كتابة سريعة، انطباعية، تتوسّل، مع ذلك، النفاذ إلى جوهر كل شخصية من هذه القامات، التي اخترتها من بين 99 شاعراً، كانوا مشاركين في مهرجان "أصوات المتوسط"، وكان لي شرف التعرف عليهم عن قرب.

جبل التوباد : مشروع راق في زمن رثّ

عكف الشاعر التونسي الصديق خالد النجار، منذ سنوات، على مشروع عمره النبيل : مشروع ترجمة كبار الشعراء العالميين، إلى اللغة العربية. لتصدر بعد ذلك، في سلسلة فاخرة ومرهفة طباعياً وإخراجياً، أعطاها اسم الجبل الشعري الأشهر، ويصرف عليها، وحيداً، من جيبه. خالد تنكّب هذا المشروع النبيل والجميل، المكلف مادياً وزمناً وإرهاقاً، في وقت صحراوي، تتراجع فيه حركة الترجمة إلى العربية [ فما بالك بترجمة الشعر ؟ ] وتعاني من ألف مشكلة ومشكلة.
لذا، يستحق خالد منا، كل تقدير واحترام، إذ دخل إلى ساحة يصعب فيها اللعب، وتغيب عنها المؤسسات الثقافية ذات الدأب والرؤية المستقبلية والمنهج.
أصدر خالد من هذه السلسلة الرائعة، حتى الآن، سبعة دوواين شعرية، هي على التوالي :
*لوران غسبار _ البيت قرب البحر + أجساد ناهشة.
*إتيل عدنان _ يوم 27 تشرين الأول 2003.
*ميشال بيتور _ دارة الأمير.
*سان جون بيرس _ نشيد الاعتدال.
*هنري ميشو _ قصائد مختارة.
*جورج شحادة _ أشعار + السابح بحب وحيد.
*موريس كاريم _ صور ضائعة + العصافيري.
وكما أخبرني، عندما التقيته في لوديف، مؤخراً، فثمة مشاريع أخرى في جعبته المليئة دائماً. أهداني خالد نسخةً من ديوان هنري ميشو، بترجمة رضا الكافي، فقرأتها عدة مرات، مستمتعاً برهافة وذوق وكيمياء الكافي في ترجمته المائزة. لكأنني أقرأ ميشو لأول مرة، رغم أنني قرأت له عدة ترجمات جيدة أيضاً، من بينها ترجمة الشاعر العراقي البارز سامي مهدي.
ثمة حساسية عالية في هذه الترجمة، لا أظن أحداً ممن ترجم هذا الشاعر، يتمتع بها، سوى الكافي وحده. فهذا الشاعر، هو شاعر ملتبس في الفرنسية : شاعر يكتب على غرار ما نسميه في تراثنا [ بالسهل الممتنع ]. ومن هنا تأتي إشكاليته مع الفرنسيين أولاً، ومن بعد، مع مترجميه. فالبعض في فرنسا، ينظر إليه، كما ينظر بعضنا لنزار قباني، فيما ثمة بعض آخر، يرفعه إلى أقاصي الأيقونة، تماماً كما يُفعل مع نزار أيضاً.
إلى ذلك، كم كنت أتمنى لو أستطيع الحصول على كل إصدارات هذه السلسلة. فهي للأسف، غير متوفرة في أسواق المشرق العربي. ولذا :آمل من الصعلوك العظيم، والمثقف المذهل : خالد، أن يتدبّر أمره، مع هذا الشأن، ليستمتع المشارقة، بقراءة وتذوق هؤلاء الشعراء العالميين.
ربما أحمّله بهذا الطلب، ما لا طاقة له به. فهو في الأخير، فرد، لا مؤسسة. لكنني، مع ذلك، أتمنى عليه، وأعرف أنه، أفضل بما لا يُقاس، من جميع مؤسساتنا الخاربة!
تحية إلى خالد، ناشراً نوعياً، وصعلوكاً لا يُضاهى، ومثقفاً موسوعياً، وساخراً فذّاً _ في شخصه الممتع، لا نصّه، مع الأسف! ساخراً، يخلق الكوميديا بنوعيها : الأبيض والأسود، فيُضحكُ الحجر قبل البشر!
تحية له في ألمه الحارق، وفي عروبيته الأرقى، وفي عزلته المعطاء، وهو يفتح لنا كوّة في الجدار السميك، لنرى بعض النور، وبعض البهاء، رغم كل سدول هذا القرن المُرخاة علينا، مع سبق الإصرار والترصد، سواء من قبل أنظمتنا الثقافية _الأمنية، التي لا تعنيها سوى مصالحها والبقاء على كرسي السلطة، أو من غير أنظمتنا ممن نرى ونعرف!

