اهداء: بُنيتي توحيد الشابندر: أهديك هذا الجهد الذي تعرفين أنه من دم قلبي، وما أهديلك إياه إلا لأنك تكدحين ليل نهار كي تطعمي غيرك... تقبلي خشوعي وحبي... أبوك
خارج واضح وداخل غامض!

كانت هناك سطور تُضاف وتُضاف... تتوالى كالسيل المنهمر... لا تتوقف...لا تنتظر... لا تسمح بالسؤال... لا تسمح بالمراجعة... تركض... تلهث بأنفاسها المتلاحقة و كأنها جريمة منفلتة من حبل المشنقة المؤكَّد... وفي الأثناء كانت هناك سطور أخرى، سطور تتعمَّق داخل المسافات المنسية بين السطور المعْلنة، تفلت من سلطة المتن الجبار لتختفي في الأعماق، تغيب عن الأنظار، تتوارى بعيدا، تمكث في غياهب المجهول الذي لا يرغب أن يكتشفه أحد.
ترى ما الذي تختزنه هذه السطور السرية؟
ترى ما الذي تحتفظ به بأنفاسها الكاتمة... بروحها الخفية؟
تتسع مديات العين... البصر يمتدد... يمتد... تتزايد الحوادث، تكبر سابقتها، تُغني لاحقتهُا، تتدافع لأجل أن تحتل مساحتها من الحظ الكوني... تزدحم... تترافق... تتداخل... تتوالى... فالبصر يمتد... ينشط... مشغول دائما، يلاحق نفَسًهُ قبل أن يلاحق مَشاهدَهُ، فلم يعد قادرا على متابعة هذه السيل الهائل من الصور.. من الأحداث... من الوقائع...
ولكن كانت هناك حركة تتمحور في الداخل، مَشاهد تتوارى عن الأنظار بخفة مثيرة للجدل، مشاهد وفية لسرها العتيد، تحرص على أن تحمي هذا السر بدمها، بكل ما تملك من وجود
تتسع مديات الأُذن... السمع يمتد... يمتد... الأصوات تنهال من كل مكان، من كل صوب، ملحمة صوتية مرعبة، يضطر حتى الصخر لسماعها، تحفر في الحديد، تهز الذاكرة، تُحوِّل السماع إلى استماع، وتنشد شهوة بقائها بسحر الكلمة، بسحر الشعر، بسحر المروي سرا وعلنا.
وفي الأثناء تواصل تلكم السطور استقرارها بعيدا، في باطن النص، هناك تواصل كفاحها من أجل الهروب بعيدا، الهروب هو غايتها، السر يمضي بنفسه في داخل ملكوته الغامض الرهيب.
كان هناك انتشار رهيب على السطح، حقائق تتلوها حقائق، ووقائع تلحقها وقائع، أحداث تخلفها أحداث، حركة مشفوعة بحب نفسها، بعشق موضوعاتها، تغالب الراصد، وتتحايل على المشاهد، وتخدع كل من يريد حصرها أو إحصائها...
هذا الانتشار المذهل على السطح، يوازيه تكثف هو الآخر مذهل في الأعماق، حركتان متعاكستان، خارج وداخل، كلما تكثر الأحداث الخارجية (تتكوثر) كلمات في الأغوار، كلما تتسع المديات الحسية، تتمركز المديات الروحية، كلما تنتشر المقتربات في الظاهر، تتمحور كلمات في طي المرئي، في طي المسموع!!
كان هناك الحب، والوفاق، والعفة، والدبلوماسية، والوطنية، والصداقة، والحكمة، والنصيحة، والتشاور، والوفاء، والشرف، والسلام، والطهر، والوداعة، والبتولية، ولكن كان هناك أيضا الحقد، والقطيعة، والحيلة، والخيانة، والعداء، والمكيدة، والتأمر، والنذالة، والعهر...
ذاك على السطح...
وذاك في العمق...
هل هما منظومتان متوازيتان؟
لا!
وهنا يتجلى سر الحركة الرائعة المدهشة في (هاملت)!
لم يكن هناك حب بموازاة كره، ولم يكن هناك شرف بموازاة نذالة، ولم تكن هناك نصيحة بموازاة مكيدة، ولم يكن هناك سلام بموازاة حرب، ولم تكن هناك عفة بموازاة زنا، ولم تكن هناك وطنية بموازاة خيانة،ولم يكن هناك يقين بموازاة شك.
تلك معادلة ساذجة ولا تؤسس لنص مثير...
