مونتسكيو 1689 – 1755م

قراءة في التكوين والمنهج

" إن مبدأ الملكية يفسد عندما تكون المناصب الأولى علامات للعبودية، وعندما ننزع عن الكبار احترام الشعوب، ونحولهم لمجرد أدوات بخسة للسلطة التعسفية" مونتسكيو.

توطئة:
مع نهاية القرن السابع عشر الميلادي، انتقل مركز الثقل في مجال الفلسفة السياسية على وجه الخصوص، من إنجلترا إلى فرنسا، التي شهدت حركة ثقافية واسعة عبر منابر المعرفة المتمثلة في الجامعات والأكاديميات العلمية، ومن خلال العديد من النوادي والصالونات الثقافية الجامعة فيها أصحاب الفكر التقدمي دون النظر إلى الطبقة الاجتماعية المنتمين إليها، والتي أبرزت عددا من الشخصيات الفكرية من أمثال مونتسكيو، وفولتير، وروسو، وجماعة الإنسكلوبيديا، وغيرهم ممن شددوا على فكرة القانون والحقوق الطبيعية للفرد والمجتمع، واعتمدوا المنهج العقلي المستنير في توضيح مفاهيمهم، وطرح آرائهم الفكرية ؛ ويعود ذلك إلى حالة الضيق التي عاشها المفكرون والفلاسفة إبان عهد الملكية المطلقة التي مارسها ملوك فرنسا في هذه الفترة، والمشخصة في عهد لويس الرابع عشر، الذي كرس بسياسته الحكم المطلق المستبد، المستند على نظرية الحق الإلهي، وهو ما جعلهم منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى أوائل القرن الثامن عشر الميلادي، يتناولون الموضوع السياسي، والاجتماعي، بشكل غير مباشر عبر الكتابة عن التاريخ الروماني، أو الأنظمة الفرنسية القديمة، ومن خلال الاهتمام بكتب الرحلات التي تصف أخلاق الشعوب الأسيوية وأنظمتها، والمعرضة بالحكم الاستبدادي في ثناياها(1) ، أو عبر التغزل بأنظمة الحكم الدستوري في إنجلترا، حالمين الوصول إليه من خلال كتاباتهم وانتقاداتهم الجدية مرة، والهزلية مرة أخرى، لأنماط الحكم الفرنسية.ومع تدهور الحكم المطلق وضعفه خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، برزت العديد من النظريات السياسية والاجتماعية، والأفكار الدينية، الآخذة في مناقشة مختلف القضايا بشيء من الحرية، والجرأة، فبرزت أفكار مونتسكيو الليبرالية القانونية، وروايات فولتير اللاذعة، ونظريات روسو الداعية إلى تطبيق المنهج الديمقراطي في الحكم القاضي بحكم الشعب بالشعب، وغيرها.
ولا شك، فقد كان لفلسفة الثورة المجيدة الإنجليزية سنة 1688م، وما نتج عنها من تطور سياسي، واجتماعي، ولآراء جون لوك وأفكاره من قبل، الدور الكبير في تشكيل الذهنية السياسية المنعكسة في أعمال المفكرين الفرنسيين(2) ، والذين شاءت لبعضهم الظروف الإقامة في إنجلترا مددا من الزمن مختلفة، فكان تأثرهم بالتجربة الإنجليزية كبيرا، وأصبح من حينه الإعجاب بالحكم الإنجليزي الفكرة الرئيسة لليبرالية الفرنسية.
وفي هذا الإطار جاءت فلسفة مونتسكيو السياسية والاجتماعية، الباحثة عن الجديد، والكاشفة بتأمل لمعطيات الفكر الفلسفي انطلاقا من قوله:" إن الفكرة تغدو عظيمة عندما يذكر أحد شيئا يكشف لأنظارنا عددا كبيرا من الأشياء الأخرى، وعندما يجعلنا نكشف دفعة واحدة ما لم نكن نأمل في اكتشافه إلا بعد قراءة طويلة "(3) .
لقد تأثر مونتسكيو وكغيره من مفكري عصره بروح حركة الأنوار، الهادفة إلى تعميم الفائدة الثقافية بين أروقة المجتمع الشعبي، لكرهه العيش في زمن الجهل، ولدرء كثير من المفاسد الدينية، والسياسية، التي يتم تسويغها باسم السياسة الوطنية مرة، وباسم الدين مرات عديدة، نتيجة لحالة الجهل المتفشية في أوساط الفئات الشعبية.
كما كان لطبيعة الأوضاع الاجتماعية التي بلغها مجتمع طبقة النبلاء في فرنسا أثر جوهري على مختلف أفكاره وأرائه السياسية، والاجتماعية، والدينية، إذ تمكنت الملكية وبخاصة في عهد لويس الرابع عشر من انتزاع جميع الامتيازات السياسية التي كان يتمتع بها النبلاء، في الوقت ذاته أخذت أوضاعهم الاقتصادية في التردي بشكل واضح بسبب سوء الأحوال الزراعية من جهة، وتوجه الدولة والمجتمع نحو الاقتصاد التجاري والصناعي من جهة أخرى، مما أحال اقتصاديا أوضاع كثير منهم إلى حافة الإفلاس، الأمر الذي جعلهم يتعاطفون مع الثورة حال اندلاعها، وهو ما كان قد حذر منه مونتسكيو في الكتاب الثامن من مؤلفه روح القوانين حين قوله:" إن الملكية تَضيع عندما يستدعي الأمير (يقصد به الملك)، وهو يعيد كل شيء لنفسه فقط، الدولة إلى عاصمته، والعاصمة إلى بلاطه، والبلاط إلى شخصه وحده... إن مبدأ الملكية يفسد عندما تكون المناصب الأولى علامات للعبودية، وعندما ننزع عن الكبار احترام الشعوب، ونحولهم لمجرد أدوات بخسة للسلطة التعسفية.."(4) .
علاوة على ذلك فقد كان للكشوف الجغرافية التي كشفت له الكثير من مجاهل الحضارات الشرقية، ولأسفاره داخل أوربا، دور في قولبة العديد من الرؤى والأفكار لديه إزاء المجتمعات والشعوب الأخرى، وهو ما حداه إلى القول:" إن الأسفار تمنح العقل سعة كبيرة، بها يتخلص الإنسان من الأفكار المسبقة في بلده.. علينا أن نأخذ البلدان كما هي، وأن ننظر إلى جميع شعوب أوربا بمثل التجرد الذي ننظر فيه إلى مختلف شعوب جزيرة مدغشقر"(5) .
وفي هذه الورقات سيقوم الدارس بالحديث بشكل موجز عن أهم نقاط فلسفة مونتسكيو السياسية، والقانونية، مستندا على ما قرره المتخصصون في الدراسات الفلسفية، والنظريات السياسية بشكل خاص، من آراء وأفكار مستلهمة من كتاباته العديدة، معرجا بداية بلمحة سريعة عن طبيعة الحالة السياسية خلال القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، وهي الفترة التي ينتمي إليها مونتسكيو وزملائه من مفكري حركة الأنوار الفرنسية.
الحالة السياسية في فرنسا خلال القرن 17م و18م:
بوفاة الملك هنري الثالث مقتولا سنة 1589م، ينتهي حكم أسرة فالوا لفرنسا، وينتقل التاج الملكي بوصية من الملك المقتول إلى هنري نافار البروتستانتي الذي عرف بهنري الرابع، وهو المؤسس لملكية أسرة آل بربون في فرنسا(6) .