عن خالد النجار أيضاً

أفضل ما في المهرجانات والملتقيات الثقافية، هو اللقاءات الجانبية، وتعرف المثقفين والشعراء على بعضهم البعض. من هنا، حدث في مهرجان لوديف الفرنسي، ما يحدث، عادةً، في معظم المهرجانات والملتقيات العربية والعالمية : حيث يلتقي المدعوّوّن وجهاً لوجه، وتنفتح، ثمة، مساحة من التعرف الشخصي عن كثب. ولقد أسعدني زماني، فعقدت صداقات، أرجو ألا تكون عابرة، خصوصاً بوجود الإيميل، مع قلة من الشعراء العرب والأوربيين. من بينهم التونسي خالد النجار.
وخالد، لمن لا يعرفه، شاعر ومترجم في السادسة والخمسين من عمره، يقيم في تونس، ويتنقل كالمُنادى، بين البلدان. أعزبَ، تزوج مرة، وفشلَ، ولا يبدو أنه سيعيد هذه التجربة العبثية!
يعيش حياته، مُكرّساً وقته للثقافة والترجمة والشعر. وهو كما قال لي، " تلميذ هشام شرابي "، ويعتزّ بعلاقته الشخصية والفكرية، مع مفكّرنا الفلسطيني العظيم.
ولقد سرد لي، قصصاً، حدثت بينه وبين الراحل، لا يعرفها أحد. قصص تؤكّد عظمة هشام، وسموق أخلاقه النبيلة، وتحيل إلى موضوعة التطابق التام، بين شخص المثقف ونصّه. وأنه لا جدوى ولا معنى، لوجود فوارق أو نقائض بينهما _ كما هو الحادث، غالباً، بين مثقفينا العرب.
لم يصدر خالد سوى ديوان واحد في حياته، وقد صدر الديوان عن دار رياض الريس في عام 1990، وقرأته في حينه. لكنّ شيئاً لم يبق في ذاكرتي من الديوان، سوى عنوانه، فنسيته في غمرة نسياناتي الشهيرة!
وعندما تعرّفت على خالد، تذكّرتُ، في الوهلة الأولى، ديوانه القديم، وسألته عن دواوينه الجديدة، ففاجأني أنه، لم يصدر، منذ خمسة عشر عاماً، ديواناً آخر! بل وفوجئت أنّ ديوانه ذاك، هو إلى الآن، ديوانه الوحيد المطبوع! بالطبع، هو يكتب وينشر، بين الحين والآخر، لكنه عازف عن نشر مجموعات أخرى، رغم أنه صاحب دار نشر، ويطبع للشعراء الآخرين.
شاكستُهُ وسألته : لم لا تطبع شعرك في دار نشرك ؟ فردّ : حاشا وكلا وعيب!
كان هذا في اللقاء الأول معه. ثم بعد ذلك، تكررت لقاءاتنا يومياً، وتآلفت روحانا، فتوطدت صداقتنا، التي كان مبعثها من ناحيتي، استلطافي لشخصّه، وإحساسي بعمق وموسوعية إطلاعه على التراث العربي، وهضمه لهذا التراث، الذي يعرف كل صغيرة وكبيرة فيه. وفوق ذلك، كان أشدّ ما قرّبني أليه، هو هذه السخرية الفذة، التي يتمتع بها، خِلقةً، والتي " تحبك عليه " في كل وقفة وجلسة..إنه، بحق، صعلوك وساخر عظيم!
وإلى الآن، لا أعرف من أين يأتي خالد بكل هذا الضحك الأسود، وهذه الروح التي تزلزل بسخريتها الحجر!
لقد أسميتهُ أنا " شيخ الضّالين "، كما سمّى هو سركون بولص ب " الأمبراطور "!
كنا نتلاقى في وجبة الغداء، في سكول فلوري، فلا نقوم عن موائدنا، إلا آخر الناس! كان خالد يثير عاصفةً من الضحك والقهقهة، ليس بيننا، نحن العرب، فقط، وإنما كان " يعدي " مَن حولنا مِن الفرنسيين والأوربيين، بجرثومة الضحك، فيضحكون!
إنه صعلوك يجيد فن السخرية، لا النكتة. السخرية، بالمعنى الأدبي والثقافي لها، لا بمعناها السطحي اللفظي الساذج.
ساخر عظيم، يقبع وراء سخريته فقط الألم. الألم المُبرّح، الناتج عن المعرفة والتجربة العميقتيْن! ألمُ من رأى وعرف، وعايش..ألمُ من تأمل طويلاً في مفارقات التاريخ وعبثية ولا جدوى مصائر البشر! إنّ خالداً، البربري الأصول والجذور، هو خالد العروبي بامتياز! خالد الفلسطيني، المسكون بفلسطين، أكثر من بعض أبنائها المثقفين الفلسطينيين.
ولقد أخجلني، حقيقةً، وهو يتحدث عن مزايا وسجايا شعبي. فما كان مني، إلا أن خلطتُ الجدّ بالمزاح، لكي أُخفف من سيل هذا المديح الجارف!
كان خالد، بقامته القصيرة نوعاً، وبامتلائه الجسمي نوعاً، وبضفيرة شَعره الطويلة، المعقوصة من خلف الرأس، والنازلة على ظهرِه، وبشبشبِه الخفيف، مع روحه وثقافته وقفشاته، هو نكهة ومزاج هذا المهرجان دون منازع. إنه تكوين فريد وخاص : كيمياء وحده، لا نسيج فقط. ولقد كنت أحسّ بالخسران فعلاً، إذا خلا يومي المزدحم من جلسةٍ معه، فما كان يفعله خالد معي، وهو لا يدري، هو بكلمةٍ : [ غسيل الروح ]..يغسل روحي من أدرانها ومن همومها، ومن قلقي على إسرتي هناك بجوار مستوطنة نافيه ديكاليم إلخ إلخ. فالحق، أنني لم أكن أضحك من كل قلبي وعقلي، إلا بوجود هذا الرجل، وهذا الرجل فقط. وأظنُّ أن زملائي أو البعض منهم، كانوا في ذات الحال، وعلى نفس الموجة.
يتمتع خالد بصداقات وطيدة مع كبار الشعراء والمثقفين الفرنسيين. فهو يتكلم الفرنسية بطلاقة وعمق، ويُترجم عنها، أصعب وأشقُّ ما في لغتها، وهو الشعر. كما يتمتع، كما لاحظتُ من خلال سيري معه، بعلاقات هائلة مع بسطاء الفرنسيين من المواطنين المحبين للشعر والثقافة.
لكن ما أثارني، وجعلني أختلف معه، هو موقفه من الشاعر العربي العالمي أدونيس. ولعل ثمة أشياء شخصية بينهما، لا يحب خالد الدخول في تفاصيلها، ولا أنا أيضاً.
هذه فقط، هي نقطة خلافي الوحيدة مع هذا الشاعر والمثقف الموسوعي. أما ما دون ذلك، فلا خلاف ثمة، بل تناغم وانسجام وطيدان.
فتقريباً، يتمتع كلانا بنفس زاوية النظر، وذات رؤيتنا للكثير من القضايا والأمور.
فتحية لخالد النجار، صعلوك مهرجان لوديف العظيم، وأحد أكبر مفاجآته السارّة والبهيجة لي، أنا القادم إليه، من بلاد تعيش الحربَ، بكامل قسوتها وجهامتها، منذ نيف وخمس سنوات، حتى أن ناسها، نسوا أو أُنسيوا، أن ثمة شيئاً على أرض هذا الكوكب، إسمه : الضحك! شيء مطلوب من أجل الصحة العامة، ومن أجل سلامة هذه الصحة، بيولوجياً على الأقل!
لقد عوّضني خالد، بما ضحكتُهُ معه في جلساتنا ومشاويرنا، عن رمادة كل تلك السنوات العجاف. فشكراً لك، أيها التونسي الفذّ، شاعراً ومثقفاً وصعلوكاً، على هذا المعروف الكبير!

