الجواهري وعي على ذاكرتي (11)

لقد أ َسرى بي َّ ألاجـَل ُ وطـول ُ مـَسـيرَة ٍ مـَلل ٌ
وطول ُ مسيرة ٍ من دو ن ِ غاي ّ ٍ مـَطمحٌ خَجـِل ُ

ها انت تذرع بخطاك، وعلى غير هدى، أزقة ودروب quot;مدينة النورquot;..لاترى quot;النورquot; وتنحجب عن ابصارك القباب الذهبية واطواق الجسور الفارهة، وتمر دون ان تلحظ او تسمع التفاف العشاق على بعضهم وهمسهم المحموم وهم ينزوون في اركان نصف مظلمة من ارصفة ضفاف السين.
تمر دون اكتراث بتلك الكنيسة القوطية الشهيرة غير عابيء، لا بابراجها واجراسها المتعالية، ولا ملائكتها اللائذين في حمى جدرانها الرخامية المزخرفة، حتى ولا بشياطينها بألسنتهم المدلوقة وهم يجحظون من عل ٍ بأحداقهم الحجرية الوسيعة، مادّين بأجسامهم ، مطلين ومتحفزبن للقفز من اعمدتهم على افواج السواح المارين بصخب مرح تحت عرائش حدائقها الجانبية.
تظل تتسكع دون ان تنتبه الى ان قرص الشمس الملتهب بالارجوان قد أختلطت الوانه ببريق قبة ضريح نابليون لتخترقها بخشوع، وربما لتنام تحت رخام قبره عارية بعد ان تركت اوشحتها البنفسجية الزرقاء تسبح في الفضاء المحيط بالقبة الذهبية.
تهبط الظلمة فتواصل ضياعك في الازقة الملتوية.
..الليل طويل منهك.
تعود متعبا، مُحبطا، خائبا، الى غرفتك الصغيرة..
تستعد لليلة أرق اخرى.
تفرش احداقك..
تمر منصات الليل عبر محاجر زجاج النافذة العاتمة.
تتخطاك المنصـّات الحالكة دون ان تنطبق عيناك.
بحار سماوية من غيوم تتفاوت شفافيتها و تتشرب بالوان بنفسجية وزرقاء كابية ..

الحلقات السابقة
تتصاعد من قرارات سحيقة ابخرة واوشحة ضباب رمادية متدرجة العتمة..
يتراءى شبح ظلال لقارب ينساب بصمت منحدرا ببطء ومخترقا امواج وسـُـتر البحر الذي يبدو اني اخو ّض فيه اوأهيم على شطئانه.
القارب صغير.. صاريتة محطـّّمة.. شراعه ممزق مشرشر..
معالم ضبابية لشخص يقف فوق مقدمة القارب وكأنه يريد ان يسبق القارب للوصول في انحداره الى شاطئه ..
تتوضح المعالم اكثر..
انه انت يا ابي..
يا لله انت!..انت ثيابك بالية ممزقة ؟!
أنت ضاو ٍ، منهك، منكس الرأس بالهمّ..مخذولا أنت يا ابي ؟!!
لم اعرفك مخذولا!
أسألك دون صوت..
صامت انت لا تجيب..
الالم يهتصر قلبي
أخوض تجاهك في الضباب..
افتح عينيّ على الظلمة ..
ظلمة وصمت
تلتمع الظلمة
ينعكس الصمت
اسبح في السكينة.
مرحبا بك..
اطباقة وسن عابرة ثمينة حملتك على جفني ّ
..تعال فضفض همومك في صدري.
كرهتَ المنافي؟ ..ضقـت َ ذرعا بها؟
يا لقهر المنفى!
يا للعنة البعد !
يا لوحشة العدم !
..يا لصمت منفاك!

* * *
تنهض عند الفجر..
تنصب ستارة قماشك فوق الحاملة الخشبية..
تعامل مساحاتها البيضاء بانفعال وتوتر..
لا تحس بمسالك الضوء الكابي وهو يدخل نوافذك بخجل ، ولا بحزم النورالمتلامعة بعده وهي تتسلل ثم تخترق بعناد زجاج النافذة.
تتوقف لحظة وتنظر..
تتملـّى بأمعان المساحة التي كانت قماشا.
ها انت امام الجواهري في تسعينياته فارشا حدقتيه الوسيعتين عبر منصات الليل العابرة..
تسمع هديله الشجي الحزين :

فرّ ليلي من يد ِ الظـُلـَم ِ
وتخطـّاني .. ولم أ َنم ِ

ها انت تراه بعد سنين من النأي..
وأي نأي ..نأي العدم !
..كم انت قريب!
تحسـّه كأقرب ما يكون القرب بكبريائه ورقته وحزنه الكامن العميق..
ها هو يرغب في مسامرتك انت لا ليل الابدية الموحش..
يركن اليك بعد تعب السهاد الممض عبر مسيرته الطويلة في بحار الظلمات.
أيها الحبيب! كم حطام سفينة ركبت؟
كم شراعا مزقت؟
اية اهوال كابدت كي تصل الي ّ؟
..يتدفق الشوق.
يتصاعد ألم مر ممض.
تختنق حنجرتك بغصة خانقة.
تسيل بصمت دموعك.
حسرتك تتصاعد.
يتغرغر صوتك.
تسرع لتفتح ظلفتي الشباك..
ترفع وجهك صوب السماء..
..تنشج نشيج رجل عزّ طويلا عليه البكاء..
تحد ّق في زرقة العدم متسائلا.


*****
مرحبا ً يا ايها الارق ُ
فحمة الديجور تحترق ُ
والنجوم الزهر تفترق ُ
فيجر السابحَ َ الغرق ُ

شف ّ ثوب ٌ للدجى خـَلـِـق ُ
وخلا من لؤلؤ ٍ طــبــقُ
ومشى صبح ٌ على خدرِ
كغريب ٍ آب َ من سـَفـَر ِ
***
فرّ َ لـَيلي من يد ِِ الظـُلـَم ِ
وتخطاني ولـم أنـَم َ
كلما أَوغلتُ في حـُلمي
خـِلتـُني أهوى على صنم ِ
يستمد ُّ الوحي َ من ألمي
ويبث ُ الروح َ في قلمي
آه يا أحبولة َ الفكـَر
كم هفا طير ٌ ولم يطـِـرِِ

***
مرحبا ً يا ايــها الأرق ٌ
فـُرِشت أ ُنساً لك َ الحدَق
لك َ من عيني ّ منطلق ٌ
إذ عيون الناس تنطبق
لك زاد ٌ عندي القلق ُ
واليراع ُ النضو ُ والورقُُ
ورؤى ً في حانة ِ القدر ِ
عـُتـّقت خمرا ً لمعتصـرِ
الجواهري 1962