ويعتبر هنري الرابع من أهم ملوك أوربا عامة، وفرنسا بوجه خاص، لما قام به من أعمال إيجابية على الصعيد السياسي والاقتصادي، إذ بداية اعتبر المذهب الكاثوليكي دين الدولة الرسمي، وأعلن تحوله عن المذهب البروتستانتي سنة 1593م، كما عمل على تمتع جميع المذاهب الأخرى بالحرية التامة في العبادة والعقيدة وذلك بإصداره في سنة 1598م مرسوم نانت الشهير الذي أعلن فيه نهاية الحروب الدينية في فرنسا، وإحلال عقيدة التسامح مع أتباع كالفن، حيث أجاز للبروتستانت إقامة شعائرهم الدينية في المدن الخاصة بهم، ووافق على إنشاء محاكم قضائية لهم، وسمح بعقد مجلس عام ينعقد كل ثلاث سنوات للبحث في أحوالهم، كما سمح للهيجونوت بتولي المناصب العامة العسكرية والمدنية المختلفة في فرنسا(7) ، واهتم بالإصلاحات الداخلية، فعمل على إنعاش الزراعة والصناعة والتجارة، وتمكن من إخراج الدولة من أزمتها المالية والسير بها على طريق الاستقرار والنهضة حتى كان مقتله غيلة على يد أحد المتعصبين الكاثوليك سنة 1610م (8) .
وقد خلفه في الحكم ابنه القاصر لويس الثالث عشر (1610 – 1642م) الذي تولت والدته الإيطالية ماري مديتشي الوصاية عليه، فقامت بتغيير سياسة فرنسا من سمة الاعتدال إلى سمة التشدد، بالتقرب من إسبانيا الكاثوليكية، وذلك بتأثير من وزيرها كونسيني(9) ، لكن ذلك لم يستمر طويلا حيث قام لويس الثالث عشر سنة 1617م باعتقال وقتل المارشال كونسيني، وفي حينه دخلت الملكية الفرنسية في صراع مع الهيجونوت الذين استغلوا توجه الدولة الكاثوليكي، وعملوا على الانفصال بمدنهم مؤسسين حكومات محلية، ومرتبطين ببعضهم البعض في اتحاد قوي، ومشكلين دولة داخل دولة، وقد استمر ذلك حتى سنة 1622م حيث تمكنت المملكة من السيطرة على معظم مدن الهيجونوت المحصنة(10) ، لتعود وحدة فرنسا تحت سلطة الملكية، ولتتقوى السلطة أكثر بشكل تدريجي وبخاصة بعد تسنم الكاردينال ريشيلو الوزارة الفرنسية سنة 1624م، الذي آمن بمركزية السلطة، فأرغم النبلاء الأرستقراطيين بداية على الخضوع التام للملكية في فرنسا، وقضى على مجمل الأعمال الانفصالية التي يقوم بها الهيحونوت، واهتم بالتنمية الاقتصادية، كما لم يغفل الشؤون الثقافية والفكرية حيث أسس الأكاديمية الفرنسية سنة 1666م ؛ وعلى الصعيد الخارجي رأى انتهاج سياسة هنري الرابع المعادية لأسرة الهابسبرغ في النمسا وإسبانيا الكاثوليكيتين، بالرغم من كاثوليكيته(11) ، واستمر على ذلك حتى كانت وفاته سنة 1642م وهي السنة التي توفي فيها لويس الثالث عشر أيضا.
وقد خلف لويس الرابع عشر (1642 – 1715م) والده في الحكم، كما تولى الوزارة بوصية من ريشيلو تلميذه الكاردينال مازاران الذي نهج سياسة سابقه في تقوية السلطة المركزية للعرش الفرنسي، وهو ما سار عليه لويس الرابع عشر بعد ذلك، حيث أكد ومارس نظرية الحق الإلهي في الحكم، باعتبار أن الملك يمثل الإله في الأرض، وبالتالي فله سلطة مقدسة مستمدة منه، وعليه فلا يجوز تجزئة السلطة، أو التنازل عنها للغير(12) ، لأنه لا يوجد مركز ثالث بين الحكم المطلق والفوضى(13) ، وقد وجدت هذه النظرية في أقوال عدد من المفكرين شرعية قانونية، حيث عرض يوسويه نظرية الملكية ذات الحق الإلهي، باعتبار " أن الله وحده هو الذي يقرر أمور الملك "، كما قرر غودو في كتابه "التعليم المسيحي الملكي" أن الحاكم هو " نائب الله على الأرض"(14) .
وهكذا فقد سارت فرنسا في عهد لويس الرابع عشر نحو الملكية المطلقة ذات الحكم الفردي الواحد الاستبدادي بحيث تتماها الدولة بكل مؤسساتها الدينية والدنيوية في ذاته، وهو ما وضح في قوله:" أنا الدولة والدولة أنا "(15) ، كما تتجسد شخصيته في كل ركن من أركانها، مما يجعل من التمرد عليه خطيئة دينية، وجريمة دنيوية، لكونه الملك الوارث للأنبياء، ولكونه الملك الأب، ولكونه الملك الشمس بين الكواكب(16) .
وفي سبيل تحقيق ذلك فقد أكمل لويس الرابع عشر ما كان قد بدأه ريشيلو من محاربة طبقة النبلاء والعمل على الحد من نفوذهم، فكان أن تحققت غايته بحيث لم يشكلوا أهمية سياسية، كما لم يعد لهم ذلك التأثير العسكري الفاعل، فتحولوا إلى طبقة اسمية محتفظة بمظاهر استحقاقها الاجتماعي، ومنقسمة على نفسها بحسب المقدرة المالية إلى ثلاث فئات اقتصادية، أحدها حافظ على ثرائه الأرستقراطي، والبعض الآخر اتجه نحو العمل التجاري ليقترب من طبقة البرجوازية، في حين داهم الفقر أروقة الفريق الثالث (17) .
ولم تقتصر نواحي مركزيته السلطوية الاستبدادية على الجوانب السياسية والإدارية وحسب، بل إنها قد شملت أيضا الجوانب الدينية، حيث قام في سنة 1685م بإلغاء مرسوم نانت الشهير الذي وقعه هنري الرابع سنة 1598م، والذي يقرر مبدأ التسامح الديني بوجه خاص، وذلك بحجة تأكيد الوحدة الدينية(18) .
وعلى الصعيد الخارجي فقد اعتمد لويس الرابع عشر سياسة تهدف إلى تحقيق المجد الفرنسي، وتأكيد عظمة الملكية بالشكل الذي يحقق رغباته ويرضي غروره الشخصي، ومن أجل ذلك فقد دخل في حروب مضنية مع الدول الأوربية، عرفت أولاها بحرب الاستحقاق مع مملكة إسبانيا سنة 1667م، ثم الحرب الهولندية سنة 1668م، ثم مواجهته لعصبة أوغسبرغ الذي ضم تحالف كل من إسبانيا، وهولندا، والسويد، والإمبراطورية الرومانية المقدسة، والبالاتين سنة 1688م، ثم حرب الوراثة الإسبانية التي امتدت بين سنتي 1702م و 1713م(19) .
ولقد أدت هذه الحروب المتواصلة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، مما انعكس سلبا على مناحي الحياة الاجتماعية في فرنسا، فكان أن أخذت الأصوات المناهضة للدولة تتعالى في ظل تأييد كبير من قبل مختلف الجموع الفرنسية الأرستقراطية، والبرجوازية، والثقافية، والشعبية، الأمر الذي نتج عنه إعلان الثورة الفرنسية سنة 1789م، وإعدام الملك لويس السادس عشر سنة 1793م.