سركون بولص

أعرف سركون بولص، قراءةً، منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي. ولعلي أكون من أوائل من تحدثوا عن تجربته الشعرية، وعن اسمه الحاضر بقوة، في شعرية قصيدة النثر العربية، هنا في غزة، منذ ذلك التاريخ. فسركون يكتب، على غراره الخاص، قصيدةَ نثرٍ، لا تشبه أخواتها العربيات المجايلات. إنه شاعر كبير، بعيداً عن أحكام القيمة، التي كثُرت ففقدتْ معناها، في مشهدنا الشعري العربي.
ولقد أعطيتُ الكثيرين من زملائي الشعراء الغزيين، بعض دواوينه، فقرأوها وأُعجبوا بما فيها من روح جديدة وتقنيات كتابية، هي فتحٌ خاص لسركون وبسركون.
كان سركون، في ذلك الوقت، إسماً غامضاً، لا يعرفه إلا ندرة، من ذوي الاختصاص، وربما ساهم في هذا، بعْدُ حامل الإسم، وعدم تواجده، لا شخصاً ولا نصّاً، في عالم النشر العربي. فقلما يقرأ المرء له في المجلات الشعرية، وأقلّ من ذلك، وجودُهُ في عوالم نشر الكتب.
إذ كان الرجلُ قد رحلَ إلى مغتربه الأمريكي، منذ أواخر الستينات، ولم يعد إلى الأرض العربية إلى لحظة كتابة هذا المقال. أصدر سركون عدة دواوين شعرية أو مجموعات، هي * الوصول إلى مدينة أين * [ منشورات سارق النار، أثينا 1985 ] * الحياة قرب الأكروبول * [ دار توبقال، الدار البيضاء، 1998 ] ثم *الأول والتالي * [ منشورات الجمل، كولونيا، 1992 ]، وبعد ذلك أصدر ديوانيه : * حامل الفانوس في ليل الذئاب * [ منشورات الجمل، كولونيا _ بيروت، 1996 ] و * إذا كنت نائماً في مركب نوح *، عن ذات الدار، في العام 1998. أما بعد هذا التاريخ، فلا أعرف إن صدر للرجل دواوين جديدة أم لا.
لقد ذهبتُ إلى مهرجان لوديف، بهذه المعلومات، وبقراءتي لمعظم ما صدر للشاعر. ولم أكن أعرف أن سركون سيشارك في المهرجان. ولعلّ من محاسن الصدف، أنني نزلتُ في أوتيل [ لاغوزاريه ]، يوم 22، ثم جاء سركون في اليوم التالي، يوم افتتاح المهرجان، ونزل في الأوتيل ذاته. لنكتشفَ، أنا وهو، بعد مضيّ يومين من وجودنا، وأثناء عودتنا إلى الأوتيل، عقب سهرة صاخبة إلى وش الفجر، أننا جيران، الباب في الباب! فهو نزيل الغرفة رقم 9، وأنا نزيل الغرفة رقم 10، ولا يفصل بيننا سوى جدار مشترك رقيق! نصعد على ذات السلّم الخشبي، من جهة المطبخ الأرضيّ، كل ليلة، في الرابعة أو الثالثة فجراً، بعد انتهاء سهرتنا الخاصة، عند خيمة نيكول، على ضفة النهر الصغير، مع طاهر رياض وبشير شلش، عضوي الشلّة الدائميْن، وأنطوان جوكي، وبول شاوول وصالح دياب، وآخرين يتغيرون كل ليلة.
كنا نسهر على النهر، وأحياناً نعود مبكرين، فنواصل سهرتنا في حديقة الفندق، نتكلم في الشعر العربي والغربي، ونتحدث عن شعراء تراثيين ومحدثين، فيما تكون الطاولة عامرة، بأنواع الشراب. ونكون في أجمل مزاج، متخففين من ثقل أحمال الدنيا.
عبر تسعة أيام بلياليها، هي عمر المهرجان، لم نكن ننام إلا ساعات قليلة، ثلاث أو أربع ساعات على الأكثر، ثم نقوم إلى فعاليات الصباح، ونقرأ شعرنا، ونشارك في حضور بعض الحفلات، ثم نجتمع آخر الليل، في مكاننا المعهود، عند خيمة نيكول، وهكذا على مدار المهرجان.
لم نكن نغيب عن بعضنا البعض سوى ساعات. ولهذا توطّدت علاقتي بسركون وطاهر وبشير وأنطوان وغيرهم. أما سركون، فكان أجمل ما فاجأني فيه، هو دفء شخصيته على المستوى الإنساني، وسلاستها وتواصلها الراقي مع الآخرين. لكن، أفضل ما لفتني فيه، هو أنه يتصرف كصعلوك، في سلوكه اليومي، بعيداً عن " سلطة " الشاعر الكبير المكرّس.
إنه شخصية ثقافية ليبرالية من طراز رفيع. شخصية تتفق وتختلف معها، دون أن يعكّر ودّكما شيء. ورغم أنه في الحادية والستين من عمره، إلا أنك، لن تشعر بوطأة هذه السنّ، عليه وعلى المحيطين به، أبداً. بل بالعكس، فلعلّ أغرب ما في سركون، أنه وصل إلى هذه السنّ! فالمواطن فيه، والشاعر، يتصرّفان بروحية ابن الثلاثين، أو زِدْ عليها خمس سنوات على الأكثر!
إنه نموذجٌ للمغترب الأبدي، الذي لا يسمح لكرّ السنوات، أن يؤثر على روحه وجسده. فهو يتصرّف ويعيش حياته، بكل امتلاء، كما لو كان في الثلاثين فقط. يلبس الجينز، ويحمل شنطته الشخصية المليئة بأنواع المشروبات، ويعطي نفسه للحياة وللأصدقاء من حوله، بكرم وسخاء، من أجل أن يعيش ملء العيش لا أقلّ.
رجل محب للدنيا، وعييش، كما يقول إخوتنا اللبنانيون.
رجل مفتوح على الرياح الأربع، ولا يهمّه سوى أن يعيش لحظته الراهنة ممتلئاً بهبات الحياة.
ومع ذلك، وكما أخبرني، فهو رجل وشاعر عزلة بامتياز. يعيش الآن في برلين، في شقة زميله الشاعر مؤيد الراوي، وحيداً، لا زوجة ولا أولاد، إلا من كتبه وكتاباته وتأملاته الطويلة. يخرج، فقط، في المساء، ليرى إلى العالم من حوله، مستمتعاً، كما قال لي، بالوحشة والغربة والأسى الباهظ الثقيل!
إنه نمطٌ من العيش، يشاركه فيه غير قليل من الشعراء. ولعلي واحد منهم.
مفاجأة أخرى سارة، فاجأني بها سركون، هي موقفه من قصيدة التفعيلة. فعلى ما يبدو، فقد تغيّر سركون. إذ هو الآن مع الوزن إذا جاء بشكل عفوي. فالمهم، من وجهة نظره، أن يعطي الشاعر نفسه للنص، فإذا جاء النص موزوناً، فخير وبركة، وإذا لم فلا غضاضة. ذلك أن للوزن، ميزات وفوائد. لكن أهمّ شيء أن يكتب الشاعر على طبيعته ودون تقصّد.
أعجبني هذا الموقف من سركون، وأعجبني أكثر، أنه يكتب الآن، ومنذ سنوات، قصائد تفعيلة. فسركون باختصار ليس رجل قوالب ولا دوغما. وليس له موقف أيديولوجي مضحك، كما يفعل بعض شعراء قصيدة النثر عندنا، ضد الشكل الفني والأدبي! كما أنه، رغم ثقافته الأنجلو سكسونية الهائلة، مطلّع بشكل ممتاز على تراثنا الشعري، وهو من أشدّ المعجبين بتجربة أبي تمام، وكم كان يستشهد بأبيات دالّة لهذا الصانع الأمهر والشاعر العظيم.
أذكر في ليلة، أننا جلسنا، هو وطاهر رياض ومحمد فؤاد ومحمد عفيف الحسيني وأنا، ساهرين في حديقة الأوتيل، وتكلمنا طويلاً عن تجارب أبي تمام والمعري وأبي نؤاس والمتنبي. فأذهلنا طاهر العظيم، صانع شذرات الذهب في الشعر العربي المعاصر، بمدى إطلاعه وهضمه لهذا التراث الثمين. كان سركون ينصت مؤخوذاً بما يقوله طاهر. وفي آخر السهرة، إتفقنا على أنّ أبا نؤاس هو أول شاعر مديني، أدخل قيم المدينة الحديثة إلى الشعر العربي، وأنه، لإضافةً إلى ذلك " أول شاعر عربي فنان، بالمفهوم الحديث لهذه الكلمة "، تلك كانت مساهمتي في الحوار فوافق الجميع عليها. أما عن أبي العلاء، شاعري العربي الأول المفضّل، فقد تكلمتُ عنه طويلاً، ووافقني زملائي على كلامي.
إذاً، فسركون، هاضمٌ للتراث العربي، ويعرف بعض أدق خفاياه وأسراره، على غير ما يتصوّر بعض الشعراء الحداثيين! ذلك شيء من أجواء سهراتنا، أو نثرة من نثراته التي ضاعت الآن، والتي لا تستطيع الكتابةُ أن تمسك بتلابيبها جميعاً. فسلاماً يا سركون، أيها الآشوري الطيب، والمغترب الأدبي في طريق بلا رجعة : طريق التصعلك والعزلة والشعر الشفاف، ومن يدري، لن أقول وداعاً، فربما نلتقي!

