وعي على ذكرياتي(10)

الفرات الذهبي- السويد 1998

اليوم الثالث ولا يزال نديف quot; الثلج الاسود quot; يهبط دون انقطاع ورحمة.
تقترب بوجل لتطل من النافذة فتتراءى الشوارع المقفرة التي انمسحت واختفت خطوطها ومعالمها.
هنا وهناك تدور دوامات بيضاء صافرة وهي ترفع في لفائفها آخر اوراق الخريف.

الحلقات السابقة

تنحسر، تبين، ثم تغيب تماما تعرجات الازقة الجانبية واشباح من بقع الجدران المواجهة.
تختض وتسري قشعريرة برد رغم انك تكاد تتعرق من لفح صفائح التدفئة المشعة القريبة.
فزع ورهبة..
هذا هو الجحيم !!
النار..شعلتها.. حرارتها.. زهو الوانها..اللهب الراقص بأذرع النور..
النارقبس الحياة.
الثلج..الالوان..بيداء البياض المقفرة..برد انطفاء القبس..وحشة صمت اللون..
الموت ثلج.
الثلج جحيم.
من بعيد.. بغصة الالم الطافي الى سطح الذاكرة، تتصاعد التماعات ذلك الضوء المنهمر بسخاء من نوافذ السماء المشرعة..
يا لنِعم َ ونعيم تموز..
يا لشوق لهبه الحارق..
يا نعمة الفيء الندية عند شواطيء غابات نخيله..
يا لفرات تموز الذهبي..
يا جذل البواسق..
يا خيم سعفه الظليل..
يا لشواطيء كوفته الذهبية..
يا لروعة حصيرة الظلال والنور بين جذوعك الرشيقة في بساتين ( أم الذهب ).. بساتين الشيخ الكريم، اريحي القلب والخلق باقر الجواهري.
يا لنا، نحن صِبية وصبايا،
..يا لعبثنا الفوضوي المرح
عند حواشي البستان..
على الغِريـََن الذهبي .

* * *
تتحرك الهوينا تجاه الطاولة المهملة الوسيعة المفروشة بعلب الالوان وانابيبه..
غوانيك الضامرة التي كادت تجف من الجفوة والهجران الطويل.
تقف بخشية..تتردد
امامهن.. تحن.
..يسري دفء في عروقك..
تمد يدك فترفع الحاملة الخشبية المتربة..
تسندها برفق..
تفتح ساقيها..
يزداد حماسك وانت تتاملها منتصبة رشيقة امامك.
تختار لوحا عريضا لتحتضنه الحاملة الخشبية.
يفوح من جديد عطر زيت الكتان الزكي وانت تهصر الانابيب الزيتية..
تتلامع اسطوانات الالوان الملتوية الطرية فوق تراكمات وبقع لونية قديمة متيبسة تداخلت حواشيها المغبرة فوق صفيحة الخلط.
تغمد مجموعة مختلفة الاحجام والسطوح في قبضتك اليسرى.
.. شيئا فشيئا تبين وتتوضح وتتسامق جذوع النخيل.
.ينغلق الشط الذهبي المتلامع بامواجه حول الجزيرة المفيئة بخيمة السعف المفروش..
..تفوح رائحة الطلع.
اسمع كركرة الصبايا العابثات.
اسبح في تيار من الماء والبهجة والنور.
يتدفق النهر الوسيع من حاشية اللوح العريض.
يجرف بتياره كل رواسب الروح المهترئة.
تمتليء حنجرتك بغصة.
يتغرغر صوتك بحسرة متصاعدة.
تهرع الى باب الشرفة.
تفتحها.
تقتحمك الريح الباردة.
تقتحمها.
تخرج فارعا صدرك الاعزل.
.. تتحدى زوبعة الجحيم الابيض.
يغمر الدفء حضيض اعماقك.
ترفع وجهك صوب السماء المغلفة بنديف الجحيم.
تصرخ مطالبا..
مطالبا لا سائلا !!، فسحة قصيرة اخرى من العمر.

***

إي وعيش ٍ مضى عليك بهي ِّ وشعاع ٍ من شطـّكَ الذهبي ِّ
والتفاف النخيل ِ حولك حتى لوتقصّيتَ لم تجد غير فيِّ
وانبساط ُ السفح ِ الذي زاحمته ُ د َفعات ٌ من موجك َ الثوري ِّ
وسنا الشمس حين مجـّتْ لعابا أرسلته ُ من نورها الكسروي ِّ
فتخالُ الضياء ndash;ُوالماء ٌ موجٌ في رواح ٍ من جانب ٍ ومجيِّ
كخيوطٍ من فضة ٍ بتن َطوع الر يح ِ بين الشمال ِ والشــرقي ِّ
وابتسامِ البدرِ المطل ِّ اذا ما باتَ يجلو الدُجى بوجه ٍ وضي ِّ
يا فراتي وهل يحاكيك نهرٌ في جمال ِ الضُحى وبردِ العشيِّ

(الجواهري 1924)