بمناسبة ذكراه المئوية

يحتل الياس كانيتي (1905-1994) موقعا متميزا في الأدب العالمي والألماني وذلك ليس فقط لحصوله على جائزة نوبل للأدب في العام 1981 بل كذلك للقدرة الموسوعية التي تنعكس في كتاباته وعمق تحليلاته المتعلقة بكافة جوانب الحياة الفكرية والثقافية في القرن العشرين التي عايشها وتركت آثارها على كافة أعماله المكتوبة باللغة الألمانية التي تعلمها من عائلته اليهودية ذات الأصول الأسبانية وهو في الثامنة من عمره، علما بأنه كان يجيد العديد من اللغات الأوربية الى جانب لغته الأم الأسبانية. يقول كانيتي: "ولدت في بلغاريا، غير أن لغتي الأم لم تكن البلغارية، بل الأسبانية القديمةالتي كانت سائدة في أسبانيا في القرن الخامس عشر والتي حافظت على نقائها في تركيا والبلدان الأخرى التابعة للإمبراطورية التركية، إذ جاء بها اليهود الهاربين من ملاحقات محاكم التفتيش في أسبانيا الى هناك. كانت هذه اللغة هي لغتي الأم في السنوات الست الأولى من حياتي..بعد ذلك أنتقل ابي الى إنجلترا، حيث دخلت المدرسة فأصبحت اللغة الإنجليزية هي لغتي الثانية. كانت أمي تريد أن نتعلم عدة لغات منذ الطفولة لهذا قامت بتعيين مربية فرنسية تعلمنا منها اللغة الفرنسية. وبعد موت أبي وهو في أوج شبابه قررت أمي أن ننتقل الى فيينا التي كانت تحبها بشكل إستثنائي. وفي فيينا علمتني اللغة الألمانية بسرعة كبيرة خلال بضعة أسابيع وبطريقة شبه إرهابية. وهكذا أصبحت الألمانية لغتي الرابعة." من خلال معارفه اللغوية وتنقلاته بين مختلف العواصم الثقافية الأوربية (لندن ، فيينا، برلين، باريس وزيورخ) أستطاع كانيتي أن يكون شاهدا مهما على مجمل التحولات الثقافية والسياسية والمعرفية في القرن، بل ومساهما فعليا في تكوين ملامح الثقافة الطليعية الرائدة في القرن العشرين وقد وثق لذلك في سيرة حياته المكونة من ثلاثة أجزاء ألا وهي: "اللسان المُنقذ" (1977) و"شعلة في الأذن" (1980) و"لعبة العيون". في كل جزءٍ من أجزاء هذه السيرة يتعرض الكاتب لمرحلة من حياته من منظور ثقافي شامل لا يقر بحدود الأشكال الأدبية التقليدية، بل ينتهكها متجاوزا كذلك أصول "السيرة الذاتية" من خلال التداخل بين أحداث الواقع المعاش والحدث الذهني والحلم مؤكدا في ذلك على توجهه ضد "التخصص" و "تقسيم العمل". يقول كانيتي: "يمكن أن أصف حياتي كلها كمحاولة يائسة لتجاوز "تقسيم العمل" وإعادة التفكير بكل ما يحيط بي لكي تلتقي أجزاؤه في رأس واحد وتتحد هناك. ليس هدفي معرفة كل شئ وإنما تجميع الشظايا."