طاهر رياض

قرأت لطاهر رياض معظم ما كتب من شعر، باستثناء آخر ديوانيين له، وهما " الأشجار على مهلها، و " كأنه ليل ". وحين التقينا في الأوتيل، فرحتُ لأنه معي : يقيم في ذات المكان. كنتُ أتابعه، منذ عشرين عاماً، وكنت من المعجبين بتجربته الشعرية، وبما ما يتمتع به من صفاء شعري فاحش، وصور وتراكيب مدهشة، لا يجترحها سواه من جيله الأردني أو العربي، أو ممن هم أكبر منه سناً وتجربةً. إنه الشاعر الأهمّ في جيله. وهو إلى ذلك، مترجم مرهف الذوق، وناشر نوعي [ وإن كان الآن، كفَّ عن هذه الصفة ]. فضلاً عن إطلاعه الفاره على تراثنا، شعره ونثره، وهضمه لأهم التيارات الفكرية والإبداعية فيه. طاهر، مثلاً، يعرف بشكل ممتاز، النثر الصوفي في تراثنا، وقد جمع منه مختارات وأصدرها في كتاب راق جميل بعنوان : " حرف الحرف ".
إذاً، فها نحن نلتقي أخيراً يا طاهر، ولشدّ ما هي سعادتي، كبيرةٌ وعميقةٌ بلقائك! فأنت أحد الشعراء العرب والفلسطينيين، الذين كنت أتمنى لقاءهم من زمن.
تعرّفت على طاهر عن قرب، وصرنا نلتقي يومياً، وأحرص على حضور قراءاته، والإنصات إلى شعره الشفاف العذب. وفي الليل المتأخر، نلتقي عند خيمة نيكول، مع أصدقاء آخرين، لنتكلم ونسمر في شؤون وشجون الشعر، والدنيا، والثقافة. محاطين بروح النهير الوادع والأشجار الكثيفة الخضراء والوجوه الحسنة.
نشرب ونضحك من كل شيء وأي شيء!
ثم نعود آخر الليل، إلى الأوتيل الجميل، ثلةً من الشعراء الجميلين، بحاجةٍ إلى دليلِ طريق!
أمضيت مع طاهر، أياماً أشبه في جمالها وروعتها بجمال وروعة الحلم.
شدّني إلى الرجل، نبلهُ، وأصالته، شاعراً وإنساناً. ولا عجب، فطاهر ابن طيرة حيفا، وجذوره الحيفاوية سادرةٌ وراسبةٌ في جيناته.
أما عن ثقافته، فلا حاجة للاستطراد في الحديث عنها، فهو إضافةً إلى أنه شاعر كبير، فهو مثقف نوعي وقارىء محترف. لديه خبرة بتراثنا، قلما تتوافر في شاعر من سنّه. لذا، من الصعب، بل من المستحيل، خداع طاهر! كأن تتمسّح بالصوفية مثلاً، وتكتب شعراً صوفياً، كما هو شائع، على سبيل الموضة، في مشهدنا الشعري، منذ عقود! ثم تريد من الناس أن يعاملوك، على أنك شاعر صوفي!
ولقد ترجم طاهر، قبل 15 عاماً، " تجوال " لهيرمان هيسّه، ترجمةً بديعة حقاً. كما ترجم " مائة سوناتة حب " لبابلو نيرودا، وأخيراً ترجم " لا العسل تشتهيه نفسي ولا النحل " لسافو، و " داء الموت " لمارغريت دوراس.
أذكر، أنني كنت جالساً أمام الفاستيفال، ضحىً، في انتظار بعض الأصدقاء، وإذ بأدونيس، يأتي ناحيتي! فقمتُ واستقبلته بيدين مفتوحتيْن، مرحباً به، ومشتاقاً إليه، أنا الذي سمّيت ولدي الأوسط على إسمه. جلسنا حوالي نصف ساعة، وجاء عمدة المدينة للترحيب بأدونيس، مع جيش من الصحفيين والكاميرات. وبعد انتهاء الجلسة، قام أدونيس، وقال لي : هيا بنا للاستماع إلى طاهر رياض، فعمّا قليل، سيقرأ طاهر، لمدة ساعة، في الكاتدرائية الرومانية، على بعد خطوات منا. قمنا معاً، ودخلنا إلى الساحة المكشوفة، وكان طاهر يقرأ، فجلس أدونيس، واستمع باهتمام وإنصات بالغيْن، إلى أن انتهى طاهر، فجاء وصافح أدونيس، وأخذنا معاً بعض الصور، ثم غادرنا أدونيس، إلى شأن خاص.
كان واضحاً، أن أدونيس معجب بشعر طاهر، ولقد أبدى حماسه لبعض المقاطع، واستمعت إليه وهو يعبّر عن هذا الإعجاب. فقد كنا جالسنا متجاوريْن.
فسلامٌ يا طاهر، يا صاحب الدواوين الستة، ويا صاحب حلاج الوقت، وتلك القصيدة البديعة فيه بعنوان " إرتباك "، فهي من أروع ما قرأت في الشعر العربي عن المسيح!
وليس أنا فقط من هو معجب بهذه القصيدة الصغيرة الفذة، بل شعراء كثر آخرون!
إنّ أهمّ ما في شعر طاهر التفعيلي، والتفعيلة خيار فني أصيل عند طاهر، هو حداثته المرتبطة بالجذور والأصول. فهو يعرف أين يضع قدمه، ويعرف أسرار المادة الشعرية التي يشتغل عليها. ولعل من هنا، جاءت فرادته في الشعر العربي، وجاء تميّزه الفارق.

