مات محمد مستجاب، مات عبقرى القصة القصيرة وحكاء مصر الأول وآخر طابور الساخرين العظام، ولكن كيف مات مستجاب؟ وماهو التاريخ السرى لوفاة مستجاب الشريف؟ إنبرت الأقلام ودبجت المقالات وأشرعت الصحف فى ذكر بلاغة وأسلوب وكتابة مستجاب، كتب النقاد تحليلات بنيوية وسيميوطيقية عن الرمزية الديناميكية فى قصص مستجاب! ولم يكتب أحدهم كيف تم إغتيال محمد مستجاب بالتجاهل والطناش؟ لم ينتبه أحدهم إلى أن أكثر قصة مأساوية كتبها مستجاب هى قصة موته، والوصف الأدق أنه لم يكتبها بل كتبت عليه، وقديماً كتب تشيكوف قصته القصيرة العبقرية الموحية موت موظف والآن نحن نكتب قصة موت موظف أديب مصرى شريف بسكين مجتمع بارد يرفع أرباع الموهوبين إلى القمة ويدللهم ويدلكهم ويعالج أظافرهم وشعورهم ويصبغون جلودهم بالتان البرونزى، ويضبط ضغطهم فى الخارج ويصنع النيولوك تبعهم على نفقة الدولة، فى نفس الوقت الذى يخسف بالمواهب الأرض، ويترك قامة فنية بإرتفاع وحجم مستجاب تتسول ثمن الدواء فى ظل نظام سادى شرس يحارب الكاتب المبدع ويدهسه إذا رفض أن يصبح من الكتبة والجوقة ومضحكى الملك!

تعرض محمد مستجاب لأزمة عنيفة منذ سنوات وهى أزمة إبنته التى هاجمها مرض نادر يسبب شللاً كاملاً غير معروف السبب ويموت 80% من المصابين به، وظل مستجاب الشريف يبكى كل ليلة بعد أن يغلق الباب على نفسه حتى لايراه أحد وهو ينزف فقد كان الوحيد الذى يعرف السر بين أفراد عائلته، ومستجاب موظف فقير على المعاش، رحل من الصعيد أضيق شريط يخنق الوادى وأعظم أرض طاردة فى العالم إلى القاهرة حيث عمل موظفاً فى المجمع اللغوى، كان يؤمن بأن الكتابة الصحفية تستنزف طاقة المبدع الحقيقية، ولكنه إضطر إليها تحت ضغط الحاجة، لجأ للكتابة فى مجلة العربى الكويتية وكان تقريباً يتعيش من الألف جنيه التى ترسلها المجلة، باع كل اللى وراه واللى قدامه، ويشاء الرب أن تكون إبنته من العشرين فى المائة الذين يتم شفاؤهم، وبالحس المصرى الفطرى توجس مستجاب وتساءل اللهم إجعله خير معقول يبتسم القدر لأمثالى من الكتاب المشاغبين الذين كل رصيدهم هو الموهبة والجدية والشرف، وهو ثلاثى سخيف يعامل فى مصر معاملة الكلب الأجرب، وكان التوجس فى محله فقد باغته المرض وسكن الرئة، ودخل القصر العينى الفرنساوى أول مرة ولم يفهم الأديب الأريب أن إسم المستشفى على مسمى، وأن العلاج أصبح مقصوراً على طائفة المجتمع المصرى الفرنساوى وليس الديروطى، وظل مستجاب فى المستشفى حتى تحسنت حالته وعندما حان موعد الخروج قيل له بلاش فهلوة دخول الحمام مش زى خروجه، فنظر إلى جيب الجلباب المخروم فلم يجد طوق النجاة، وكان شيك مجلة العربى قد تبخر، والتأمين الصحى لذوى المعاشات له سقف وحدود ولوائح وروائح، فتم إحتجازه ولم ينقذه إلا كتيبة الأصدقاء المخلصين، وكتب له الأطباء روشتة علاج شهرى حتى لايداهمه المرض اللعين وتغرق رئتاه فى مياه الموت، كانت التكلفة الأسبوعية للدواء 270 جنيه وتأمينه الصحى لايسمح إلا بالأسبرين وأقراص الفحم !، تحملها مستجاب شهراً ولكنه لم يتحمل الثانى، فبدأت الألام تعاوده، فذهب وطرق أبواب إتحاد الكتاب ومعه فواتير العلاج، وظل ينتظر التوقيعات والأختام والأرشيف إلى أن تعطف عليه عبد العال الحمامصى بألف جنيه فقط، وهو مبلغ لايكفى شهراً واحداً، فتوقف مستجاب عن العلاج وتفاقمت الحالة وذهب إلى نقطة اللاعودة، فدخل الفرنساوى مرة ثانية وتجمعت عليه الديون للمستشفى وصرخ فى مكالمة للدكتور مستجير تعالى خدنى من هنا أنا عايز أموت فى وسط عيالى، ويقول د.مستجير أن مستجاب كان يصرخ خوفاً من زيادة تراكم ديون المستشفى، وتم التحفظ عليه حتى فك أسره الصحفى منير عامر الذى بذل جهداً أسطورياً فى الحصول على توقيع وزير الثقافة بتحمل التكاليف، ولكن بعد فوات الأوان فقد رحل مستجاب ذلك الصعيدى النبيل الذى شارك فى شبابه عاملاً فى مشروع السد العالى، ومات دون أن يعبر سداً أعلى وهو سد القهر والإغتيال المعنوى والعهر الفكرى وتسول الحقوق، مات محمد مستجاب فى وطن مكتوب على المبدع الشريف فيه أن يعيش كمواطن مجيب لامستجاب.

[email protected]

نبيل شرف الدين: العم مستجاب ينسج أسطورته الأخيرة في القبر