كثيراً ما يتكرر في المسلسلات العربية ذلك الشرخ الواضح والجلي مابين مستوى النص وفعالية الممثل، ويعتقد البعض من العاملين في الوسط الفني أن المشاهد كائن يمكن تدجينه من خلال عملية تخدير مفتعلة تارة أوعملية فبركة غير متقنة تارة أخرى، متناسين أن المشاهد يمتلك إرثاً وتأريخاً من ذاكرة وخيال، هذا الإرث مرتبط بالقيمة الفنية التي اكتنزتها الذاكرة من خلال سلسلة أعمال فنية متألقة يتجانس فيها العمق الفكري للنص المكتوب مع ثراء شخصية الممثل الفنان، وبطبيعة الحال فان هذه الأعمال الفنية المتميزة تسهم في صوغ نظرية المشاهد الناقد والمتذوق الحاذق الذي يستطيع أن يدرك مستوى الإيصالية أو تمكنية العمل الفني من مشاكلة الواقع المحسوس بالنسبة إليه ، وبالتالي صار على المشتغلين في الوسط الفني المعني بتحرير النصوص الدرامية وأنتجتها أن يتعاملوا مع المشاهد بموضوعية أكثر تعكس جانباً من الوضوح في فهم العلاقة بين الأهداف المعلنة للعمل الفني وبين رسالته الإنسانية، وأن يبتعدوا عن ممارسة السادية في تمرير النوايا الربحية التي لاتمت بصلة لمهنة الفن وعلاقته بالحياة.

الكثير من الأعمال الفنية تُطرح من خلال منظومة نوايا حسنة وهذا بحد ذاته لايخدم فلسفة الطرح، لأن المعني في النهاية هو الذوق الفني للمشاهد، وفلسفة التجريبية في تقديم الأعمال الفنية تخضع لمعايير أدبية ونقدية واضحة ولايجب لها أن تنتهك قدسية المساحة الخاصة بالمشاهد، فالمنتج أو الممثل إذا ما فكر في طرح عملاً فنياً عليه الأخذ بعين

زينب العسكري
الإعتبار ولو بنسبة معقولة مايحدث من تفاعل في منطقة المشاهد، لأن طرح أي تطور درامي لأي شخصية محكوم بجملة انطباعات عقلانية وموضوعية، على سبيل المثال: حالة الجنون التي تصيب الفرد لايمكن أن تحدث هكذا دون مبرر منطقي، لأن الجنون فعل إختراق هائل لقدرة العقل ويحتاج إلى باعث تدميري لدفاعات المنطق كي يكون فعلاً منطقياً.

في هذه المقالة المبتسرة أود التطرق لعمل درامي تداخلت فيه عوامل الضعف والقوة في آن بحيت تداعت حسابات الربح والخسارة في كلا الجانبين، جانب القيمة الفنية وجانب القيمة التجارية، هذا العمل الدرامي قدم على شكل مسلسل تلفزيوني خلال شهر رمضان المفضل لعرض مسلسلات العائلة والمسلسلات التي تشتغل على تفعيل وطرح المضامين الإجتماعية والتربوية أكثر من سواها التي تخص جوانب الإثارة والأكشن. عنوان العمل الدرامي كان (بلا رحمة) للكاتبة والمنتجة والممثلة زينب العسكري، كنت أود أن أذكر صفة واحدة كانت قد أبدعت فيها زينب العسكري ألا وهي صفة الفنانة التي كانت بحق تليق بها دون كل الألقاب السالفة الذكر، لكن أمام اصرار زينب العسكري على تقمص مجموعة صفات أو ألقاب في أن واحد جعلني أميل إلى التخلي عن كلمة فنانة كي لا يساء تفسير مقاصدي والخلط ما بين الأدوار التي أدّتها زينب العسكري كفنانة متألقة والأخرى التي أدّتها كممثلة عادية تحاول أن ترى نجاحاتها بعيون منتجة ثريّة أو كاتبة فطرية.