أدونيس

أمام سيد اللغة، وخلاّقها الأول، وأمام مُعلّم الشعر العربي وفاتح سككه الجديدة، أمام صانع الذائقات ومدشّن دخولها في روحية العصر الحديث.. تُرى ماذا يستطيع واحد مثلي أن يقول أو يكتب ؟! فأنا، لستُ سوى شاعر، من قبيلة شعراء، لولا أدونيس، لما كتبوا ما كتبوه، على هذا النحو وهذه الصورة. فأدونيس هو الرائد وهو الذي فتحَ لنا أُفقاً وطُرقاً، ثم عبّد لنا هذه الطرق، فمشينا عليها، آمنين سالمين. لا حاجة للقول إنني قرأت 95 % مما كتب أدونيس. بل لعلي قرأته كاملاً سوى كتاب أو اثنين من آخر ما خطّت يداه. فهذا القول هو تحصيل حاصل في آخر المطاف. ومع هذا هأنذا أقول!
أتذكّر أنني، ذات يوم من عام 74، استمعتُ إلى أدونيس، وهو يلقي قصيدةً له، في إحدى الإذاعات العربية [ ولعلها كانت إذاعة دمشق ]. لم أفهم شيئاً بالطبع، ولكن أدونيس وصلني وسحرني، أنا الفتى الغرّ أو الطفل الغرير بالأحرى! ففضلاً عن السحر الخفي في إسمه الغريب، ثمة سحر خفي آخر في شعره الغامض!
منذ تلك اللحظة، البعيدة الآن في الزمن، وكأنها حدثت من قرون، إغتوى قلبي بالشعر، وصرتُ مُنادى وممسوساً لا أعرف من يناديني ومن مسّني، على فغلةِ روحٍ مني!
كان الفضل، إذاً، في نزوعي الأول نحو الشعر، لأدونيس. وبالتأكيد هذه من محاسن الصدف!
فعلاً، فالغاوي، لا بد أن يكون في حجم أدونيس، حتى يفتخر المغويُّ به!
أدونيس، دون أن يدري، غيّر مجرى حياتي، وأدخلني إلى أقاليم النور والنار!
ومنذ تلك السنّ، وإلى لحظة الموت، سأظلُّ ممتنّاً لهذا الشاعر العالمي الكوني.
أدونيس الشاعر، كلكم يعرفه. لذا لن أتحدث عنه ههنا، بل سوف أتحدث عن الجانب اللآخر من أدونيس : جانب الإنسان والمواطن فيه. فقد أتاح لي مهرجان لوديف، ولو على مدى بضع ساعات، أن ألتقي أدونبيس، وأن نتحاور ونتكلم في أمور شتى. ولعل ما أتاح لي هذه الفرصة النادرة، معرفة أدونيس بأنني سمّيت ولدي الأوسط الجميل على اسمه. الأمر الذي أزال كل الحواجز فيما بيننا. أطلعتُ أدونيس على صورة الولد، وصور العائلة، وطلبتُ منه أن يكتب كلمةً على ظهر الصورة، كي يفرح بها أدونيس، ففعل سعيداً، ثم بدأ الكلام العفوي بيننا، إلى أن جاء عمدة المدينة، وصار يشرح لي ولأدونيس، شيئاً عن تركيبها وتاريخها وفكرة إنشاء هذا المهرجان، فيما جيش من المصورين الصحفيين يصوّر، وأدونيس، دون أن أنتبه، تحوّل إلى مترجم، يترجم لي كل ما يقوله عمدة المدينة بالفرنسية. فشكراً لهذا الشاعر البسيط، وهو شاعر العرب الأكبر، إذ ترجمَ لي، في سياق تطلّبته اللحظةُ، أكثر من ربع الساعة.
أدونيس على الصعيد الشخصي، إنسان متواضع ومحب ومستمع ممتاز. يسألك ويستمع إلى إجابتك، متفهماً، في تواصل راق نادر. أثناء ذهابي معه إلى ندوة طاهر رياض، تكلمنا عن حال المسؤولين العرب، وعن تعاليهم عن الناس، فور أن يأخذوا المنصب! فيما رأينا، قبل لحظات، كيف جلس معنا عمدة لوديف وأخذ يشرح لنا بمنتهى الجدية، عن أصل المدينة وأصول سكانها السبعة آلاف. قال إدونيس إن المسؤول هنا هو خادم الناس في المقام الأول والأخير. أما على الضفة الأخرى من النهر، فالمسؤول إله صغير، يخدمه الناس ولا يخدم الناس. أبدا الشاعر العظيم، قرفه وتأففه من حالنا المايل، ثم سألته عن أخبار خالدة زوجته، فأخبرني أنها بخير الآن، وأيضاً سألته عن آخر مشاريعه، فقال، بأنه سيُصدر قريباً مختاراته النثرية في أجزاء، على غرار ما فعل مع مختاراته من الشعر العربي.
سألته عن جديده الشعري، فغمغم، وفهمتُ أنه لا يحب الحديث عن هذا الأمر! احترمتُ رغبته، وغيّرنا الموضوع، إلى أن دخلنا الكاتدرائية الرومانية، المقامة منذ ثمانية قرون ونيف، والتي هي تاريخية بكل المقاييس، ومنها مقياس أن أدونيس، شاعر العرب الأول، دخلها ذات يوم!
آسف أنني، في حضرة شاعر كهذا، مضطر إلى استخدام الألقاب والمقامات، لكن ما باليد حيلة، فهو أدونيس، وليس شاعراً آخر!
لم أُبدِ هيبةً ولا ارتباكاً، وأنا أجلس معه للمرة الأولى، والفضل في ذلك يرجع إليه دون ريب!
شاعر عظيم عن جدارة، وعن استحقاق!
شاعر متواضع، يسأل عن بعض زملائه، الذين لم يلتق بهم منذ عقد أو أكثر، فأدلّه عليهم، وأتركه، مع زميله، وأعود متنكباً طريقي، سعيداً بأن صورتي عن أدونيس، ازدادت بهاءً، عن قرب، وازدادت غنىً، على غناها البعيد!
أتمنى لشاعرنا وأستاذ الشعراء _ إغفرها لي يا أدونيس، لآخر مرة! _ أن يتمتع بصحته وأن يواصل نشاطه، هو ابن الخامسة والسبعين، الخفيف الرشيق كغزالة، فيتحفنا بخبيء جعبته الذي لا ينفد!
........سلاماً أبا أرواد.

دانييلا أويانيس

في كل ملتقى ثقافي أو مهرجان عالمي، ثمة مفاجآت!ومن مفاجآت لوديف هذا العام، هذه الشاعرة المبدعة والمناضلة الرائعة! إنها شاعرة كندية تقيم في مقاطعة كيبك، وتكتب شعراً بالفرنسية، ولها ثلاثة دواوين. قالت لي عندما التقيتها مع زميلتها الشاعرة دونيز بوشيه، أنها كتبت ديواناً كاملاً عن الانتفاضة. وأنها من محبي الشعب الفلسطيني ومن المتعاطفين معه ومع قضيته العادلة. تكلمنا بخليط من الإشارات وبعض الإنجليزية والعربية باللهجة التونسية، فهي متزوجة من أستاذ تونسي، وتفاهمنا رغم حاجز اللغة! تفاهمنا بالحدس، ومن خلال السياق، وأحياناً من خلال تعابير الوجه، فالوجه لا يكذب! كنت أول الواصلين العرب إلى المهرجان، فاستضافتني هي وبوشيه، في سهرة ممتعة في بيت فنانة فرنسية، مع عدة شعراء وكتاب فرنسيين، وعرّفتني بهم، وصارت تترجم لي بعض ما يقولون! إنسانة بكل ما لهذه الصفة الجليلة من معنى!
بعد أيام من بدء المهرجان، حضرت قراءة شعرية لها، ففوجئت بها تقرأ عن الانتفاضة وتقول بعض الكلمات من قصيدتها باللهجة الفلسطينية :" مع السلامة "! وكما يبدو، فهي تتكلم بلسان أم فلسطينية في وداع ابنها الشهيد!
آه كم أنت نبيلة ورائعة يا دانيلا!
شاعرة على أبواب الستين من العمر، علمانية، لا تؤمن بعزاءات موهومة. رافقتني في عدة أنشطة لي، ومن ضمنها نشاط عن الجدار العازل، وعرض فيلم مصور عنه، ثم تبدأ محاضرتي، بصفتي قادماً إلى الحاضرين من الميدان.
ذهبنا إلى مكان المحاضرة، فإذا به في قاعة تحت أرضية، من مبنى البلدية الصخري الجميل. أكثر من مئة مستمع، أغلبهم من اليهود اليساريين والفرنسيين من أصول عربية وإيطالية وبرتغالية إلخ. جلست دانيلا معي على الطاولة، وتكلمتُ ووضعت الحضور في الصورة، كما هي على الأرض، وحرصت على الحديث عمّا لا يذكره الإعلامُ لهم، من تفاصيل حياتنا اليومية تحت الاحتلال، وكيف نعيش يومنا من أوله إلى نهايته، وما فعله الجدار العنصري فينا، من تقسيم الأسرة الواحدة إلى قسميْن إلخ. قلتُ كلاماً كثيراً، وحالفني التوفيق، إذ شعرت أنني أتكلم إلى أصدقاء أليفين، وحين انتهت المحاضرة، هنّأتني دانيلا على حسن عرضي لمأساتنا وتوفيقي بشكل عقلاني ووجداني في هذا العرض.
كانت تتصرف معي وكأنها فلسطينية أباً وأما!
كم هم رائعون هؤلاء الناس، وكم يدافعون عن آرائهم عندما يقتنعون بها!
كان ما يحزنني فقط، أنني لا أستطيع قراءة أشعار هذه الشاعرة النبيلة!
فقلد أهدتني دواوينها الثلاثة، وإلى الآن، ما زلت أبحث عن مترجم، ولو فقط لأطّلع على أجواء شعرها.
إنها من أرقى وألطف من تعاملتُ معهم خلال مدة المهرجان. عندما وصلتُ إلى بيتي في خانيونس، بعد إرهاق السفر، اتصلتْ بالبيت، ولمّا لم أكن بالصدفة موجوداً، كلّمت زوجتي وأولادي بخليط من لهجتي تونس وفلسطين!
وهأنذا أبعث إليها برسالة إيميل شاكراً لها نبل أخلاقها وكرمها، مع عشرة رسائل أخرى إلى شعراء عرب، فلا يردّ عليّ أحد منهم باستثنائها!
فسلاماً لك أيتها الشاعرة والإنسانة المتحضرة، وشكراً لك على مواقفك العالية تجاه مأساة شعبي وعدالة قضيته، يا من لا تنتظرين لا شكراً ولا شكورا...

