عبد الله كرمون من باريس: جاء الجميع ليلقوا نظرة تأمل على صور روبير دوانو (جونتييي1912/باريس1994) في المعرض الذي خصصت له بلدية باريس هذه الأيام، كي يقفوا قليلا على ذلك الخفاء المتربص الذي استنفد الرجل كل إمكاناته. ليس يخفى على أحد كون دوانو هذا من كبار الفوتوغرافيين الفرنسيين المعروفين في القرن العشرين. إنه لا يختلف كثيرا في فنه عن كثير من مجايليه (المندرجين داخل ما أطلق عليه المدرسة الإنسانية في التصوير) خاصة منهم ويليس رونيس، وإن في بعض استيفاء ذكاء في العين وفي تركيباته المصنوعة، إذ يشتركان معا في حب غادة وحيدة: باريس! لقد تم تكريم ويليس رونيس في خريف العام الماضي وها قد جاء دور دوانو، في الموازاة مع معرض جيد للرسام الكاريكاتوري جان كابي أو k-bu هو نفسه المولع بباريس، غير أن معرض دوانو على جماله صغير وتنتهي زيارته، قد أقول، في خطف البصر.
فمنذ بداية الثلاثينيات ودوانو يصطاد لحظات الزمن التي ليست تبقى لو لم يعدنا برؤيتها مذ أخذ مصورته الأولى وبدأ خلق العالم، عالمه الذي يحب، مؤسسا، بطريقته، لهندسة مدينته التي يعشق أكثر: باريس.

حدائق وتماثيل باريس:
تبدو الحدائق، على انفتاحها على العموم، مكانا مخبوءا، إذ يتيسر لأحد ما أن يقبض ثمة على حصته من لذات وانزواء بل فقط مجرد تأمل هنالك أو تسر وتنزه. ليس أجمل من صور حديقة لي تويلغي، ثمة حيث نرى في صورة جانبا خلفيا منها حيث يلتصق كرسيان وحيدان إلى عدم غياب باد، كان من جلس ثمة قبل لحظات ومضى بعد أن فاوض أمرا أو أعلن حبا بل قد يكون اللذان جلسا ثمة قد وقفا لحظتها على جبروت سر ما وانتقلا إلى أمور أخرى. وكانت الصورة التي تعود إلى بداية خمسينيات القرن الماضي في تلك الباريس التي بدأت للتو تسعى على قدمين وتفيض بكثير من تباشير.
في صورة أخرى، تماثيل في الحديقة، وأربع مروحات(حرب) تطير في علوها. ليست تقدر التماثيل أن ترفع قط أعينها كي تتأملها، إذ لم يكن بمقدورها حتى أن تسمع هديرها. النتوء الصلصالي هو إذن في مكانه وللمروحات مهام أخرى، قد تكون استباقا أكيدا لصناعة تماثيل أخرى!
في نفس الحديقة، ولصق نفس التماثيل، صبايا قد تفتقت صدورهن عن ارتفاع ما ليس يدرك له سر بعد، نراهن يحمن بتمثال أنثوي، إحدى الصبيات (مثل لوليتا) لم يكن بوسعها أن تمر ثمة دون أن تقرص بأصبعها حلمة ثدي التمثال، بل تدعها قليلا في يدها ودوانو يأخذ الصورة دون أن يقع كسوف جبار لعينيه!
للحمام ملاذ حميمي على صخر التماثيل، لها كلها أجمل ملاذ في قرارة عين دوانو وفي صوره الجميلة فيما بعد. الحمام غريب أنه رمز الحرية، غريب إذ ليس سوى حيوانا كسولا ليس يتمرغ سوى في بقايا الآخرين. التماثيل التي أخذها دوانو في صوره ليس يدعها الحمام. لقد لطخ الوجه الطفولي لشخص وضع له التمثال من أجل تكريم وليس قط لأن يحدث له قاسيا ذلك الذم: بزاق الحمام ويتكلل بذلك الخبث الكريه. غير أن ثمة حمامة تعرش على عضو التمثال ويسميها دوانو بجمالية قصوى وذلك في بداية الخمسينيات أيضا: نشيد الرحيل!
إذا كان ويليس رونيس معروفا بقبلة الباستيل فإن دوانو بدوره معروف كذلك بقبلة بلدية باريس، تلك القبل المخطوفة عرضا في الشارع. غير أن باريس في الليل وخاصة لما يتحول نهر السين إلى ثعبان ليلي حسب صورة جميلة يعنونها دوانو كذلك.
أمام تصميم لميترو الخطوط الباريسية يأخذ دوانو من الخلف راهبتان تنظران إلى التصميم على مقربة من محطة سيفر بابيلون. وفي مكان آخر وبالضبط في بيرسي تجد قطط كثيرة حريتها في عرض الشارع وكأنها تقترف هي أيضا مشاكسات الصبيان التي التقط دوانو صورة منها وأطلق عليها اسم الجرس حيث يطرقون بابا فجأة ويركضون هاربين في مرح تام.
وبغض النظر عن صور شخصيات معروفة أمثال رايمون كينو، مرغريت ديراس، سيمون دي بوفوار وبيكاسو وغيرهم. فإن دوانو سعى إلى صناعة فوتوغرافية مخالفة، مثلما يكتشف الزائر ذلك في صورته عن سكن كراء، تلك التي عرضها لأول مرة في متحف فنون الديكور سنة 1965.
أكثر الصور شاعرية وإثارة للدهشة تلك التي أخذت على جانب واجهة محل رومي في 15 زقاق السين، الصور التي التقطها سنة 1948، إذ تم وضع فخ خادع للمارة، صورة امرأة عارية، وظل ثمة دوانو يأخذ صور ملامح المارة إذ يتلكئون قدام ذلك الطعم الأخاذ. صور رائعة تستحق أن نتملى جمالها.
رجل آخر يقف أمام محل جزار، في الصورة رأس عجل معلق والزبون ماثل ثمة وتحمل الصورة عنوان: البريء!
تأملات أخرى وشغف بباريس وناسها في ذكرى روبير دوانو.