مونتسكيو:
•مولده ونشأته:
ينحدر تشالز دي سكوندات الذي تلقب بالبارون دي لابريت منتسكيو من أسرة فرنسية نبيلة، وقد ولد في قصر حصين بالقرب من مدينة بوردو في 18يناير سنة 1689م، ودرس في بداياته في مدرسة جوبي التابعة لجماعة دينية تسمى الأوراتوار، فتعلم اللغة اللاتينية التي مكنته بداية من دراسة القانون الروماني وكتابة تاريخهم، وحال بلوغه السادسة عشر من عمره سنة 1705م انتقل إلى بوردو لدراسة القانون حيث تخرج سنة 1708م، ثم انتقل إلى باريس بهدف التدرب في ممارسة الشؤون القانونية وذلك في الفترة من 1709 – 1713م، وخلال تلك الفترة تعرف على أفكار طليعة المفكرين الفرنسيين، ثم عاد إلى بوردو ليعمل أستاذا في أكاديميتها، ولينظم إلى برلمان مقاطعة جويين، وذلك بعد وفاة عمه سنة 1716م، كما تم انتخابه لعضوية الأكاديمية الفرنسية سنة 1728م(20) .
وقد قام بالتجوال في مختلف المناطق الأوربية في الفترة من 1728 – 1731م حيث زار كل من النمسا والمجر وإيطاليا وألمانيا وهولندا ومن ثم إنجلترا، وقد كان لهذه الرحلة أثرها العميق في قولبة الكثير من الأفكار والنظريات التي صدح بها بعد ذلك(21) .
•فلسفته وآرائه السياسية:
لقد احتل منتسكيو درجة عالية في مجال مناهج البحث لكونه لم يكن متطرفا في نظرياته، ولقربه من المدرسة الإنسانية، ولما قدمه من اتجاهات فكرية جديدة فاقت ما جاء به معاصروه(22) ، إلى الدرجة التي أطلق عليه البعض اسم مؤسس فلسفة التاريخ، والبعض الآخر اسم رائد المنهج العلمي في التاريخ(23) .
سمات تفكيره:
ولقد اشتهر مونتسكيو بعدد من السمات الرئيسة التي ميزت نمط تفكيره، وشكلت أسلوبه العلمي في التعاطي مع مجمل القضايا والأفكار، ومن ذلك اهتمامه بمسألة التنوع القائم على إدراك الفوارق الدقيقة بين الأشياء، وتأكيده على النسبية العلمية، فما يناسب أمة ليس بالضرورة أن يناسب أمة أخرى، وقوله بالحتمية المستندة على كشف العلل والأسباب لمعرفة خواص الأمم والشعوب، وإيمانه بالعقلانية المتجسدة في القوانين الحقة، وعدم رفضه لإعادة النظر في مختلف التشريعات والأفكار، باعتبار أنها من صنع البشر، وبالتالي فإن الشك، والتأمل هما الوسيلة للتأكد من مدى ملاءمتها للمجتمع(24) .
وعلى ذلك فقد وضحت فلسفته من خلال عدد من المؤلفات والبحوث التي تم نشرها، مثل كتابه "أفكاري" الذي يعتبر بمثابة سيرة ذاتية له، حيث أظهر فيه مدى حبه وشغفه للحياة، وبالغُ تسامحه، وعظيم تواضعه وبخاصة مع الفلاحين(25) ، وهو بذلك يعكس التمازج بين الحالة الطبقية بوصفه نبيلا، والحالة الشعبية بوصفه مفكرا أديبا، كما يعكس مدى التقارب بين الطبقتين الناتج عن تقلص الفجوة الاقتصادية بينهما، والتي وضح مداها عبر اشتراك الفريقين في أحداث الثورة الفرنسية سنة 1789م.
التورية السياسية:
كما كشف في كتابه "الرسائل الفارسية"• الذي عُدّ وميض عصر التنوير الفرنسي، والذي لقي نجاحا كبيرا بعد نشره سنة 1721م في أمستردام بهولندا، عن براعة فائقة في التهكم، ونقد لاذع للأوضاع الاجتماعية، من خلال وصفه لأوضاع فرنسا الداخلية عبر عيون سائحين فارسيين هما ريكا، وأزبك، ومن خلال المقارنة بين الحضارات، مما مكنه من إصدار أحكاما قاسية بحق الملك لويس الرابع عشر، وبحق المتدينين، وبحق مختلف الأوضاع التي كان يمقتها ويتمنى تغييرها بأسلوب متوار شفاف(26) ، من واقع بحثه الكتابي الآتي كإجابة عن التساؤل التالي: هل يكون الناس سعداء بممارسة اللذات الحسية، أم بممارسة الفضيلة ؟ (27) .