تال نيتزان

عندما وصلت إلى أرض المهرجان، قيل لي إن إسرائيل ممثَلة بشاعر وشاعرة، أما الشاعر فهو أوري ربنشتاين، ذو السبعين عاماً أو على مشارفها، البروفسور في الجامعة العبرية، والمحامي، إلخ..وأما الشاعرة، فهي تال نيتزان، ذات ال52 كيلو وزناً [ هذه الطُرفة منها، وهي التي أشارت عليّ بكتابتها ههنا! ] والشابة عمراً، والتي تعمل محامية أيضاً، وتدافع عن قضايا ضحايا الانتفاضة من شعبنا، وتؤيدهم فعلاً، وميدانياً، لا فقط في مستوى القول. حرصتُ منذ البداية، وقبل أن أعرف أية معلومات عنهما، أن أبادر بالحوار والتحدث إليهما، فأنا على قناعة وإيمان، بأن ما يجمعهُ الشعر لا تفرقهُ السياسة. وعلى قناعة أكثر، بصفتي عشت في إسرائيل، أكثر من نصف عمري، أنه ليس لدي ما أخافه من لقائهما، فأنا ابن هذه التجربة، وأعرف كيف أدير حواري وسجالي معهما، أياً كانا، ومن أية أرضية فكرية ينطلقان.
استاء صديقي خالد النجار من ذلك، لكنه تفهّم موقفي، بليبرالية راقية، وقال لي إنه لا يحق لمثقف عربي أن يزايد عليكم، فأنتم تاج رأسنا وأنتم من تعلّمونا كل يوم.
شكرت له هذا المديح، وتوّجهت للقاء تال، التي قال عنها صديقي الشاعر البحريني والمثقف النبيل، إبراهيم بوهندي، كلاماً رائعاً، بعد أن حضر لها ندوة، تكلمت خلالها تال، عن مواقفها ومشاعرها تجاه ما يحدث في البلاد. قال لي صديقي إبراهيم، إن مواقف تال متقدمة على مواقف أوري بمراحل. فشعرت بسعادة لهذه الشهادة من مثقف عربي، موضوعي متزن، لا يؤمن بالدوغما والشعارات الفارغة!
تكلّمت مع تال بالعبرية، بعد أكثر من 12 عاماً من انقطاعي عن الحديث بهذه اللغة. لكن المفاجأة، أنني تكلمت بسلاسة، وكأنني لم أنقطع لحظة!
شعرت، بعد نصف ساعة، بأنّ تال، الشاعرة والمثقفة والمناضلة ضد همجية وبشاعة الاحتلال، أقرب إليّ من بعض المثقفين الفلسطينيين من أبناء جلدتي!
ولا أبالغ، إذ أقول هذا، فهذه المرأة القوية الشخصية، تقول كلاماً، لا يبتعد قيد أنمله عما أقوله وأردده دائماً. لقد اكتشفت معها أننا كلانا نتكلم وننطلق من نفس المنطقة!
فالثقافة الحقة، تصنع من حاملها، إنساناً ومواطناً، منفتحاً، ضد الدوغما والقوالب، وضد الاختزال الغبي والأحادي الجانب.
ثم نحن في الأول والأخير، شاعران، ولسنا سياسييْن. أي نتكلم دون حسابات وقياسات السياسي، بل نتكلم، حتى في السياسة، من منطلق الثقافي، وباتجاه المبدأ.
فلا لعب ثمة، ولا ما يحزنون. بل هي قناعات متأصلة، نقولها كلانا، أياً كان المكان والزمان والموقف والظرف والجو العام.
فليس لنا من حساب خارج الأدب والشعر والجمال.
وأظن أن لدى تال نفس الموقف. لهذا أحسست أنني أتكلم مع صديقة وحليفة جمال في المقام الأول والأول. بعد يومين، جلستُ مع تال، وتكلمنا عن الشعر والشعراء، فتفاجأ كلانا بأنه مفتون ببعض الأعمال الأدبية ذاتها! منها مثلاً فتنتنا برواية " سنة موت ريكاردو ريس " لخوسيه سرماغو، البرتغالي حامل نوبل، ومنها أعمال قيصر بياخو، التي ترجمته تال إلى العبرية. وغيرهما كثير. حقاً إن ما تجمعه الثقافة الراقية، لا تفرقه السياسةُ الرثة!
تال ترجمت الكثير من الأعمال الشعرية والروائية عن الإسبانية إلى لغتها. وهي أيضاً، شاعرة مبدعة كتبت عدة قصائد عن مدينتي خانيونس، بعنوان خانيونس، كما فعلت أنا من قبل سنوات! قالت لي إنها كتبت أربع قصائد عن خانيونس، فاستغربت لهذه الصدفة الغريبة، فأنا أيضاً كتبت أربع قصائد عن مدينتي المنكوبة!
أية مصادفات يا تال ؟
حقاً إن العالم صغير، وإن البشر متشابهون، لكنما البعض لا يريد أن يؤمن بذلك!
ترجم صديقي الشاعر الجليلي بشير شلش إحدى هذه القصائد، وأخذتها منه، على وعد أن أنشرها ههنا في صحافتنا المحلية.
في لقاء تلفزيوني معي، سألني المذيع الشاب، ما رأيك بتال، ولماذا هي متقدمة في مواقفها تجاهكم على أوري، فأجبته أنها أولاً : من جيل شاب، مختلف الاستقبال، وثانياً ربما لأنها شاعرة إمرأة وأم! فالأم فيها تلتقط المعاناة والمأساة برهافة، أكثر من الرجل والأب، فضلاً عن تغيّر الحساسيات من جيل إلى جيل. وهذا حقاً ما تأكدت منه، من خلال جلساتي مع تال فيما بعد. إنها شاعرة ومواطنة مرهفة الذوق، ويعذبها على الصعيد الشخصي، ما تراه كل يوم من فظائع الاحتلال. حتى أنها قالت لوسائل الإعلام، انها تكره إسرائيل، ولكن ما العمل ؟ فقد ولدت فيها وتعمل فيها أيضاً.
ومصداق هذا القول، أنها نشرت أنطولوجيا شعرية، لأكثر من تسعين شاعراً إسرائيلياً، كتبوا قصائد ضد الاحتلال الفاشي، على مدار أكثر من عشرين عاماً.
تال شاعرة موقف. ولقد وصلني هذا عبر كلامها، وعبر إحساسي بهذا الكلام. فهي أبعد ما تكون من الدوغما، بثقافتها العلمانية وبرؤاها كشاعرة.
إنها صوت شعري إسرائيلي نظيف. علينا كمثقفين فلسطينيين وعرب، أن نحييه ونؤازره، لا أن نشك فيه. فمن الغباء وضع كل البيض في سلة واحدة. ومن الحماقة أن نغمط هذه المناضلة حقها. على أمل أن تزداد هذه الأصوات يوماً بعد يوم، داخل الكيان الغاصب.
سلاماً لتال نيتزان، شاعرةً ومترجمةً ومثقفةً وأمّاً ومواطنة إسرائيلية، تعمل على الأرض، لصالح شعبنا الفلسطيني المعذّب. وسلاماً لمن يمشون طريقها الوعر، المحفوف بالمخاطر، داخل دولة شديدة الحداثة، ومع ذلك، مبنية في أساسها على أسطورة وكلام خرافات!

