ما أكثر الإجابات المسطورة في صحف القواميس و المعاجم، لكن لا أظن أن منها إجابة تستحق أن تكتب و تذاع! فاستفهام الدلالة عندما يطرح على فلسفة ما داخل فضاء الفكر الفينومينولوجي، ينبغي أن يتحول من السؤال عن معنى تلك الفلسفة كمذهب إلى معناها كمنهج، أما عندما يتعلق الأمر بالفكر الفلسفي الفينومينولوجي ذاته، فإنه يصبح أوكد و أوجب. فهوسرل( 1859-1938) نفسه اعتاد عند تقديم فلسفته على التعبير عنها بوصفها منهجا، و هو حتى عندما مهد لبحث تلميذه فنك(1) الذي دافع فيه هذا الأخير عن الفلسفة الفينومينولوجية ضد الانتقادات التي وجهت إليها من قبل بعض معاصريها وصفها بكونها "علما جديدا"، قاصدا بوصفه هذا أن ما يحددها هو أنها أساسا أسلوب في التفكير جديد و توجه منهجي فريد. و قد نهج على نهجه هذا جمهرة الفينومنولوجيين فاحترسوا من تحديد هذه الفلسفة كنظرية و نسق : فأوجين فنك نفسه اتخذ من تعريف الفينومنولوجيا كمنهج مدخلا للدفاع عنها تجاه الانتقادات الموجهة إليها من قبل بعض معاصريها من أمثال زوشير ZOCHERو كرايسKREIS معتبرا أن مكمن الخطأ في فهمهما للفينومنولوجيا هو بالضبط عدم إبصارهما للبعد المنهجي الفينومينولوجي، و عدم انتباههما للتحول الميتودولوجي الذي أنجزته في تحديد ذاتها كفلسفة تتميز ببنائها للمنهجية الإرجاعية (2). كما حرص الفينومينولوجي إيمانويل ليفناس وهو من أوائل من أدخل الفكر الهوسرلي إلى الفضاء الثقافي الفرنسي، على تقديم هذه الفلسفة ك"منظومة" منهجية، حتى إنه عندما أراد تحديدها أشار إلى أن الفينومنولوجيا هي أساسا منهج (3). كما أن ميشيل هنري في قراءته للتحول التاريخي الحادث في الفكر الفرنسي المعاصر، و تأمله في ما سماه بانهيار الأنماط الفكرية الباريسية Modes Parisiennes وذبول النمط الفكري البنيوي خاصة، تحدث عن عودة هوسرل كقوة عقلانية تتحدد أساسا بوصفها "إبداعا منهجيا" (4). كما أن ديكومب سينتهي في محاولته لتحديد "الفينومنولوجيا" إلى تعريفها بالنظر إليها كمنهج حيث قال : "إنها أحدث محاولة لبناء منهج فلسفي فعال" (5)، بل حتى كتب القواميس و المعاجم المنجذبة بطبيعتها إلى تحديد الفلسفات كنسق و مذهب انتبهت إلى هذا السمت المنهجي الذي يطبع الفينومينولوجيا، فهذا أندري فيرجيز يقول عنها في " معجم الفلسفات الكبرى": "إن الفينومنولوجيا منهج و أسلوب في البحث أكثر من كونها مجموعة من النظريات التي يمكن مقاربتها كنسق مغلق و مكتمل."(6) وفي هذا السياق لابد أن أعترف ابتداء بكوني أستشعر صعوبة الإجابة على استفهام الدلالة السابق طرحه ؛ لأنه إذا كانت الفينومنولوجيا منهجا، فلا سبيل إلى فهمها إلا بمعاينتها و هي تشتغل كإجرائية ميتودولوجية، ذلك لأن المنهج لا يلمس بالحديث عنه، بل يلمس بمعاينته و هو قيد العمل و الاشتغال. ومن ثم فالسؤال عن معنى الفينومنولوجيا ينبغي أن يقلب إلى سؤال عن منهجها، و يجب أن ينأى ما أمكنه ذلك عن سؤال المذهب و النسق.
ووعيا بذلك أرى أن التوجه الصائب هو دراسة هذه الفلسفة كجهاز تفكير و إجرائية منهجية، ومن ثم فإنني أحبذ مساءلتها كيف تفكر أكثر من مساءلتها عن أفكارها، ومن ثم إذا وردت الفكرة فلن ترد في الغالب إلا في سياق بحثها كحصيلة للتفكير و كمدخل لدراسة الإجرائية المنهجية التي أثمرتها.
لكن إذا كان سؤال المنهج عندنا بهذه القيمة، فإن سؤال النسق و المذهب، على الرغم من استعصاء اختزال الإجابة عليه، و على الرغم من استهجانه من قبل الذوق الفينومينولوجي، فإننا نصر على استحضاره في هذا المقال ليس فقط على سبيل تقديم هذه الفلسفة و التعريف بها، بل أساسا بقصد استثمار محاولة الإجابة عنه للإمساك بمأزقها الإشكالي.
فكيف السبيل إلى الإمساك بدلالة هذه الفلسفة المتفلتة من كل تحديد و اختزال؟