معالم مشروعه السياسي:
ومن خلال رحلته تلك أوضح مونتسكيو عددا من أفكاره حول نسبية صلاح كل الأنظمة، وأن المصلحة الذاتية ليست الأساس الكافي للأنظمة الإنسانية كما هي عند توماس هوبس (1588 – 1679م)، وأن الحكم السليم لا يكون إلا بالقدرة على التربية الجيدة، كما وضّح أثر الانفعالات النفسية على تصرفات الأفراد، وبين دور الحسد والشهوة في تمكين سلطة الحاكم المستبد، علاوة على تأكيده للرأي القاضي بالتقليل من فكرة العقد الاجتماعي الذي وضحت ملامحه عند جون لوك (1632 – 1704م) ومن بعده جان جاك روسو (1712 – 1778م)، إذ يرى أن الأفراد ومنذ ولادتهم ملتئمين ضمن حياة اجتماعية، لها قوانينها، وأنظمتها، وسماتها الخاصة، وهو في ذلك يؤكد على غريزة الألفة والاجتماع التي تحل محل قاعدة العقد الاجتماعي، وعليه فإنه لا معنى لتقسيم الناس مجتمعيا إلى مجتمع الحالة الطبيعية، ومجتمع الحالة المدنية بحسب ما أورده لوك وروسو(28) ؛ كما تطرق في رسائله إلى المرأة ومدى حرص المجتمعات الأوربية على تثقيفها وتعليمها.
رأيه الديني (وحدة الأديان):
وفيما يتعلق بالنواحي الدينية فقد أكد بأنه لن يبحثها كرجل لاهوتي، ولكن ككاتب سياسي قانوني، وأنه لن يبحث في الأديان إلا بالقدر الذي يستخلص منها الحالة المدنية باعتبارها مؤسسات إنسانية، وفق طريقة تفكير إنساني(29) ، وإزاء ذلك فقد أوضح رأيه في رجال الدين (الإكليريوس)، فجاء وصفه لهم مقيتا، حيث شبه الرهبان بالدراويش، وشبه البابا بالساحر تارة، وبالصنم الذي اعتدنا على تملقه تارة أخرى(30) ، واعتبر الطقوس المسيحية السائدة نوع من الأساطير والخرافات، مع إيمانه بأن الدين المسيحي ليس له من موضوع سوى تكريس السعادة في الحياة الدنيا والآخرة(31) ، ويخلص كذلك إلى أن الأديان تقدر بحسب صلاحها للمجتمع، وبمقدار ما تحمله في طياتها من قيم خلقية، مادحا في هذا الإطار البروتستانتية، ومؤيدا للطلاق، وزواج رجال الدين، ومعتبرا أنه من غير الممكن أن يبقى الدين الكاثوليكي في أوربا لمدة طويلة، ومؤكدا على أن النزاعات اللاهوتية سخف وسفه، وأن التسامح وحده يمثل القاعدة الرئيسة للعقل الإيجابي، فالشر حسب رأيه ليس في تعدد الأديان، وإنما في روح عدم التسامح، وفي التبشير بدور مهيمن(32) ، وفي هذا الإطار فقد اعتبر أن الدين الإسلامي أكثر ملائمة لشعوب الشرق، بينما تناسب المسيحية شعوب الغرب الأوربيين لاعتبارات جغرافية من جهة، ولاعتبارات سياسية من جهة أخرى(33) .

السببية المنطقية:
وفي كتابه "تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحلالهم" الصادر سنة 1734م، حلل مونتسكيو لمفهوم العلية الاجتماعية والسياسية من واقع دراسته للتاريخ الروماني الذي كان يُعدّه من أكمل التواريخ لمجتمع سياسي عرفه وتمكن منه، وبهذا الكتاب يكون منتسكيو قد سبق العلماء المهتمين بدراسة نمو وتفكك السياسة الرومانية، إذ أكد على حقيقة هامة مفادها أن سقوط الإمبراطورية الرومانية كان بسبب اتساع رقعتها بحيث لم يضمن لها السيطرة على اقتصادياتها(34) .
وحول هذه النقطة فإنه يرى أن الصدفة ليست هي الحاكمة للعالم، بل إن الحكم لا يتأتى إلا وفقا لقوانين وأنظمة سياسية واضحة ودقيقة، معتبرا أن الخروج عنها يؤدي إلى حدوث النكبات والانهيارات، كما يعتبر أن العلاقات بين الأشخاص والجماعات في المجتمعات الحرة أقل توثقا منها في المجتمعات الاستبدادية، وهو في ذلك لا يعتبرها سمة سلبية في حد ذاتها لكون كل منهم له مصالحه الخاصة التي تُسيِّر نمط تفكيره وحياته ولكن وفقا لقواعد خيرية تعمل لصالح المجتمع، وأن ما دمر الرومان، حسب رأيه، ليس في هذا التغاير وإنما في التضارب السلبي لرغبات الأفراد والمجتمعات.