كان هناك الحب الذي ينطوي على ضده، والشرف الذي يختزن خرابه، والنصيحة التي تحتضن ما ينفيها، والحكمة التي تشكو من مشاكس يربض في جوفها، والوطنية التي يتخمر في داخلها العداء لكل ما هو وطني، واليقين الذي يتلوى من قسوة الشك.
تلك هي المعادلة...
كان شكسبير يريد أن يعرض لنا الإنسان بكل تعقيداته، بكل جنونه، بكل تناقضاته، كان يريد أن يقول لنا أن هذا المخلوق عصي على التفسير ــ سوف نأتي على بيان جوهر المشكلة الإنسانية في هاملت ـــ
لم تمارس الخيانة عملية إزاحة، بل كانت تهرش بقسوة وحقد مملكة الوفاء، كانت تمارس عملية تهشيم، كانت جرثومة تقيح بصديدها الكريه نبض الحب... حسد الحب...
لم تتسابق النذالة مع نقيضها، بل كانت تعشش بسرٍ خفي في قلب الشرف العتيد، كانت تتغذى على نسيجه، على بذوره، على كل مكوناته، تتغذى بهدوء شرس، مميت.
كان السطح مجرد سطح!
أين مصير تلك العلاقة الحميمة بين العم وابن الأخ؟
لقد انهارت كل قيم المسيحية في لحظة واحدة، ولكنها اللحظة التي تمخضت عن مسيرة طويلة معقدة، مضنية، فلم تكن تلك النزوة بنت ساعتها، بل هي القشة التي قصمت ظهر البعير، لقد أدخلت المسيحية هذه العلاقة العتيدة في نظام تعليمها المتأصل، بحيث يرفض غريزيا أن يغزوه حتى الاستثناء مهما كان ضروريا.
أين كان مصير تلك العلاقة الحميمة، الصادقة، الحارة بين هاملت والصديقين العزيزين؟
لقد انهار كل ذلك التاريخ بلحظة واحدة، من كونهما محل ثقة لا تتزعزع، من كونهما مأمن السر، وملجأ الهم، وحفيظة ا لمخفي، إلى جاسوسين يعملان على تهديم الأخلاقية التي كانت سمة ذلك الشاب الجميل، الخجول، الوفي، الذائب في فورة أحلامه المراهقة الطهورية؟
أين هو مصير ذلك الحب النقي، الحب الذي تلامسه يد الله في كل لحظة؟
لقد تغلغل النسيان إلى صلب هذا الحب، وهناك بدأ يفتت هذا الصلب، يحلل ذراته الجميلة بدأب لعين، يذيب روحه في غيبوبة التاريخ (اذهبي وتبتلي) من وضوح الشمس إلى ظلام الثقوب السوداء!
أين هي الدانمارك، الدانمارك التي تساوي العالم كله؟
كان في الأعماق الخفية موت، موت ينمو برعب، يزحف بخلاياه الجدباء على مراعي خضرائها، على مروج روحها النشطة، كان هناك موت يتربص بكل ذرة في جسدها الطري، المنعش، المتأوه بشهوة الخلود، كان هناك ماء آسن يبدو وكأنه طيف الحياة الأبدية، فيما هو سموم تنتشر في شرايين الجسد الجميل (أن الدنمارك ليست سوى سجن كبير)...
الخارج كان جميلا...
الداخل كان قبيحا...
هناك جمال شكلي، ظاهري، وهناك قبح حقيقي، شر متأصل، وكانت الغلبة للداخل على الخارج، هل كان النص يريد أن يقنعنا بأن العالم زيف؟ والحياة مجرد ظاهر خادع؟ والتاريخ يتأسس بالخدع والحيلة والسرية وليس بالعلن والشرف والأماني الطيبة؟ والأخلاق بمثابة لحظات تأتي وقت الحاجة العابرة، ثم تختفي في غياهب الغريزة، وعتمة الذات؟
خارطة الرموز النافية للعالم
كان (هاملت) نموذجا كليَِّا... هو الإنسان... بكل تناقضاته ومكوناته ومفارقاته...
كانت الدانمارك هي العالم... هذا العالم الذي نلمسه ونشمه ونتذوقه... عالم محسوس الجمال معقول الخراب، محسوس البهاء معقول الظلمة!!
وكان الشبح هو المعرفة... معرفتنا عن الكون والحياة والإنسان... المعرفة التي ظاهرها وضوح فيما داخلها غموض وإبهام...
وكان العم الزاني الغاشم... هو الشهوة العارمة، الشهوة الخائنة... الجانب المظلم من التكوين الإنساني.