في "اللسان المُنقْذ" الذي يعالج المرحلة الأولى من حياة الكاتب وسط عائلته ذات الجذور الأسبانية / التركية وأحتكاكه باللغة والأدب يروي كانيتي ما يلي: "ذكرياتي الأولى يطغي عليها اللون الأحمر. فتاة تحملني على ذراعيها وتخرج من الباب. الأرضية حمراء والي اليسار ثمة سلالم نهبط منها هي حمراء كذلك. بمواجهتنا وعلى نفس المستوى تنفتح باب ويخرج منها رجل، يقترب مني وهو يبتسم. وها هو الآن يقترب مني أكثر ثم يتوقف ليقول لي: "أرني لسانك." فأخرج له لساني، إذ ذاك يمد يده الى جيبه، يخرج منه مطواة ثم يفتحها ويقرب شفرتها من لساني قائلا: "والآن سنقطع لسانه." أما أنا فلا أجد لدي الجرأة لسحب لساني. فيقترب مني أكثر حتى تكاد شفرة السكين أن تحط على لساني. في آخر لحظة يعيد المطواة الى موقعها وهو يقول: "ليس اليوم، بل غدا."" يكشف لنا هذا النموذج مدى التداخل والعمق في معالجة كانيتي للمادة الأدبية لكي لا يسقط في كمين المألوف. وينطبق هذا على كافة أجزاء هذا العمل . في الجزء الثاني من سيرته الذاتية "شعلة في الأذن" يتحدث الكاتب عن الفترة الزمنية بين العام 1921 و 1931 التي قضا اغلبها في فيينا، حيث درس الكيمياء وتابع في الوقت نفسه محاضرات الكاتب والناقد النمساوي الساخر كارل كراوس(1) الذي كان يعتبره مثالا يقتدى به، كما التقى بروبرت موزيل وهيرمان بروخ و فرانز فيرفل ( قال له فرانز فيرفل أثناء احدى قرائاته : " إنك تجيد قراءة ما تكتب" وقبل مغادرته القاعة التفت اليه مرة ثانية قائلا : "الأفضل أن تترك هذا!" (عن "شعلة في الإذن"). ولا شك هناك بأن فيينا تركت بصماتها على ذاكرة الكاتب، إذ التقى هنا بأغلب ممثلي الحداثة في كافة مجالات الإبداع كما نشر روايته الأولى والوحيدة تحت إسم "التعمية" (2) وهي تدور حول عالم باللغات الصينية قرر التخلي عن الحياة واللجوء الى مكتبته الضخمة ذات النوافذ المسدودة بأرفاف الكتب، بحيث لا تدخلها الشمس إلا من بضعة ثقوب في السقف ليتفرغ لعالم الكتب والمعرفة حتى قام ذات يوم بتعيين إمرأة تهتم بشؤونه المنزلية أقنعته بأن يتزوجها فيما بعد لتساعده في إزالة الغبار عن كتبه الثمينة. بعد فترة قصيرة من الحياة الزوجية رمت به الى الشارع فوجد نفسه فجأة أمام عالم مليء باللصوص والمحتالين والقتلة: عالم مبهم لا يمكن التعامل معه. على إثر هذه المواجهة المميتة مع الواقع يساعده أخوه على إسترجاع مكتبته فيشعل فيها النار ليموت محترقا بين الكتب. هنا نجد أنفسنا بمواجهة الموضوع المحبب للكاتب ألا وهو موضوع العلاقة بين "النخبة" و"العامة" بكافة إشكاليات هذه العلاقة. وبقي هذا الموضوع الى جانب موضوع الموت من مواضيعه المحببة حتى في كتابه ذي الطابع الفلسفي الذي نشر تحت إسم "السلطة والجماهير" الذي يعالج فيه العلاقة بين ظاهرة الهيمنة الفاشية وتطويع "العامة" وتسييرهم بإتجاه الدمار الجماعي إنطلاقا من تجاربه العينية في طفولته وشبابه(3) . ويتميز هذا البحث بإسلوبه الذي شغل النقاد لكونه مزيجا من البحث الإجتماعي والدراسة الفلسفية والعمل الروائي. فوق ذلك فهو يعكس تجربة الكاتب مع الأنظمة الدكتاتورية القمعية وبالذات مع النازية الهتلرية التي أضطر بسببها للهجرة مجددا الى بريطانيا ليتابع من هناك جرائم هتلر والمجازر التي أرتكبت بحق شعوب العالم وبحق اليهود تحت غطاء "النقاء العرقي". وكان قد سبق للكاتب التعامل مع هذا الموضوع في مسرحيته "كوميديا الغرور" ، وهي عبارة عن نص ساخر تدور أحداثه في بلد يحكمه نظام شمولي يمنع إستعمال المرايا على السكان بهدف سحق الذات البشرية المنفردة وإخضاعها لماكنة النظام واضعا بذلك أصبعه على آفة العصرالبارزة في مجمل الأنظمةالدكتاتورية التي تركت بصماتها على القرن العشرين.
