلسلة مغامرات محفوفة بالخطر، وكتاب آخرون كبار خرجوا من أبراجهم العاجية المصورة كتابياً وليس لها في الحقيقة موضع وكتبوا حياتهم، فوكنر مثلاً لم يصف حياته أو غيره، إنما كانت حياته سلبية جدا، مجرد شخص يجلس في بيته في الجنوب الأميركي لا نعرف عن حياته شيئاً أو على الأقل الكتب التي لديّ عن حياته تأخذ حياته من الخارج"، هكذا كان يفضل العم مستجاب أن يروي حكايته الشخصية.
لكن، سأنتهز فرصة موته، وأتصرف على طريقة الأبناء الأشرار، لأكتب على الطريقة المدرسية متذرعاً بحجة أن هذا "لمن لم يسعدهم زمنهم بمعرفته"، قائلاً إنه تلقى تعليما متوسطا في بلدته "ديروط الشريف" في صعيد مصر، وعانى خلال تلك الفترة من صعوبات معيشية لا حصر لها، فامتهن بعض المهن البعيدة عن مجال الكتابة، وفي تموز (يوليو) من العام 1964 عمل موظفاً في بناء السد العالي وكان حينئذ يمارس الكتابة كهاو، في باب "اعترفوا لي"، الذي كان يحرره مصطفي محمود في مجلة (صباح الخير)، وفي آب (أغسطس) من العام 1969، أرسل أولى قصصه إلى مجلة (الهلال) بعنوان "الوصية الحادية عشر"، فنشرتها على الفور، وكان ذلك بداية التحول في حياته، وتوالت أعماله الأدبية في الظهور.
عين مستجاب عضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ آذار (مارس) عام 1970، وترقى في المناصب إلى أن وصل إلى وظيفة رئيس إدارة بالمجمع، حتى أحيل على التقاعد، وعمل كاتبا في عدد من الصحف المصرية والعربية منها مجلة (العربي) الكويتية، و(الأسبوع) المصرية، ونشرت له أكثر من سبعين قصة بين عامي 1969 وحتى رحيله، ترجم بعضها إلى الهولندية واليابانية والفرنسية .
......
ذات مرة سألته: لو فكرنا في إصدار صحيفة حمقاء، فبمن يمكن أن نستعين من الكتاب؟
أطرق قليلاً،وأمطرني بعشرات الشتائم الحميمة، قبل أن يقول: "نذهب إلى المقابر"، وفعلها عم مستجاب القابض على موهبة وخيال وتجارب عميقة، المفعم بأساطير البسطاء، الحكّاء المستبد بمستمعيه، وتركني أسير عشرات الأسئلة "الكونية" دون جواب:
لماذا ينطفئ المصباح قبل أن ينفض السامر؟
هل هو المناخ السائد الكفيل بإطفاء أي توهج، أم هو النقد المتواطئ لصناعة نجوم من البلاستيك؟
الحقيقة الوحيدة في النهاية أنني شخصياً سأفتقد كثيراً العم مستجاب، صانع البهجة والأساطير واللص النبيل، الذي ضل طريقه إلى السرد والسخرية .

[email protected]