وكانت اولوفيا هي البراءة المذبوحة... البراءة التي لم تنتصر ولا لحظة يتيمة في هذا العالم التعس...
وكانت الأم هي الوعد الكاذب، الوعد الذي نحلم بحضنه، وحنانه، ورحمته، وشفقته، وحبه... فيما هو في عالم آخر... في دنيا أخرى... لم نخطر في فكره الجاد... أبدا... لحظة واحدة... واحدة... بددت كل هذا الوهم... كل هذا التصور الجميل.
وكان (هوراشيو) كذبة الفن ليس إلا ّ... كان صنيعة الخيال وليس له من الواقع نصيب...
وكان حفارا القبور رواة الحقيقة الباطنية للحياة...
وكان (بولونيوس) مثال نموذجي على اتحاد الشعور واللاشعور، كلاهما تذاوبا معا (وسوف أحرص على تحليل هذه الشخصية فيما أنعم على الألم اللعين بساعة مريحة، ساعة فقط...).
وكان (ليارتيوس) بمثابة السذاجة التي أعارت مصيرها للقدر بدون مقدمات...
وكان السيف هو الموت العلني...
وكان السم هو الموت الخفي...
وكان الصديقان الظاهر الخادع من الحياة المتقيحة أصلا...
وكان الجنون المتصنَّع احتقارا للوعي... نفي للوعي، نفي لم يحس بحقيقته حتى حامله!
وكان برنادو وفرانسيسكو ومارسيلاس (الحراس الثلاثة) إشارة إلى الوجود العابر، يأتي ويمر دون أن يحس به أحد... دور على قارعة الطريق...
وكان ريندالو العين العواء للوجود... ألم يكن جاسوس الأب على الابن؟ ألم يكن آلية تبرير رخيصة، على حساب حقيقة واضحة لدية كوضوح الشمس في رابعة النهار؟
وكان ملك النرويج (فورتنبارس) إعلان عن الانتصار النهائي للقوة والقوة وحسب.
وكان موكب الجثث الملاصقة رمز الملحمة البطولية للموت.
وكان الممثلون خدعة مركبة... كذبة متلبسة بكذبة... زوراً يستبطنه زور أقذر... مجا ز مصطنع، لا تجيزه الطبيعة، وترفضه الأخلاق،
وكان السفيران مجرد وعاء فارغ جاهز للامتلاء بأي رغبة، حتى لو تمخضت عن قتل العالم كله.
وكان القس الأول ناقوس الموت الأبدي.
والآن... من هو هاملت؟
أنه كل هؤلاء...
أنه كل هؤلاء... كلهم مجتمعين... كلهم متداخلين... متفاعلين... لقد قام شكسبير بعملية تشقيق لهاملت، فسَّخه بقلمه المشتق من الموت، قطَّعه بسكينه المُعَار من العدم، شطَّره بشفرته المصنوعة من طينة الأسرار القذرة، مزّقه برمحه المُستل من زفرة الحياة...
لم يكن هاملت شخصية مُفترضة، بل هو البطل، بطل الواقع، وبطل النص، وكان الآخرون هم المجاز، هم الافتراض، كل منهم بطل في نص، سراب في الواقع...
ليست المشكلة هي مشكلة هوراشيو، ولا مشكلة أوليفيا، ولا مشكلة رينادلو... بل هي مشكلة هاملت بالذات، فأولئك كانوا أسماء، أما هو فـ (فعل)...
لقد قُتل هاملت سرا وعلنا... قُتِل بالسم وقُتِل بالسيف.. قتله العدو بالسم وقتل نفسه بالسيف... كان ترجمة للحياة بباطنها القبيح ومظهرها الجميل... قتلوه انتقاما، وقتل نفسه خلاصا...
ألا يعني هذا أن هاملت هو خلاصة الإنسان، الإنسان بكل ما يحوي من تناقضات ومفارقات وصراع وعنف وشهوة وحب وقدسية وملكوت وجبروت ويأس وأمل...؟
ولكن أين هي مشكلة هاملت؟
أهي حقا تلك الشهوة العارمة المضطرمة؟
أم هي الصراع من آجل القوة والمنفعة؟
أم هي المواجهة الحتمية بين الأخلاق والقوة؟
أم هي معضلة التناقض بين الفكر والممارسة؟
أم هي هذه المسافة الخارقة بين الفكر والشجاعة؟
في حلقة مقبلة نتناول سر الإشكالية، وعلى سنة الترجيح، عسى الآلام تسمح...