بنظرته الثاقبة لحقائق التاريخ ومتابعته الدقيقة لمحيطه الثقافي أستطاع الياس كونيتى أن يحتوي روح العصر ويتابع إشكالاته من موقع الشاهد: منبهرا مستغربا ومنسحرا. من هذا المنطلق نجده يتحدث بإسهاب وحب عن المدن التى حل بها وعن فناني ومفكري الحداثة الذين التقاهم وشاركهم حواراتهم وسجالاتهم ومن بينهم أيساك بابل وبرتراند رسل وبرتولد بريشت وغيرترود شتاين والما مالر- فيرفل وجيمس جويس وغيرهم. ويجد كل من هؤلاء موقعه المتميز في ذاكرة الكاتب وهو يبحث في التاريخ عن ملامح العصر الذي عايشه بمواجهة الموت وعجز الإنسان عن مواجهته.
ربما يمكن إعتبار ما كتبه كانيتي توثيقا وكشفا للتحولات الأدبية والفنية للقرن العشرين من موقع المراقب البعيد عن الأحداث، غير أن وجهة النظر هذه سرعان ما تتداعى بمواجهة عمق تحليله لهذه الأحداث والتباساتها ولمن يقف وراءها. يقول الناقد الألماني سفين هانوشيك: "ربما يمكن النظر الى كانيتي بصفته ذلك الكاتب من القرن العشرين الذي راجع بدقة كل ما يجري في داخله وكل ما أستلمه من العالم الخارجي."(4)
لقد أنشغل الياس كانيتي حتى موته بظاهرة الموت الذي أعتبره في كل أعماله عدوا لدودا للإنسان. لكنه لم يتمكن من تحقيق مشروعه في كتابة بحث ثقافي وتاريخي وفلسفي حول هذا الموضوع المركزي في خطابه الفكري. "كان هدفي الأساسي هو أن أخرب على البشر ميلهم للموت وأن أدفعهم للأعتراف بأنهم لا يرغبون حقا بالموت ولا يميلون للعب معه بل أن ينظروا اليه كأمر سيء فعلا." وربما كان هذا هو السبب الذي أطال حياته.

هوامش:

1- يعتبر كارل كراوس (1874- 1936) من الوجوه المهمة لما يسمى بمدرسة فيينا. وكانت مجلته Die Fackel التي صدرت في نهاية القرن التاسع عشر وأستمرت حتى منتصف العشرينيات من القرن الماضي ملهمة للعديد من أدباء تلك المرحلة. ومن الجدير بالذكر أن كراوس قد دخل في جدل حاد مع هيرتزل مؤسس الفكر الصهيوني رافضا مجمل توجهاته. ومن أعماله الأساسية: "آخر أيام البشرية" وهي مسرحية ذات طابع وثائقي تعتمد على المزج بين الخيال والواقع مه خلال إستخدام الوثائق التاريخية ومقاطع من مجلة "الشعلة".
2- العنوان الأصلي للكتاب باللغة الألمانية هو „ Die Blendung“ ولهذه الكلمة مدلولات عديدة من ضمنها "الإنبهار" غير إني فضلت إختيار "التعمية" بما يتناسب مع محتوى الرواية.
3- يتحدث كانيتي في الجزئين الأول والثاني من مذكراته عن تجاربه الأولى مع "العامة" وذلك للمرة الأولى أثناء إقامته مع أمه في فرانكفورت في العشرينيات من القرن الماضي، حيث كان شاهدا للتظاهرات التي قامت حينها ضد الأوضاع الإقتصادية المتردية ، وللمرة الثانية اثناء إقامته في فيينا في الوقت الذي قام فيه العمال بتأجيج النار في وزارة العدل.
4- صحيفة Die Welt بتاريخ 23 تموز 2005