قبل الخوض في تناول ملاحظاتي أود الإشارة إلى أن الجانب النصي هو ما سوف يتم تناوله في هذه المقالة، أي قصة المسلسل والنسغ التفاعلي لمجمل الشخصيات التي تحرّكت في جغرافية النص الذي كتب على شكل قصة حكائية استمدت من التقنية الدرامية وبنية السيناريو وسيلة مباشرة في تطوير الحالة الديناميكية للشخصيات التي توزعت وفق رؤية معية ضمن مساحات العمل الدرامي. لانستطيع أن نتجاهل الجهد الكبيرالمبذول في تقديم هذا العمل من ناحية الإخراج والتصوير والإنتاج إضافة إلى النوايا الطيبة التي كانت الدافع الحقيقي لتقديم هذا العمل، لكننا كمشاهين لدينا الحق في طرح ملاحظاتنا من خلال متابعتنا لحلقات العمل الدرامي طيلة أيام شهر رمضان المبارك، من الملاحظات المهمة التي برزت في دراما بلا رحمة هي حالة اللاتوازن بين مستوى القصة المكتوبة والذي أشّر حالة من الضعف والركاكة في تأثيث الشخصية وبين مستوى الأداء للممثلين والذي أشّر لحالة من الرضا والتفاعل مع طاقات خبيرة وواعدة استطاعت بحق أن تخفي الكثير من مواقع الوهن في بنية النص، ومن الإشكالات الواضحة التي برزت في تدوين الشخصية هي تلك المتصلة بالعقدة الدرامية للشخصية أو نقطة التحول في المسار الدرامي أو الحدثي للشخصية، فمن المعروف أن الشخصية أما أن تحافظ على الخط المرسوم لها من قبل المؤلف وتنمو بشكل تفاعلي إن كان سلباً أو إيجاباً وأما أن تتغيّر ضمن حالة إنقلاب درامي وتستكمل مسارها وفق الرؤية الفلسفية للنص المكتوب، أما أن تترك الشخصية تمارس حالات تحول متعددة دون أن يكون لها تأثير في عملية الطرح فهذا يشكل إرباكاً وتشويشاً غير مبرراً لدى المشاهد.

وفيما يخص هذه الملاحظة أود طرح هذا التحليل البسيط لشخصية منيرة (أم جاسم)، فالشخصية رسمت ضمن مواصفات الشخصية الضعيفة غير القادرة على فهم وتحليل ما يدور حولها إبتداءاً من إنتهازية حمود ومحاولاته في اللعب بعواطفها وإنتهاءاً بسلوكية ابنها جاسم غيرالمسؤولة تجاه نفسه وأهله، فهذه الشخصية كانت منطقية ومقنعة في تلك المرحلة حيث عكست بصدق الجو العام لشخصية المرأة الضعيفة المهزوزة، واستمرّت في هذا الخط الدرامي المتنامي سلباً حتى اصطدمت بحدثين مهمين هما موقف حمود منها وموقف جاسم، الأول مثّل عليها دور العاشق الذي ابتزّها وكشف لها وجهاً ماكانت تتمنى رؤيته، والثاني مثّل لها الخيبة الأكيدة لشعورها كأم، هنا وفي هذا الجو الدرامي كان المشاهد يتوقع زمن التحول في هذه الشخصية بعد هذين الحدثين، والمشاهد محق في توقعه، والبوادر الأولى لسلوك الشخصية بعد التحول كانت توحي بهذا بدليل أن الشخصية مارست إعترافاً واضحاً امام (فجر) وأكّدت نقطة تحولها نحو المسار الإيجابي للشخصية ومارست موقفاً مقنعاً من خلال وقوفها إلى جانب فجر ضد محاولات جاسم بالضغط عليها، ولكن الذي حدث أن هذه الشخصية عادت ومارست السلوك السلبي مرة ثانية من خلال تسترها على جريمة الإغتصاب إضافة إلى إرتكابها جناية قانونية أخرى من خلال إعتدائها على فجر، ربما أرادت الكاتبة أن تبرر هذا الفعل بدافع الدفاع عن أبنها الذي يتعذب بسبب وضعه الصحي الجديد، وتلبّست حالة من التذبذب والتردد كانت غير مفهومة بالنسبة للمشاهد ولاندري ماهي دوافع الكاتبة في تبني هكذا سلوك لمثل تلك الشخصية، وكان الأجدى تركها بضعفها وسلبيتها بعد معرفتها لحقيقة حمود وجاسم.