موسوعته في القانون والسياسة:
على أن أهم كتبه التي عكست فلسفته وآرائه قد كان كتابه الموسوعي ذي 31 بابا "روح القوانين" الصادر سنة 1748م، والذي استغرق في تأليفه حوالي 20 عاما، ليكون أول مدخل علمي إلى العلوم السياسية، باستقصائه قوانين كثير من الأمم، وبحرصه على أن يكون في تأليفه تاريخيا تجريبيا من خلال بحثه عن العلاقات الضرورية المشتقة عن طبيعة الأشياء، من واقع تطبيق منهج نيوتن العلمي على ظاهرات الحضارة الإنسانية، على عكس سابقيه من أمثال هوبس واسبنيوزا (1632–1677م) التجريبيين في منهجهم(35) ، كما أنه ولدراسة القوانين والظواهر الاجتماعية دراسة علمية صحيحة، فقد لجأ لدراسة تاريخ الأمم، مركزا على تطور الظواهر فيها، والأسباب والعلل التي تخضع لها، ليتمكن من استنتاج القواعد والمبادئ التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية، حيث يقول في ذلك:
" بادئ الأمر تفحصت الناس، وظننت في هذا التنوع اللامتناهي من الشرائع والأعراف أنهم لا ينقادون فقط بمقتضى خيالاتهم وأهوائهم، فوضعت الأسس، ونظرت في الأحوال الخاصة فرأيتها تندرج فيها تلقائيا، ورأيت أن تواريخ جميع الأمم ما هي إلا تتمتها، وأن كل قانون خاص متصل بقانون آخر، أو أنه تابع لقانون أشمل وأعم" (36) .
وترتكز القيمة المعرفية للكتاب فيما حواه من مختلف النظريات المتعلقة بالسلوك الإنساني عبر صياغته وتصنيفه لأنظمته السياسية من جانب، والبحث المقارن في القضايا التاريخية والاجتماعية السياسية من جانب آخر، مما كان له التأثير الكبير بعدئذ على كتابة عدد من الدساتير العالمية.

موضوعات الموسوعة:
لقد تناول منتسكيو في كتابه روح القوانين موضوعات عدة، حيث كتب في الكتاب الأول تفصيلات للقوانين بشكل عام، وتطرق في الكتاب الثاني والثالث إلى نظريات الحكم، أما الكتاب الرابع فقد خصصه للحديث عن الأنظمة التعليمية، وفي الكتاب الخامس تطرق إلى القانون الجنائي، وفي السادس إلى قوانين الفخامة، وفي السابع إلى قوانين الإسراف، وفي الثامن إلى مركز المرأة، وفي التاسع إلى المفاسد الأخلاقية في المجتمع، وفي الكتاب العاشر إلى نموذج التنظيم العسكري، وفي الحادي عشر والثاني عشر تضمن المجادلة حول الحرية والسياسة وعلاقاتها بالمواطن، وفي الكتاب الثالث عشر تطرق إلى سياسة النظام الضرائبي، أما الكتب من الرابع عشر وحتى السابع عشر فقد تضمنت دراسته علاقة المناخ وآثارها في الحكم والصناعة، وفي العبودية والحرية السياسية، وفي الكتاب الثامن عشر تناول مسائل التربية، وفي التاسع عشر درس تأثير العرف على الجوانب السياسية والاجتماعية، وحوى الكتاب العشرين وحتى الثاني والعشرين ملاحظات عن أثر التجارة والنقود، وفي الثالث والعشرين تناول أثر السكان، وفي الرابع والعشرين والخامس والعشرين تطرق إلى النواحي الدينية، وتمحور المؤَلَّف من الباب السادس والعشرين وحتى الواحد والثلاثين حول تاريخ القانون الروماني والإقطاع في فرنسا(37) .

مرجعية القوانين:
وفيه اعتقد منتسكيو أن القانون الطبيعي هو القانون العام الذي يحكم الكون، وأنه لحاجة الناس إلى قوانين تنظم اجتماعاتهم فقد كان لزاما عليهم صنع ما يحتاجونه من قوانين متوافقة مع حقوقهم مثلت المصدر الرئيس لكل الأشياء المتعلقة بالإنسان والطبيعة والمقدسات (38) ، لكونه هو العقل البشري الذي يمكنه حكم الشعوب (39) .
وفي هذا الصدد فقد آمن بأن الحق فوق القانون، وأنه لابد لكل قانون أن يبحث عن الحق ويهدف إليه لتتحقق فيه العدالة، وليتلاءم مع قيمه من وجهة النظر الحقوقية(40) ، ورأى أن اكتشاف هذه القوانين هي من أهم واجبات الفلسفة التي سيؤدي اكتشافها إلى تخفيف أمراض المجتمع وتحسين صور حياته(41) ، وفي المقابل فإن من أهم واجبات الحكومة الحفاظ على هذه القوانين وحمايتها، ومن ثم تنفيذها، وضمان الالتزام بها(42) ، دون العمل على العبث بها، أو تغييرها بشكل عشوائي، وفي حال الاضطرار إلى ذلك، فيجب أن يكون بحذر شديد، و"بيد مرتعشة" حسب قوله(43) .

مفهوم الحرية:
كما اهتم مونتسكيو بتوضيح وتحديد الخط الفاصل بين الحرية بكامل معانيها، والحق بكامل جوانبه، فمن وجهة نظره أن الحرية هي سلطة القانون لا سلطة الشعب، وأن سلطة القوانين هي حرية الشعب، وبالتالي فالحرية في نظره هي " الحق في فعل كل ما تسمح به القوانين "، وفي حال التعدي على ذلك فلا حرية مكفولة، ولا حقوق مصانة، إذ " لن يبقى بذلك ثمة حرية (قانون) يمكن الالتجاء إليها، لأن الآخرين سيكون لهم ذلك الحق أيضا"(44) .

مرتكزات التشريع:
واهتم منتسكيو بشخصية المشرع الحيوية، الذي يرتكز دوره في حال اختلاف الطبيعة (أي الفرد أو الجماعة الحاكمة) عن المبدأ (أي المعاني القيمية التي يؤمن بها أولئك الحكام) على وضع القوانين الأساسية لضمان سلامة المجتمع، ولتحقيق ذلك فلابد للمشرع حسب رأيه أن ينطلق في تشريعه من معطيين اثنين، أولاها: تحديد شكل الحكم الذي من أجله تقام القوانين، وثانيها: معرفة الخاصية أو كما أطلق عليها الفردية التي يتميز به الشعب السارية عليه القوانين، والتي يمكن تحديدها من إدراكه (أي المشرع) للمفاهيم الدينية والأخلاقية، وأحوال المنطقة البيئية، والاقتصادية، وتحديد الهدف الرئيس للمجتمع، إذ أن لكل أمة هدفها الخاص حسب رأيه، فإذا كان هدف روما التوسع، والدين غاية القوانين اليهودية، فإن التجارة هدف مرسيليا، والحرية السياسية غاية إنجلترا، وعليه فعند الإحاطة بذلك من قبل المشرع فبالإمكان تحديد القوانين الملائمة للمجتمع(45) ؛ ويؤكد في هذا الإطار على ضرورة توافق القوانين المُشرّعة مع روح الشعب التي لا تعلو عليها أية سلطة، والتي تمثل أساس كل سلطة حية، بحيث تصبح لازمة لاستمرار الحياة الشرعية والقانونية للسلطة القائمة، فتستمر الدولة وفقا لذلك في تقدمها وازدهارها(46) .

