مهرجان خيمة علي بن غذاهم الـ12

أوتادها القصائد وخطّارها العصافير

هاني نديم من تونس: كيف أنحاز للصحافي في تغطية مثل هذا الخبر الشعري بامتياز، خاصة وأني كنت أحد الشعراء المشاركين فيه؟!. حسنٌ لن أفعل!. أول ما فكّرت به، أنه عليّ أن أتخلص من عُقدة التاريخ التي تتربص بي في كل مرة أحزم فيها أمتعتي وأنفش الخوافي والقوادم واستعد لصوبٍ ما!. علي أن أستمتع.. فكرت!... خمس ساعات طيران من رياض (الأعشى) إلى حجاز (كثيّر عزة)، فتونس (الشابي) ..... خمس ساعات من تحليق الجسد وآلاف الأعوام من تحليق الروح؛ روح ذلك الأموي، يتحسّس رباط خيله المحمومة ويسأل كم تبعد قيروان جدّه عقبة!. وكعادتي في الطائرة ..أحببت المضيفة وطلبت قهوة .. ودخّنت في التواليت!..لاحقت العصافير التي فزّت من قسماتي وأنا أتهجّى وجه الأحبة، لم آبه بزئبقية الأفكار وانزلاق خيالاتي دون معنىً وأهمية.. سألت نفسي: هل لهذا علاقة بنظرية بارلو quot;خارج وداخل العربةquot; ؟!.