أوري برنشتاين

من الوهلة الأولى، شعرتُ بألفة غريبة تجاه هذا الشاعر. والسبب، أنّ لي زميلاً إسرائيلياً، كان يرافقني في العمل ببات يام، يشبهه أوري إلى حدّ الفوتي كوبي! الفرق بينهما فقط في السنّ. توجهتُ نحو أوري، ذي الملامح الشرقية، مرحباً به وعاقداً نيتي على التعارف معه. فرحَ بي الرجل كثيراً، واستقبل بادرتي بأحسن منها. سألني من أين تعلمت العبرية، فأجبته من مزارعكم ومصانعكم ومحلات حلوياتكم! قال : إنه شيء، مع ذلك، طيب وجميل! هكذا كانت اللحظات الأولى من اللقاء. ثم بعدها دخلنا في أحاديث جانبية حول الشعر في لوديف والمشاركة العربية، وهموم وشجون المثقف، في كل من إسرائيل وفلسطين. قال أوري إنه يجب ألا نسكت، فقد آن الأوان ليتكلم الشعراء، وليرفعوا صونهم عالياً أمام " المجانين " من كلا الجانبين! فلا بد من السلام، ولا بد من وضع حدّ لهذه المأساة التي طالت حتى فسُدت، وليس ثمة من طريق غير الإنسحاب الكامل من الضفة وغزة والقدس الشرقية. سألته من أي الجذور هو فقال إنه من أصل مغربي، و مولود في تل أبيب عام 36 وأنه محام ويعمل الآن بروفيسوراً، يُدرّس الشعر العبري في جامعة بن غريون. كما يرأس المركز الوطني للترجمة..إلخ. قلتُ له إنني سعيد بلقائي به وبانطباعي الأوليّ عن هذا اللقاء. قال هو أيضاً كذلك، لكنه مستاء، من تجاهل الشعراء العرب له، وإشاحتهم عنه في الطرقات. لماذا ؟ قلت له نتحدث في هذا الموضوع فيما بعد.. ثم جاء الشاعر بشير شلش وخرجنا ثلاثتنا إلى التمشّي في أزقة لوديف المبلطة الضيقة. قال أوري إنه أوشك على عبور السبعبن، وإنه مرهق وأتى بإشارة إلى أعلى، دلالة اللاجدوى. جاملته وقلت إن من الجيد أن يبلغ المرء، في شرقنا، مثل هذه السنّ، وهو ما يزال يعمل بدأب، وبذهن متوهج، ولا يعاني من أمراض، وما زالت أجندته ممتلئة! فالشاعر لا يشيخ، حتى لو شاخ الجسد الفاني. قال : لا بأس.. البركة في أجيالكم. وأخبرني عن ديوانه الأخير، الذي أهدانيه بعد يومين، وقال إنه مكرّس كله لزوجته، وهو عبارة عن قصائد حب صغيرة، لهذة السيدة الفاضلة، شريكة رحلته في الحياة والألم المشترك. [ يقع الديوان الفاخر طباعياً، ومع ذلك، البسيط، في 44 صفحة من القطع المتوسط، وكل قصيدة فيه مكتوبة في صفحة أو نصف أو ربع صفحة، وقد صدر في تل أبيب عام 2002 ].
في اليوم التالي، كانت لي قراءة لمدة ساعة في الكاتدرائية الرومانية، وفاجأني أوري بحضوره، إذ لم أنتبه إليه، إلا في منتصف القراءة تقريباً. وحين انتهيت من القراءة، وبدأت في الإجابة على أسئلة الجمهور وأسئلة الشاعر الفرنسي برنار مازو، مقدمي وعريف الأصبوحة، أشرت في إجاباتي إلى حضور أوري، وإلى مبادرتي بالحديث معه، فنحن في الأول والأخير شعراء، أي حلفاء جمال، وما يجمعه الشعر لا تفرقه السياسةُ. وأن هذه عندي، قناعات، ولن تكون شيئاً آخر، فأنا لست سياسياً، بل لا أخفي احتقاري للسياسيين من جميع البلدان، وبالذات السياسيين الإسرائيليين وبعض ساستنا! فهم يقتاتون على مأساتنا، ولا يفقهون معنى أن يستمر البشر في ألمهم العام والخاص، دون أن يعيرهم أحد التفاتاً. فالألم، مثل علبة السمك، يفسد إذا طال وقتهُ، ويصبح ماسخاً ورديئاً وبلا أي معنى أو جلال. قلتُ كلاماً كثيراً، لا أتذكره، مع الأسف، الآن. لكنني قلته بصدق، فوصل إلى الجمهور مباشرةً.
هنّأني أوري بتوفيقي شعراً وآراءً، وفجأني بأنه ترجم إلى العبرية، قصائدي التي قرأتها، واستمع إليها للتوّ، عن الفرنسية مباشرةً. كنتُ أقرأ القصيدة الصغيرة بالعربية، ثم أصمت، فيقرأ أنطوان جوكي، ترجمتها بالفرنسية، وهكذا...
قال أوري إنه سعيد بما سمع من شعري، إلخ.. في ذات اليوم، في المساء، إلتقينا أمام ساحة الفستيفال، تحت شجرة الإِبْلاتَنْ، ذات الأوراق الأشبه بأوراق الدوالي، وواصلنا حديثنا، وسط ضجة وبهجة العشرات من الشعراء العرب والأوربيين وبعض الجمهور. قلت لأوري إنني مؤمن فقط بحل الدولة العلمانية الواحدة، التي يتساوى مواطنوها في الحقوق والواجبات، والتي طرحها، أول ما طرحها، مفكّرنا الكوني إدوارد سعيد. أما رؤيتك للحل، فأرفضها، لأن شارون على الأرض، لم يصنع مقومات نجاح، لدولة فلسطينية في الضفة والقطاع، ثم إنكم عما قليل، ستخرجون من بيوتنا في غزة، لتجلسوا على السور، فأي أفق لمثل هذه المسخرة! قال أوري أنني أحلم، وأنه أكثر واقعيةً منه، فلتأخذوا دولتكم، ثم بعدها، فلنرَ![ بعد ذلك، جرى حوار بيني وبين أوري في صحيفة " ميديا ليبري "، الفرنسية، وكان مانشيت الصفحة الأولى، فرفض أوري فكرة الدولة العلمانية الواحدة، بحجة أن الشعب اليهودي، المضطهد تاريخياً، لن يتخلى عن دولته اليهودية، التي هي حلم الآباء والأجداد. ] حسناً، نحن أيضاً، يا أوري، لدينا كثيرون يحلمون بإقامة الدولة الدينية، وإرجاع زمن الخلافة! لذا، وكما أرى، لا بد من تحييد الأديان في هذا الصراع الأرضي الشائك، وإلا لن يكون حلٌّ، ولن تكون سوى دماء في مسيل بلا نهاية!
تلك كانت نقطة خلافي الوحيدة مع أوري. وقد احترم الرجل موقفي في النهاية. ألا قاتل الشيطانُ السياسة، التي نهرب منها، فتصرّ على الحضور البئيس! وأين ؟ في أجواء فرح واحتفال!
عدنا إلى جوّنا، وشكا لي أوري من تجاهل بول شاوول له، مع أنّ أوري يحترمه شخصاً ونصّاً. تكلّمتُ مع بول، الصديق الودود، فرفض حازماً، وقال لي : قل له ألا ينظر ناحيتي! وبالفعل، انتهى المهرجان، دون أن يقترب الشاعران من بعضهما البعض! قلتُ لأوري إنني أُقدّر موقف الشعراء العرب، وأحترمه. فما لم تعيدوا لنا حقوقنا، فلمَ يطبّعون معكم ؟ أما نحن الشعراء الفلسطينيين، فلنا خصوصية، ولنا وضع معقد مركّب. هذا في العموم، أما في الخصوص، فأنا لا أرى، من ناحيتي، غضاضةً، في أن يتكلم معك، شعراء عرب. أولاً، لأنّ الثقافة العربية، ليست هشة إلى هذا الحد، حتى تخاف من مجرد حديث مع شاعر إسرائيلي. ثانياً، لقد آن الأوان لعقلية الدوغما الوطنية العربية، أن تختفي. فهي، هذه العقلية، مَن أوصلتنا كفلسطينيين وعرب، إلى جحيم هذا الانحطاط، وقاع هذه الكارثة. ثالثاً، نحن كشعراء، أصغر أقليّة في هذا العالم، وعليه، يجب أن نحب بعضنا البعض، وأن يحترم كل منا زميله، لأننا في النهاية، مثل معظم الأقليّات في العالم، مضطهدون!
وشخصياً، ومنذ أكثر من عشرين عاماً، أحسستُ وما زلتُ أحسّ، بأنني شاعر عابر للقوميات والهويات، شاعر يكتب بروح الكون، ويعاني من ألم ضغط هويّته الضيّقة كحذاء!
لكنّ هذا، الآن، موضوعٌ آخر..فلا يوجد ما يشفع له ويعزّزهُ في الواقع الجهم الملتبس.
بعدها سافر أوري قبل انتهاء المهرجان بيومين أو ثلاثة، لظرف خاص، وكنا، أنا وهو، رفضنا، لقاءً مشتركاً، لمدة ربع ساعة، أمام الجمهور الفرنسي، نظراً لضيق هذا الوقت لكلينا، فعمّا سيتحدّث رجلان وعمّا لن يتحدثا، والموضوع جد ساخن، وليس أمام كل منهما سوى سبع أو ثمان دقائق! أعلمني أوري برفضه، وقال إن الموضوع كله لا يتعدى أخذ صور إعلامية لنا، فهذا ما يريده الفرنسيون، فأمّنت على رأيه، واعتذرت لمديرة المهرجان بعدئذ. [ مسألة ترتيب هذا اللقاء، تمت من قبل إدارة المهرجان، بناءً على طلبي، حيث أبديت رغبة بذلك، أثناء حوار مطوّل لي مع الجمهور الفرنسي، في إحدى الندوات. ]
سافر أوري إذاً، وبقيت كلمتُهُ، أو حلمُهُ، يرنّ في أعماقي. أن تُقام له أمسية شعرية في غزة، وأن تُقام لي أمسية في تل أبيب، وأن نتزاور دائماً.... آمل ذلك، أيها الشاعر، وإن كان كل شيء، كما قالت لي تال نيتزان، في سهرة آخر ليلة، سيعود إلى ما كان عليه، من قبح ورثاثة، ما أن نصل إلى بلادنا!
لنحلمْ..لنحلمْ يا أوري، لنحلمْ يا تال، لنحلم بزوال أبشع وآخر احتلال كولونيالي على كوكبنا. إن لم يكن من أجل أنفسنا، فمن أجل أطفالنا وأحفادنا، فما ذنب هؤلاء، أن يواصلوا العيش في جحيم أسود، وكأنهم كومبارس في تراجيديا إغريقية!