الملاحظة الأخرى تتعلّق بشخصية سهام (السكرتيرة)، التي مارست نفس سلوك شخصية منيرة، من خلال موقفها من خالد الذي تخلى عنها وتركها في حالة نفسية قاسية وصور الحدث على أنه نقطة تحول درامي في سلوك تلك الشخصية، لكنها عادت ومارست سلوكاً سلبياً خلافاً للسلوك المتوقع لها على اعتبار ان فجر لم تتعمد إيذائها من خلال مساعيها للإرتباط بخالد الذي فسّرته سهام حالة استحواذ وغطرسة من قبل صاحبة الشركة الثريّة.

أما شخصية جاسم التي كانت بحق محور العمل وديناميكيته، كان من الممكن أن تمرر بحالة تحول درامي حتى وان كانت في نهاية العمل دون أن تترك بلا نهاية أو نهاية غامضة، مع العلم أن شخصية جاسم كانت من أنجح شخصيات العمل الدرامي، وتفاعل معها المشاهد كثيراً وربما كانت الشخصية الوحيدة التي نجحت الكاتبة في تصميمها ضمن حدودها المنطقية، أما شخصية فجر فبكل نقاط التماسك التي بنيت بها كانت باهتة وسلبية في نهاية العمل، لأن المنطق يقول أن الخير لابد أن يهزم الشر في النهاية وليس العكس وهذه الملاحظة بحاجة إلى توضيح من قبل الكاتبة. أما دور القانون في العمل الدرامي كان دوراً هامشياً على الرغم من الفرضية التي تقول أن التلفزيون ووسائل الإعلام من أنجع الطرق وأكثرها فعالية في إيصال الرسالة الإنسانية لدور القانون والعدالة، فالكل كان غير مكترثاً بالقانون، ولم يسجل العمل أي انتصار للقانون، ودعونا نسأل : أين القانون من قضية حمود الذي يملك ماضياً ملوثاً دون أن يسبب له هذا الماضي أي مردعاً من ارتكاب حماقات جديدة مع العلم أن رجل الأمن خليفة كان على علم بذلك، كذلك موقف القانون من عملية الإغتصاب، فالحكاية مرّت دون ان نلمس استمرارً لعملية تحري واضحة. من خلال هذه الملاحظات البسيطة يؤشر خللاً واضحاً في توليف الشخصيات وتأثيثها وعكست قصة العمل الدرامي حالة من المفارقة بين الرؤية الفلسفية للنص وترجمة تلك الرؤية من خلال تصميم الشخصية، إضافة إلى إقحام قضايا كبيرة من خلال معالجة بسيطة، مثال على ذلك قضية الحجاب وما لها من أثر في حياة المجتمع خصوصاً بعد الموقف الرّافض للحجاب في أوربا، كانت الفكرة برّاقة لكنها عولجت بنوايا حسنة فقط، دور بسيط للدكتوره إيمان من خلال لقطة أو لقطتين في حين كرست لقطات كثيرة لعرض الأزياء وموديلات السيارات، وكـأن المسلسل كان مكرساً لعرض حالة الثراء التي يعيشها المجتمع الخليجي.

في الختام أقول أن المشاهد في عصر العولمة وثورة المعلومات ما عاد مشاهداً تقليدياً يستجيب لمجموعة مؤثرات فنية وأخرى عاطفية، المشاهد الآن امتلك ثقافة واسعة ورؤية موضوعية في تقييم العمل الفني حتى أن الكثير من مؤسسات الإنتاج الفني في العالم الغربي وبالتحديد في الولايات المتحدة صارت تنفق أموالاً طائلة في دراسة وتحليل توجهات المشاهد قبل التفكير في تبني عملا محدداً، والأكثر من هذا عمدت إحدى المؤسسات إلى إشراك مجموعة من المشاهدين في عمليات التصوير والإخراح، طبعاً من خلال إنطباعاتهم وليست خبراتهم الفنية، وهذا ما نود كمشاهدين عرب أن تتبنى مؤسسات الإنتاج الفني مجموعة معايير في تقييم الأعمال الفنية قبل المباشرة في إنتاجها، صحيح أن من حق أي كاتب أن يكتب مايشاء ولكن ضمن معايير فنية تخدم الفن والأدب وتعمل على تطوير وتنمية ثقافة المشاهد الفنية. عذرً للكاتبة من قسوة بعض الملاحظات وتقديري واحترامي لكل من ساهم في هذا العمل.


الدكتور عزيز التميمي (روائي عراقي مقيم في أمريكا )
[email protected]