وصلت قرطاج أو المدينة الجديدة (قرت حدشت) باللغة الفينيقية قبل يومين من افتتاح المهرجان، الموافق عيد الأم وعيد الشعر ويوم النيروز ورأس السنة
مجموعة من المثقفين المشاركين في المهرجان
الكردية ونهاية حرب الزنج ومقتل بابك الخرمي وعيد الصابئة وموت نزار قباني ويوم الانقلاب الربيعي وميلاد الأرض وعيد ميلاد صديقتي السمراء جمانة و....أفّ ف ف تباً...التاريخ مرة أخرى...حسنٌ طالما أنه لا مفرّ.. سأستمتع بالتاريخ وألهو به!...
زخارف ونقوش المطار الأموية كانت هي الرسالة الأخيرة والممتدة من معاوية بن أبي سفيان إلى عقبة بن نافع، ...وجه الشرطية الجميل وهي تقلب جواز سفري، لمحّ لي أن الملكة الفينيقة ديدون أو أليسار ـ هي أيضا ًـ تركت الكثير من الرسائل التي لم تقرأ والتي حملتها من قرمز صور إلى تركواز قرطاج ...
تونس الخضراء إذن؟ ووجه صديقي عبد الكريم الخالقي، رئيس المهرجان نيابةً عن كل الوجوه التي أحبها كان يستقبلني ليأخذني إلى الفندق وآخر قصيدة كتبها وأخبار من نحب شرقاً وغرباً من الشعراء الدراويش عبر هذا الوطن العربي الدرويش مثلنا..
كنت أول الواصلين من الشعراء العرب إلى المهرجان، (هنا شعرت أنني صحافي!)، أنزلني الخالقي في فندق حميم.. وكالعادة.. أحببت موظفة الاستقبال..وأضعت مفتاح غرفتي وسرقت المنشفة!.
عهد بي رئيس المهرجان للشاعر ساسي جبيل أحد أشهر شخصيات القرن... والذي عهد بي بدوره، لورشة عمل تسكعية بدأناها من شارع الحبيب بورقيبة وأنهيناها في شارع عشرين ببرنامج افتح يا سمسم!! ولولا أننا تذكرنا أخيراً اسم الفندق لم نكن لنرجع إلا بانتهاء المهرجان!. علمت أن الوفد الجزائري وصل، كانوا كثر ومنهم: نوّار العبيدي ويوسف شقرة، وسيف الملوك سكتة وجلال خشاب الذي جاوبني في ردّه على سؤالي سبب كثرة المشاركين من الجزائر: لأن المهرجان يحمل اسم ثائرٍ ذي حضور جليل على المشهد النضالي المغاربي، (رباه..التاريخ مرة أخرى..لاح لي وجه جدتي وهي تتفحص المعاش الذي تبقى لها من زوجها الثائر كل شهر!).
تتالت الأحبة من الشرق والغرب، غسان حنّا الشاعر السوري الفخم وليلى السيّد الشاعرة البحرينية الرقيقة (التي وصلت دون حقيبتها التي ذهبت دونها إلى
من جدليان ـ تونس
موريتانيا quot;ربماquot; والسبب quot;غالباًquot; ساسي جبيل، والله أعلم)، محمد الربيعي والمطربة الجميلة وعد حسين من ليبيا، ووو..إلى جدليان بلد المناضل والشاعر علي بن غذاهم الذي بدأ يحضر وبقوة في قاموسي التاريخي الذي لم يتركني أرتاح ولن ..على ما يبدو.
كان البرد قارساً في جدليان، حتى عليّ، أنا ابن الجرد والجبال ومغاور الذئاب؛ بردٌ صافي لا يتخلله شيء سوى بردٌ آخر، ولولا أن القلـوب كانت تشتعل حباً لزعمت أن مجرد وجودنـا هنـا نضالاً!.
قلوبهم الأصدقاء ـ شعراء تونس ـ المفعمة شوقاً وشعراً، شمس الدين عوني والهادي الجزيري والأمين الشريف وعبد الوهاب الملوح ومراد العمدوني وعادل الجريدي ولبنى المجيدي وسمير العبدلي وفاطمة بن فضيلة والشاذلي الغروشي... وغيرهم الكثير ممن أتيح لنا شرف معرفته وسماع شعره.
وعلى ذكر الشعر، أقف هنا على تجربة تونس الشعرية والتي لم تأخذ حقها البحثي إلى اليوم، وأشدد على ضرورة البحث فيها بذائقة مشرقية وهي الغامضة المتحركة باستمرار وأسباب وقوفها لدينا ـ كمشرقيين ـ عند أبي القاسم الشابي وأصوات متفرقة جاءت بعده ووصلت بطريقة أو بأخرى.
كأولاد أحمد والمنصفين، المزغني والوهيبي، على الرغم من أنها نموذج رفيع لحركة الشعر الجيلي، وتجسد آلية الحركات الشعرية الأوروبية في التحرك
مراسل quot;إيلافquot; في تونس
والتراكم والانتقال؛ كما أنها حركة من شأنها أن تزودنا برؤىً شعرية متجاوزة، فكرت أيضاً..ذنْب من هذه القطيعة وتحت أي مبرر طالما أننا نتصل اليوم عبر النت دونما تأشيرات وأختام سفر!؟، وهل على الشاعر التونسي إن أراد الوصول لنا أن يقترب منا جغرافياً، لا أدري.
كما فكرت..هل تشكّل مصر ـ جغرافياً ـ بيننا وبين الشعر في تونس حائط صدٍّ وهمي؟!..لا أعرف ولكنني عموماً أطرب للقصيدة المغاربية المختلفة ذهنية وتركيباً عن شعرنا في الشام والعراق ومصر.
أتى ليل الشعراء..بل رتبوا ليلهم طرباً وشعراً وحباً في نواحي هذا الجبل المذهل، في سبيطلة، سبيطلة ابنة جرجير الروماني وزوجة ابن الزبير لاحقاً (نحن ننام في التاريخ..ماذا أفعل؟؟؟، وكي يجنني التاريخ أقيمت لنا أمسية شعرية فيها بصالون quot;إناناquot; الأدبي والذي يشرف عليه مراد العمدوني وضحى بوترعة والروائي جمال الجلاصي) جاء الليل وغنينا حتى الفجر..الذي غنينا فيه أيضاً شعراً وحباً وتركنا قصائدنا تنمو وروداً على فساتين صبايا المنطقة وزنار رصاص على خصر فتيانها..(هل قلت رصاص؟..لست متأكداً!). انفضّ الشعر ولم ينفضّ الشعراء..فقد علقوا بعضهم ببعض من خلال إهداءاتهم ودواوينهم..ودبق قلوبهم وحرقة وداعهم.
عدت العاصمة...هل اليومان بين الطائرة ووجودي يكفيان لرؤيا جميع أصدقائي المذهلين؟ المطربة الخرافية أمينة فاخت والمخملية صوفيا صادق والشعراء الرائعين يوسف رزوقة ومحمد السبوعي وعبير مكي وإيناس العباسي وسلوى الرابحي وزملائي الأقارب ضحى السعفي وعبد الوهاب المنصوري وحسان الطاهري وهاديا درويش وأحبتي جميعاً رضا السلامي وألفة الفقيه...وووووو..يا الله كم من منّة لهؤلاء في رقبتي....رأيتهم جميعاً ـ نعم ـ ونهلت من ينابيع قلوبهم، إذ لم يداهمني ساسي جبيل!.
هل رأيت هذه الزخارف من قبل؟، فكرت وأنا في المطار!..نعم رأيتها إنما كأنها وكأنني في القدوم، رسالة معاوية بن أبي سفيان لعقبة بن نافع يوليه أفريقيا... وفي المغادرة..رسالته إليه يعزله!، حتى ملامح عبد الكريم الخالقي كانت حزينة فوق حزنها بشكل فجائعي.
والشرطية السمراء ذاتها، ذات الشامة...ذكرتني هذه المرة بمقولة مارقوس كاتون الشهيرة ( وهو عضو مجلس الشيوخ الروماني) حينما زار قرطاج قبل الميلاد والتي تقول: quot;Carthago delenda estquot;، quot;علينا أن ندمر قرطاجquot;!!....نعم قرطاج التي أثارت حقد روما في أوجها، تودعني الآن...وأنا بكل رباطة جأش..أركب الطائرة....وكعادتي..أحب المضيفة وأطلب منها قهوة وأدخن في التواليت ....وأبكي.