أنواع الحكومات:
وقد صنف في كتابة الآنف الذكر الحكومات إلى ثلاثة أنماط رئيسة تختلف كل منها عن الأخرى بحسب طبيعتها ومبدأها، وهي: النظام الجمهوري الذي يصلح حسب رأيه لدول المدن، والنظام الملكي الأنسب لأوربا، والنظام الدكتاتوري الاستبدادي الذي يناسب الإمبراطوريات الكبيرة(47) .
وفي هذا الصدد فقد حدد طبيعة الجمهورية بكونها نظام الحكم الشعبي، وهي تنقسم بحسب رأيه إلى جمهوريات ديمقراطية ترتكز على الاقتراع الشامل المؤدي لحكم الشعب كاليونان والرومان، وأخرى أرستقراطية ديمقراطية تقوم على حكومة النخبة كالبندقية، وتتميز كل منها بمبدئها المرتكز على الفضيلة ولكن عبر معان مختلفة، فالفضيلة في الجمهوريات الديمقراطية تتمثل في حب الوطن، والمساواة، والزهد المؤدي للتضحية في سبيل مصلحة الجماعة، في حين تتمثل الفضيلة في الجمهوريات الأرستقراطية في الاعتدال في السلوك والمطامح لدى أعضاء الطبقة الحاكمة(48) .
والمَلَكية هي نظام الحكم الفردي عبر حاكم محدد وفقا للقوانين المعتمدة، وعبر القنوات المتفق عليها من برلمانات وهيئات دينية، والمتمثلة لديه في العديد من الملكيات الأوربية وبخاصة الملكية الإنجليزية، ويرتكز مبدأها على الشرف والكرامة، والذي لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال ما يتمتع به النبلاء من امتيازات تساعدهم على مراقبة الملكية، والذين بغيرهم سيتكرس حكم الطغاة المستبدين حسب رأيه(49) .
والدكتاتورية هي الحكومة الاستبدادية التي ينفرد فيها الفرد الحاكم بالرأي والحكم وفقا لأهوائه ورغباته دون مشاورة أو استرشاد من أحد، ولا تملك أية فضيلة تعتمد عليها في تأكيد مشروعيتها السياسية سوى ما تحاول أن تزرعه في أذهان وقلوب المجتمع من الخوف والمهانة، عبر محاور الحياة المختلفة من تربية وتعليم وغير ذلك، كما تتصف هذه الحكومات بانعدام القوانين المنظمة للمجتمع، الزارعة فيهم أسس الاحترام المتبادل، بحيث لا يكون في نفوسهم سوى الترهيب والتخويف(50) ، اعتقادا منها حسب رأيه أن ذلك يوفر الطمأنينة والسلام، وفي ذلك يقول:
" إن القوانين الأساسية تفترض بالضرورة قنوات وسيطة تجري من خلالها القوة، لأنه إذا كان لا يوجد في الدولة سوى الإرادة الآنية والمزاجية لشخص واحد، فلا يمكن لشيء أن يكون ثابتا، ومن ثم لا يكون هناك قانون أساسي... والسلطة الوسيطة الملحقة الطبيعية جدا هي سلطة الأشراف، وهي بنوع ما تدخل في جوهر الملكية.."(51) .
وعليه فإن مونتسكيو قد قرر أهمية سلطة النبلاء كسلطة مانعة للملك من التمادي في استبداده وطغيانه، وهو الأمر الذي عمل على زعزعته والقضاء عليه لويس الرابع عشر خلال حكمه الأتوقراطي، كما وشدد على عدم تعاطي النبلاء مهنة التجارة(52) ، لخوفه من غلبة فلسفة المنفعة المادية على فلسفة القيم والأخلاق التي يجب أن يتحلى بها أولئك، وفي الإطار ذاته فإنه يطرح أهمية تكوين مجلسين رقابيين أحدهما خاص بالنبلاء، والآخر بالشعب(53) ، باعتبار خواص كل منهم التي يمكن أن تلعب دورا فاعلا في توازن القوى داخل السلطة، وبذلك يكون قد أيد نظام حكم الملكية الدستورية، أو الجمهورية الأرستقراطية.

أثر العامل البيئي على المجتمعات:
كما آمن منتسكيو بمبدأ النسبية السياسية، الناتج عن اختلاف تأثير العوامل الجغرافية والبيئية على تكوين المؤسسات السياسية، ومن ذلك فإنه يرى إمكانية اختلاف النظام السياسي من بلد لآخر، ومن وقت لآخر، تبعا لاختلاف الظروف الطبيعية والإنسانية(54) ، كما شدد على أن الحكم على الأنظمة الاجتماعية يجب ألا يكون حكما مطلقا، وعلى نطاق عام، وإنما في ضوء ملائمة تلك الأنظمة لروح الشعب الذي وضعت من أجله(55) .
ولقد بنى مونتسكيو فلسفته هذه لا على المعنى الظاهري للقانون المحدد لطبيعة العلاقات المجتمعية، ولكن على ما تحويه مختلف هذه القوانين من روح متباينة بتباين العقول والأفكار، والعادات والأخلاق، وهو ما استشفه حال تجواله في أقطار أوربا عندما لاحظ مدى الاختلاف القانوني بين مدينة وأخرى، مما دعاه للاستنتاج لاحقا أن لكل أمة عقلها الخاص، ولكل شعب فرديته التي تقتضي قانونه الخاص، وفقا لموائمته للظروف البيئية، والاقتصادية، والدينية، بحيث يكون من الصدفة أن تتناسب قوانين أمة مع أخرى حسب رأيه(56) .
وعلى ذلك فقد حدد مونتسكيو العوامل التي تشكل شخصية الأمم المختلفة وحضارتها، حيث أرجعها إلى عوامل طبيعية وأخرى معنوية، فأما الطبيعية، فهي متعلقة بالعوامل الجغرافية من اختلاف المناخ، والموقع، وطبيعة الأرض، معتبرا أن لكل ذلك أثر على كل أجزاء الجسم البشري، وبالتالي فإنها تشكل مزاج الإنسان، وأخلاقه، وعاداته، وغير ذلك مما هو متعلق بطبيعة العامل الجغرافي، وبالنسبة للعوامل المعنوية وهي المؤثرة بشكل مباشر في طبيعة وشكل قوانين الدولة ونظامها، فهي في نظره متمحورة في العامل الاقتصادي التي أولاها اهتمامه الخاص، وكذلك في العامل الديني(57) .
ويصل وفقا لذلك إلى أنه في الوقت الذي يتمتع شعوب الشمال ونتيجة للمناخ البارد بالقوة والشجاعة مقارنة بشعوب الجنوب، فإن إحساسهم بالحب، والملذات، والألم يكون أقل من شعوب الجنوب ذوي المناطق الحارة الذين يسيطر الشبق الجنسي عليهم، ويصل أيضا وطبقا لتأثير العوامل الجغرافية والبيئية إلى أن الشرقيين مقارنة بالغربيين يسيطر عليهم الكسل الفكري(58) .