قد يعترض البعض علينا بأن ما سبق هو إيغال في افتعال الصعوبة و تضخيم لها، إذ ليس أسهل للخروج من مأزق تعريف الفينومينولوجيا، من استخدام تعريف هوسرل ذاته لفلسفته، بدل الإحالة على المعاجم و القواميس و تأويلات الدارسين لها. إلا أن هذا الاعتراض يذهل عن حقيقة أخرى هي أن هوسرل نفسه ليس لديه تعريف واحد لفلسفته، بل لديه ركام ضخم من التحديدات و التعاريف،التي بلغت حسب إحصاء زيلمن ما يقرب من عشرين تعريفا(7) بعضها يناقض بعضا، و هو إحصاء نراه أقصر من أن يحيط بمجمل الفكر الهوسرلي، لأنه تم في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، أي قبل نشر نشر هوسرل لكتابه"تأملات ديكارتية"، و ما بعدها من تآليف و مخطوطات الأرشيف.و هذا التعدد و التناقض في تحديد دلالة الفينومينولوجيا من قبل مؤسسها يرجع بالضبط إلى الحركية الإبداعية التي وسمت تفكيره، و إلى التحولات و التطورات المنهجية و المعرفية التي كثيرا ما انبجست في سياق نموه و تطوره، و لو اقترحنا فقط بعض العناوين سنجد هوسرل مثلا في الطبعة الأولى من "أبحاثه المنطقية" (1901) يعرف الفينومينولوجيا بكونها "سيكولوجيا وصفية"، بيد أنه في الطبعة الثانية (1913) لن تتحدد هذه كسيكولوجيا... بل ك"علم الماهيات" (8)، لكن في "أفكار1" سترد الفينومينولوجيا بوصفها توجها في البحث لا يستهدف بلوغ الماهيات بل بلوغ الأنا الترنسندنتالي بما هو أساس الفلسفة والعلوم. بينما في "تأملات ديكارتية"(1929) سيرد الأنا الترنسندنتالي على نحو دفع الفينومينولوجيا الهوسرلية نحو الإيغولوجيا... لهذا فالتعريف المذهبي لهذه الفلسفة لابد أن يسقطنا في بعض المزالق المنهجية، و لذا فأفضل مدخل نراه موصلا إلى فهم الدلالة المذهبية للفينومينولوجيا ليس استحضار عبارات التعاريف، بل استحضار صيغ تناصها، أي مقاربتها من حيث علاقتها بغيرها من الفلسفات، مع التركيز على النظر إلى مجمل تطورها المعرفي، و في هذا السياق أقول :
لو كانت أنساق الفكر وإتجاهات التفلسف، في تعالقاتها و تناصها، تستجيب للترميز الرياضي لقلت إن: هوسرل = ديكارت + كانط.
بيد أن إتجاهات الفكر و مذاهبه هي في تعالقها و تواصلها لا تستجيب لمثل هذا التكميم الجبري، فطبيعة اتصالها أشبه ما تكون بالامتزاج الكميائي الذي تنضاف فيه عناصر إلى أخرى فيتحصل من هذه الإضافة كائن كميائي جديد، لايمكن أن يعرف بمجرد تعداد عناصره، بل ببيان كيفية تعالقها و امتزاجها. و لذا فهوسرل حتى بإقتراضه مفاهيم هامة من ديكارت و كانط فهو ليس كانطيا و لا ديكارتيا، بل له تميزه و خصوصيته حتى في البناء الدلالي لتلك المفاهيم المستعارة، فضلا عن التوظيف المنهجي الذي أعطاه لها.
غير أننا إذ نؤكد تميز و تمايز المشروع الفينومنولوجي الهوسرلي عن المشروعين الديكارتي و الكانطي، فإن استحضارهما يرد عندنا هنا كمقدمة ضرورية لفهم دلالة المشروع الهوسرلي، فهوسرل هو بلا ريب ديكارتي باستحضاره للكوجيتو، و هو أيضا كانطي بتحويله لهذا الكوجيتو إلى كينونة ترنسندنتالية، لكنه قبل هذا و ذاك هوسرلي في كيفية طرقه للكوجيتو و نوع التوظيف المنهجي الذي منحه إياه، ونوع المكانة التي رفع إليها هذا الأنا الترنسندنتالي، فجعله من جهة أساسا للعلم، و من جهة أخرى مجالا للإستكشاف. ثم إنني أزعم أن الجمع بين ديكارت و كانط عند هوسرل أكبر خطرا من أن ننظر إليه على أنه مجرد جمع لمفاهيم أو إستثمار لفلسفتين، إنه بالأحرى جمع بين مأزقين، فهوسرل في نظري إستبطن مأزق الأنا وحدية الديكارتي، ثم أضاف إليه المأزق الترنسندنتالي الكانطي أيضا، فنتجت عن هذا التوليف الفريد فلسفة فريدة في سمتها متميزة في مأزقها !! و إن بيان ذلك في تقديري هو أفضل تعريف ممكن للفينومنولوجيا،وهذا ما سيكون موضوع مقالنا المقبل.

هوامش


1.FINK (EUGEN) : lt;lt; De la phénoménologie gt;gt; trad. DIDIER FRANCK،MINUIT،PARIS 1974.P7
2. FINK(EUGEN) : lt;lt; De la phénoménologie gt;gt; IBID P97.
3. Levinas. (Emmanuel): lt;lt; Totalité et infini، essai sur l’ extériorité gt;gt; Livre de poche، Paris،1990،p13
4. HENRY.(MICHEL): lt;lt; PHÉNOMÉNOLOGIE MATERIELLE gt;gt; P.UF.1ed،PARIS1990،P5.
5. DESCOMBES.(V): lt;lt; la phénoménologie pour nousgt;gt;in :lt;lt;critique de la raison phénoménologique gt;gt;cerf،PARIS 1991،p34.
6. vergez.(Andre): art “ phénoménologie “ in lt;lt; Dictionnaire des grandes philosophies gt;gt; sous la direction de Lucien Jerphanon، Privat، Toulouse1973.p287
7.Zelman ( wolf elbert) :lt;lt; Etude sur la Phénoménologie gt;gt; Nancy 1930،p 63.
8.Ibidem.

كاتب المقالدكتوراه في الفلسفة من جامعة محمد الخامس بالرباط

يتبع