شيء طبيعي أن يعشق كاتب أو شاعر مدينته، وأن يقيم لها ولائم وطقوسا سومرية في أعماقه احتفاءا بها. ومثل هذه الطقوس تكون بدون شك أكثر بهاءا وإشراقا حينما تكون تلك المدينة، كركوك، مدينة النار والنور والأساطير والملاحم، المدينة التي تعالت دائما مثلما تتعالى اليوم على جراحاتها عبر تاريخها لتحتفظ بطابعها الذي لا يتشابه مع أي مدينة عراقية.. ولعتزف سمفونيتها الخالدة التي تعزف على كل الأوتار والمقامات. لتظل تحتفظ بخصوصيتها الفريدة وأسرارها الباطنية التي لا يعرفها إلا من عاش في كنفها مغازلا النجوم في سمائها القرميدية التي تحمل لهيب (بابا كوركور) تلك النيران الخالدة، التي ظلت تحمل النور منذ عشرات القرون، والتي لم يستطع الطغاة والمحتلين التي توالوا على هذه المدينة الخالدة عبر تاريخها الصمود أمامها. ولى الطغاة وبقيت (باباكوركور) حارسة للحياة والبهاء في هذه المدينة.
ان العلاقة بين كركوك وأبنائها من الكتاب والشعراء تتجاوز بأميال وفراسخ تلك العلاقة الحميمة بين أي مدينة عراقية وكتابها. فارتباط الكتاب والمبدعين الكركوكيين، ارتباط من نوع آخر. نوع غير مألوف من الحب والوله والهوس. وبطبيعة الحال حجم هذه العلاقة يختلف إذا كان المبدع هو من طراز القاص المبدع جليل القيسي، الذي أبى إلا أن يبقي حبله السري متواصلا ومرتبطا بمدينته منذ عقود. حيث لا وهن،ولا شكوى، ولا تذمر. رغم مامرت وتمر به المدينة من آلام ومصاعب وويلات وتطاحن وتناحر ومحاولات الاستحواذ عليها لتنفيذ أجندات سياسية معينة. جليل القيسي الذي يقول في احد لقاءاته:
"اجل، أنا ابنكركوك. ولدت و كبرت، و عملت، وبصبر رواقي سقراطي. كتبت في هذه المدينة الناعسة الناعمة. لا يستطيع ان يفهم هذه المدينة الرائعة إلا الكركوكي الحقيقي، لأن المدينة مثل آلة كمان الغريب عنها يمتلك العزف على وتر واحد فيها حسب، بينما الابن الحقيقي لها يعزف بتلقائية على أوتارها كلها و يخرج لحناً هارمونياً جميلاً…

لقد أحببت، و مازلت، و سأبقى أحب بهوس مدينة كركوك. أحب كرده، تركمانه، اثورييوه، أرمنه، و صابئته.. عندما تعشق مدينتك عشقاً حقيقياً تفرق بسرعة آهة فيها عن آهة أخرى. ان زفرة حب مدينة كركوك تكون مثل النار.. كركوك مدينة سيمفونية من اللغات.. إنني منذ صغري أحببت كركوك و بقلبي بالفطرة عرفت شرائع هذه المدينة.. ولأن العقل مطواع قابل الميل إلى كل اتجاه، لذلك يدفعه كل شيء إلى الخطأ.. أما قلبي مع كركوك فلم ولن يخطئ معي.. أنا و كركوك (كحبتين من قشرة لوزة).. المجد لكركوك و لكل قومياته، و أطيافه"
ان حب القيسي لمدينته الأثيرة كركوك، لا يقف حائلا أمام عشقه وهوسه بالوطن وتراث أجداده من السومريين والبابليين والأكديين والآشوريين، والاحتفاظ في أعمق نقطة من ذاكرته بتفاصيل ملحمة كلكامش، التي لا يفتأ يذكرها بالتبجيل في معظم لقاءاته، كنقطة مضيئة ومتوهجة في تاريخ العراق الإنساني والحضاري.
لقد اهتم جليل القيسي قاصا وإنسانا بمملكته (مملكة الانعكاسات الضوئية)، حيث جعل كركوك مزارا للعباقرة من أحبائه، فهي المدينة التي زارها ديستوفسكي، وحل ضيفا على القيسي في إحدى أمسيات كركوك.