نظرية فصل السلطات والحكم الفدرالي:
وفي سبيل تحقيق مبدأ المساواة والعدالة المستندة على الحرية في الرأي، والعقيدة، والتملك، فقد دعا منتسكيو إلى حتمية الفصل النسبي بين السلطات الثلاث التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، حتى لا يتحقق الإفراط في السلطة، إذ لا بد حسب رأيه "أن تضع السلطة حدا للسلطة "، وبالتالي فإنه يرى أن من الخطورة أن تجتمع سلطة سن القوانين، ومن ثم تنفيذها، والحكم فيها، في يد سلطة واحدة أيا كانت تلك السلطة وشكلها، كما يرى أن الحرية السياسية لا يمكن أن تتأتى إلا في نطاق حكم معتدل، محدد الصلاحيات، وحتى يكون الحكم معتدل، فلابد من توزيع عقلي عادل لمختلف القوى الاجتماعية بحسب المقدرات الطبيعية والمادية (59) .
وبالرغم من أنه لم يكن البادئ بهذه النظرية حيث سبقه كل من: أرسطو (384 – 322ق.م)، وجان بودان في القرن السادس عشر الميلادي، ولوك، إلا أنها قد ارتبطت به لعدة اعتبارات أساسية منها: أنه أول من تعمق في دراسة هذه المسائل وركز على تفاصيلها، وهو أول من بيّن الأهمية العلمية لذلك، كما أنه أول من ركز على أدلة التاريخ السياسي الفعلي المدعمة لرأيه(60) .
ولم يقتصر على ذلك فحسب، بل دعا إلى إقامة النظام الفدرالي الاتحادي الذي ـ وحسب رأيه ـ تتمتع فيه الدولة باستقلالية كل منطقة عن الأخرى في أحكامها وقوانينها وسلطتها، لكنها تجتمع على النطاق الخارجي في قوة مركزية واحدة فيكون لها كل مزايا الملكيات الكبيرة، وهو الأمر الذي وجد فيه مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية الشكل المناسب لإقامة دولتهم الفدرالية علاوة على إيمانهم العميق بفكرته القاضية بفصل السلطات الثلاث عن بعضها البعض(61) .

الخاتمة:
وهكذا فمن الممكن اعتبار مونتسكيو بما قدمه من طرح فكري، ومنهج قانوني سياسي، زعيما للمدرسة الليبرالية، بمنهجها المعتمد على الحرية، ونسبية الحقيقة، وبمبادئها الداعية إلى إفشاء التسامح، والتحرر من كل القراءات والأفكار الدينية والسياسية، التي يمكن لها أن تعيق تقدم العقل، أو تغير من مساره.
كما يعتبر رائدا للفكر السياسي بما طرحه من آراء ونظريات سياسية متعلقة بنظام الحكم وأطره، وهو في ذلك لم يخرج عن توجهه الليبرالي المعادي لكل أشكال الحكم المركزي (الأوتوقراطي)، سواء كان ذلك عبر حكم الفرد، أو الحزب، أو حتى من خلال التسلط الشعبي ؛ داعيا في مقابل ذلك إلى تحقيق مبدأ التوازن عبر توزيع عادل للسلطة بين مختلف القوى المجتمعية، مع تأكيده على أهمية دور طبقة النبلاء في لعب خيط التوازن بين القصر والمؤسسات الشعبية، وهو ما حرص على تفعيله حال دعوته لإقامة مجلسين رقابيين أحدهما ممثل بالنخب الأرستقراطية، وربما لاحقا النخب الثقافية، والاقتصادية، والآخر ممثل من قبل الطبقات الشعبية
كما جاءت آراءه الدينية متوافقة مع أقرانه من مفكري حركة الأنوار الفرنسية، ومنسجمة مع توجهاته الليبرالية الثقافية، إذ أنه قد آمن بأن القيمة الحقيقية للأديان ليس بما تمارسه من طقوس شعائرية قد تكون شكلية، ولكن بما تقدمه للبشرية من خير وفضل، وبما تزرعه في أفئدتهم من تسامح، معتبرا أن الشر ليس في تعدد الأديان، وإنما في تفشي روح عدم التسامح، رافضا بذلك مبدأ أحادية المعتقد، انطلاقا من إيمانه بأهمية التأمل قبل إصدار الأحكام المطلقة، مع مقته لذلك.