دونيز بوشيه

هي أول شاعرة بادرت بلقائي في المهرجان. كنت أول الواصلين من الشعراء العرب، وأمضيتُ ليلتين ويوماً، وحيداً، في الأوتيل، إلى أن جاءت دونيز، وأخرجتني من هذه الوحدة. فقد طرقت عليّ باب الغرفة، عارضةً أن تريني معالم المدينة وأهم آثارها التاريخية. نزلتُ معها، وذهبنا في جولة، لن أنساها أبداً. وأثناء الجولة، التقينا بصديقتها ومواطنتها الشاعرة دانييلا، لنذهب ثلاثتنا إلى سهرة طويلة، في بيت، أو في الحقيقة، متحف فنانة فرنسية تقيم في لوديف. كانت سهرة لطيفة، حميمة، وحضرها ثلاثة شعراء فرنسيون، مع فنانتي سينما. أكرمتنا مُضيّفتنا الفنانة، الرائعة، والتي قدمتني، فيما بعد، في إحدى القراءات المشتركة.
عدنا إلى الاوتيل، في حدود الثانية صباحاً، وفي الضحى التالي، جاءتني دونيز، وخرجنا إلى أول أيام المهرجان.
لم تتركني دونيز بعد ذلك أبداً : كل يوم نلتقي ونتكلم، وفي أحد الأيام، سجّلت معي برنامج قراءات في إذاعة لوديف، أقرأ أنا القصيدة بالعربية، فتقرأها هي بالفرنسية، إلى أن أكملنا نصف ساعة من القراءة، دون أية مشاكل.
دونيز، وكما عرفت من أنطوان جوكي وغيره، أكبر شاعرة كندية تكتب بالفرنسية، وهي امرأة في حدود السبعبن، لكنها بحيوية شابة في الثلاثين. إمرأة في منتهى اللطف، محبة للناس والسفر والمغامرة، تعطي نفسها للحياة، بكامل صخبها ومفارقاتها، ولا تني [ تصدُّ " المُطلقَ " من الدخول في كتابتها ]. وهي من بيت سينمائي، معروف، ولكنها اختارت الشعر، مصيراً وملاذاً. ولا تعرف إلى اليوم : لماذا ؟

تحرص دونيز على حضور المهرجان كل عام. وترى أنه أهمّ وأجمل مهرجان شعري في العالم. وهي كما أخبرتني، تركّز كل دورة، على الشعراء الفلسطينيين، وتهتمّ بشعرهم، ليس فحسب، لأنها من أكبر المتعاطفين مع مأساة شعبنا، بل أيضاً، لأنها تجد في هذا الشعر، ما لا تجده، غالباً، في غيره.
شملتني برعايتها وحدبها الأمومي، لمعرفتها أنني لا أجيد أية لغة. وكانت كل يوم، تستفسر عن أحوالي، فأقول إن كل شيء على ما يرام.
حضرتْ معظم قراءاتي، وكان رأيها في شعري جيداً، رغم أن شعري، على النقيض من شعرها، مليىء بالمطلق الميتافيزيقي. وحين أجريتُ حواراً للصحافة مع أوري ربنشتاين، قال لها أحدهم، أنني سوف أتعرّض إلى الكثير من ا