كان جميلا أن يأتني وسط الأخبار التي لا تحمل من الوطن إلا الانكسارات والخيبات لأحلامنا وأمانينا أخبار تزيد فضاء روحنا عتمة وتشاؤما. أن يأتيني خبر الاحتفاء بجليل القيسي مبدعا وكاتبا أصيلا، وإقامة أمسية واحتفالية تكريم لإنجازاته القصصية والمسرحية تحت اسم (يوم جليل القيسي في كركوك) من قبل جمعية الثقافة للجميع بكركوك بقاعة فندق (الديوان)، أدارها الكاتب عدنان القطب وهو من الوجوه الثقافية المعروفة. ألقيت خلالها محاضرات وبحوث عن إنجازه الثقافي المتميز. حيث ألقى الكاتب والشاعر قحطان الهرمزي بحثا عن مجموعته القصصية (معا في قارب واحد) ودراسة بعنوان (السمات الشعرية في قصص جليل القيسي القصيرة جدا). كما ألقى الباحث سنان عبدالعزيز عبدالرحيم صاحب رسالة الماجستير المعنونة (القصة القصيرة عند جليل القيسي - دراسة نفسية وفنية)، دراسة بعنوان (القصة القصيرة لدى جليل القيسي).
تخللت الأمسية عزفاً للموسيقار الأستاذ جليل الوندي لمقطوعة : عمر خوراساني للفيلسوف (أبو نصر آوزلوغ الفارابي)، وكذلك قيام الفنان ياوز فائق بتمثيل مقطع من (مملكة الأنعكاسات الضوئية / رؤية خاصة).. فيما قرأ الأديب المحامي علي شكور بياتلي بعضاً من قصصه القصيرة جداً المهداة إلى القيسي. ليلقي بعده الدكتور سامي النعيمي كلمة المشهد الثقافي في كركوك.. قبل أن يختتم الأستاذ الوندي الحفل بعزفه مجدداً للأغنية التركمانية التراثية :
قلعه نن ديبينده بير داش اولايديم
ليتني كنت حصاة في أسفل القلعة (قلعة كركوك)
وكم أسعدتني صور الأمسية، وأنا أرى ابتسامة جليل القيسي وسعادته وهو بين محبيه!
أقول كما قلت في كتابة سابقة لي (متى تزهو شوارع كركوك باسم مبدعيها ؟)، متى ستحمل شوارع كركوك شذى أسماء محبيها الأوفياء من كتابها وشعرائها ؟ ومتى ستزهو تلك الشوارع باسم جليل القيسي وفاضل العزاوي وسركون بولص وعطا ترزي باشي وغيرهم؟
أقول صدقا ان خبر الاحتفاء بجليل القيسي وتكريمه في مدينته كركوك، أسعدني حقا، وأعاد إلى ذاكرتي صورة لقائي الأول بالقيسي في مساء كركوكي آخاذ، حيث فتح لي باب بيته بتواضع الفنان المبدع، وأنا لأزال مجرد مراهق يكتب القصة، حين زرته مع صديقي العزيزين : حمزة حمامجي وإسماعيل إبراهيم اللذين كانا قد تعرفا عليه سابقا. تصرف معي في ذلك المساء بنبل وتواضع،أطلع على إحدى تجاربي القصصية الساذجة. وقرأ لنا قصته التي لم يكن قد نشرها آنذاك (أكس ديوس ماشينا)، وكأنه يريد ان يوميء لي وبدون أن يشعرني بالحرج (هكذا تكتب القصة يا بن مردان ! ).. توالت لقاءاتي معه بعد ذلك كثيرا ولم أجد عنده إلا السمو الرقي في السلوك والإبداع والتعامل اليومي مع الآخرين، والتعالي عن الصغائر.
ظل جليل القيسي بعيدا عن ولائم وزارة الإعلام في العهد البائد، وبعيدا عن مكرمات القائد الضرورة. مخلصا لإبداعه، منزويا في مملكته الضوئية يتابع الكتابة والإبداع بإصرار وجلد بصمت في مدينته كركوك. دون أن يحيد قيد أنملة عن وفائه لإبداعه وإخلاصه له. فاستحق بذلك أن تمتد شهرته إلى خارج مدينته ووطنه، محتلا مكانة رصينة ومرموقة في ذهن المثقفين العرب، دون أن يكون وراءه إلا موهبته الأصيلة التي لم تخذله قط.