قائمة المراجع:
1 - جان بيرنجيه وآخرون، موسوعة تاريخ أوربا العام، ترجمة: وجيه البوعيني، مراجعة: انطوان الهاشم (بيروت: منشورات عويدات، 1995م)، ج2، 684، 685.
2- بيرنجيه، مرجع سابق، ج2، 646، 647.
3- برنار غروتويزن، فلسفة الثورة الفرنسية، ترجمة: عيسى عصفور (بيروت: منشورات عويدات، 1982م)، 41.
4- جان جاك شوفالييه، تاريخ الفكر السياسي من المدينة الدولة إلى الدولة القومية، ترجمة: محمد عرب صاصيلا، ط4 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1998م)،422.
5 - غروتويزن، مرجع سابق، 47 ؛ وإشارته إلى جزيرة مدغشقر (جزر القمر) المستعمرة من قبل البحرية الفرنسية، والواقعة في أقصى الجنوب من القارة الإفريقية في المحيط الهندي توحي بمدى تأثر الكاتب بحركة الكشوف الجغرافية، التي فتحت الآفاق للمفكرين الأوربيين لمعرفة دواخل الحضارات المختلفة في إفريقيا وأسيا والقارة الأمريكية.
6 - عبد الحميد البطريق، عبد العزيز نوار، التاريخ الأوربي الحديث من عصر النهضة إلى مؤتمر فينا (بيروت: دار النهضة العربية، [د.ت])، 158 ؛ عبد المجيد نعنعي، أوربا في بعض الأزمنة الحديثة والمعاصرة 1453–1848م (بيروت: دار النهضة العربية، 1983م)، 95.
7 - نعنعي، المرجع السابق، 96 – 99.
8 - المرجع السابق، 100.
9 - عبد الفتاح أبو علية، إسماعيل ياغي، تاريخ أوربا الحديث، ط3(الرياض: دار المريخ، 1993م)، 176؛ نعنعي، مرجع سابق، 123.
10 - أبو علية، مرجع سابق، 177 ؛ البطريق، مرجع سابق، 161 – 163.
11 - البطريق، 163 – 166 ؛ نعنعي، 124 – 127 ؛ أبو علية، 177 – 179.
12 - أحمد الكبسي، حسن سليمان، ومنصور الزنداني، مبادئ العلوم السياسية (صنعاء: مؤسسة الكتاب المدرسي، 1997م)، 51 – 53 ؛ نعنعي، مرجع سابق، 133، 135.
13 - جورج هـ. سباين، تطور الفكر السياسي، ترجمة: علي السيد، مراجعة: راشد البراوي (القاهرة: دار المعارف، 1971م)، ج4، 736.
14 - بيرنجيه، مرجع سابق، ج2، 639.
15 - أبو علية، مرجع سابق، 242.
16 - بيرنجيه، مرجع سابق، ج2، 640.
17 - البطريق، مرجع سابق، 330 – 333 ؛ نعنعي، مرجع سابق، 134 – 136.
18 - شوفالييه، مرجع سابق، 352.
19 - نعنعي، 143 – 155 ؛
20 - عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984م)، ج2، 488؛ الموسوعة العربية العالمية، ط2 ( الرياض:، 1999م )، ج24، 447.
21 - بدوي، المرجع السابق، ج2، 489.
22 - هاري إلمر بارنز، تاريخ الكتابة التاريخية، ترجمة: محمد برج، مراجعة: سعيد عاشور (القاهرة: 1967م)، ج1، 230.
23 - محمود الحويري، منهج البحث في التاريخ (القاهرة: المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، 2001م)، 100.
24 - جان توشار و آخرون، تاريخ الفكر السياسي، ترجمة: علي مقلد (بيروت: الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، 1981م)،308، 309.
25 - المرجع السابق، 307.
- أوردها رونالد سترومبرج في كتابه تاريخ الفكر الأوربي الحديث باسم "الرسائل الباريسية"، ولعل ذلك خطأ من المترجم أو الطباعة، لاتفاق جميع من وثق لمنتسكيو على تسميتها بالرسائل الفارسية، أنظر: رونالد سترومبرج، تاريخ الفكر الأوربي الحديث (1601 – 1977م)، ترجمة: أحمد الشيباني (جدة: مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر، 1984م) ج2، 66.
26 - شوفالييه، مرجع سابق، 400.
27 - توشار، مرجع سابق، 308.
28 - بدوي، ج2، 488؛ الموسوعة العربية العالمية، ج24، 447.
29 - شوفالييه، مرجع سابق، 433.
30 - المرجع السابق، 400.
31 - شوفالييه، مرجع سابق، 433 (حاشية)
32 - المرجع السابق، 401 ؛ سترومبرج، مرجع سابق، ج2، 67.
33 - الحويري، مرجع سابق، 101.
34 - بارنز، مرجع سابق، ج1، 231.
35 - سترومبرج، مرجع سابق، ج2، 72، 74، 75.
36 - فرانسوا شاتيلي، أوليفر دوهميل، تاريخ الأفكار السياسية، ترجمة: خليل أحمد خليل (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1984م)، (سلسلة الدراسات التاريخية والأيدلوجية – 2، وكتاب الفكر العربي - 8)، 90 ؛ الحويري، مرجع سابق،100.
37 - سباين، مرجع سابق، ج4، 753، شوفالييه، مرجع سابق، 408، 410، 414، 417.
38 - صدقة فاضل، الفكر السياسي الغربي العلمي دراسة في الأصول والمبادئ (جدة: مكتبة مصباح، 1990م)، 64.
39 - شاتيلي، مرجع سابق، 90 ؛ شوفالييه، مرجع سابق، 408، 409.
40 -غروتويزن، مرجع سابق، 53.
41 - الموسوعة العربية العالمية، ج24، 447.
42 - فاضل، مرجع سابق، 65.
43 - غروتويزن، مرجع سابق، 45.
44 - شاتيلي، مرجع سابق، 95، شوفالييه، مرجع سابق، 424، 425.
45 - غروتويزن، مرجع سابق، 43، 45.
46 - المرجع السابق، 45 ؛ شوفالييه، مرجع سابق، 409.
47 - سترومبرج، مرجع سابق، ج2، 73.
48 - شاتيلي، مرجع سابق، 92.
49 - شوفالييه، مرجع سابق، 420.
50 - بدوي، مرجع سابق، 490
51 - شاتيلي، مرجع سابق، 92، 93.
52 - توشار، مرجع سابق، 307.
53 - شوفالييه، مرجع سابق، 426.
54 - فاضل، مرجع سابق، 61.
55 - بارنز، مرجع سابق، ج1، 230.
56 - غروتويزن، مرجع سابق، 42، 43 ؛ شاتيلي، مرجع سابق، 90، 91.
57 - الحويري، مرجع سابق، 100.
58 - سترومبرج، مرجع سابق، ج2، 73 ؛ شوفالييه، مرجع سابق، 415 ؛ الحويري، 130.
59 - شاتيلي، مرجع سابق، 95 ؛ شوفالييه، مرجع سابق، 425، 426.
60 - فاضل، مرجع سابق، 63، 64.
61- بدوي، المرجع السابق، 491.

كاتب المقال باحث في الشؤون التاريخية، وعضو جمعية تاريخ وآثار دول مجلس التعاون الخليجي.