ما الجديد الذي تضيفه الشاعرة الفلسطينية فانتة الغُرّة، في مجموعتها الثانية، التي صدرت عن دار الحضارة العربية بمصر، بعنوان: quot;امرأة مشاغبة جداquot;، ووقعت في 96 صفحة من القطع المتوسط. وقد جاورت الشاعرة بين قصائد التفعيلة، والنتف الحرة. لعلّنا نجد الجدّة في العنوان، والذي نبدأ معالجته بالتساؤل عن طبيعة الشغب، أو عن شعرية الشغب: ما الذي دعا الشاعرة للإخبار عن ذاتها بأنها مشاغبة جدّا؟ ثم إن عنوانا كهذا ينطوي على إثارة جمالية تدفعنا للتعرف على هذه المرأة. كما ينطوي على دعوة للاحتراس من مشاغبتها. ولكنّ دعوة كهذه تتراجع عن الإصدار المسبق، وتتقدم بدعم من مفتتح المجموعة الجميل: quot; أنا هنا، فمن تلك التي ترقد في المرآة quot;.
أما الشغب، فيسلك مسارًا إلى طفولة المرأة، هناك تنهض وتشاكس بعفوية. ولكن يردّها، من جديد، المسار ذاته، إلى هنا. حيث شغبها، الآن، حالات من الصخب والضجة داخلها. هي تقول أن سبب الصخب ناتج عن امتصاصها لـ quot;هدير السيارات quot;. ولكنها، وهذا توضحه القصائد، تتحدّث عن quot; فوضاها التي تخصّها وحدها، وعن جنون فيها يزعج اللغات المنقرضة quot;، فمثل هذا القول كناية عن بلاغة الشغب التي تسمع القاصي قبل الداني.
وقبل المضي قدما، نشير إلى حالة الحنين الجارف لأخ غائب أو مفقود. هي تشتهي رجعة الأخ الكبير، لتعود طفلة تضحك وتغمز وتتدلع وتشاغب في حضوره. بدا ذلك في أول قصيدة، حملت عنوان: quot; تفاصيل ذات معنى.. أو لا يهم quot; وقد عنيت بتقديم مثل هذا الحنين، أولا، على أنواعه الأخرى. ولكنها، في النصّ الثاني: quot; أريدكَ حيّا quot; سوف تستبدل الأخ الغائب بالرجل المخلّص الذي تريده حيّا، ليوقظ فيها الأنوثة. كي تكون، فعلا، هي العنقاء. ولأن الأخ والحبيب لم يأتيا، لغاية الساعة ؛ سيبدّل العنوان نفسَه ليصبح القول الملائم: quot; إمرأة مرهقة جدا quot; تصرخ:
quot;تعب أنا
كَرْمان من عنبٍ ونار
بضع تينات وجمر
غجرية تلهو بقط مفترس quot;.
ولعلّ هذه الذروة المهجورة، هي السبب في خيبة رجائها من الرجال فاقدي النخوة. الأمر الذي جعلها تتولى حمل السيف، لا كما عرفته عيونها رمزًا أو طريقا مطليّا بالزبذة و المربّي ؛ ولكنه السيف الذي ستثأر به. وهنا ستبدو امرأة شرسة جدًا، تفعل في قصيدة quot; شرف quot; ما فعله هند بنت عتبة: quot; تأكل كبدهم نيّا quot;. فندرك أنها حالة من الهذيان الذي يخلط شرف الوطن ونخوة الرجال، بكبت المرأة وحاجتها للحبيب الذي إن لم يأت ستمارس حبها له وانتقامها منه على الورق، وتفترس في معيته الرجال. وليس بعيدا عن مشهد الافتراس هذا، نجدها في القصيدة الهاذية ذاتها، تنقلب زليخة، تقول لمن شغفها حبّا في المخيلة: quot; هيت لك quot;. ويتضح شغفها وشبقها أكثر في قصيدة: quot; إمرأة مشاغبة جدا quot;، التي تقول فيها: quot; عندما قلت لا أحبّ الرجال قطعت النسوة عينيّ / وعندما قلت أحبهم اقتلعن لساني / أي ضجة تلك التي أثيرها / أي فوضى داخلي وأي فوضى تلك التي تعوي خارج العباءة quot;. وبالرغم من اقتلاع النسوة للسانها، تحدث المعجزة عندما تستعيد لسانها وتشتم به الذين تحتاجهم: quot; كل الرجال حمقى.. أو أغبياء quot;. تشتمهم جميعا إلا واحدًا تأثرت به منذ بداية قصيدتها quot; شرف quot;. هو درويش الذي quot; يختاره الإيقاع ويَشرق به quot;. إذ سلكت على خطاه الإيقاعية والإعلامية تقول: quot; يختارنا العنوان تنقلنا محطات الإذاعة نحتسي شايا ونسكت أو ننام quot;. وهكذا تمضى المشاغبة جدّا، تمتصّ صخب الموضوع الفلسطيني، وتفرّغ أو تسقط ما نضج فيها من عنب ونار وتين وجمر على البلاد التي تفتقد نخوة الرجال.. وتتساءل: quot; لماذا يرقد الشجر العاري في مخيلتي كعصفور أجوف؟ quot;.

بقي أن أضيف أن ما يرد على لسان أي امرأة مشاغبة أو مناهضة جدا، من عبارات ضدّ الرجال مثل: quot;أنا امرأة مرهقة من كنس الرجالquot;؛ لا يعبر عن موقف، بقدر ما هو اعتراف بحالات حب وقتية تقتضي استجماعهم في مخيلتها، ولن يسلّيها ذلك، بقدر ما سيشغل خلاياها، ويربي لها صداع الاشتهاء. لنتأمل، إذا، هذا التعريف:
quot;الحب حالة وقتية تسكن خلاياي
جميل هذا الصداع quot;.
ولأكثر من مرة، تبدأ نتفها بـ quot; الأنا quot; الجسدية:
quot;أنا امرأة ولست نبيّة
فاعذر الماء إن غافلته قدماي وعبرت quot;...
quot;أنا ثملة حد الصرع
وأنت صريع..
حد اشتهاء الموانئ quot;.