quot;كنت جالسا وحيدا في مطعم الدورادو حين مر العربي اليعقوبي ليذكرني بعيد ميلاده القادم، شربنا الشامبانيا احتفالا بعيد ميلادي في انتظار عيد ميلاده. هكذا زال المعنى المقلق لعيد ميلادي الرابع والستين. إنها لحظة صداقةquot; (محمد شكري / وجوه)

إرهاص باللقاء:
قليل من الفنانين الذين بعد أن نلتقيهم لا يكسرون (للأسوأ) أفق انتظارنا ولا يخيبون آمال تصوراتنا المسبقة والجميلة بالضرورة عنهم، قليل منهم الذي يتماهى وفنه إلى درجة من الإلتباس الذي تنعدم فيه كل المسافات المفترض وجودها بين الواقع و الخيال، الحقيقة والحلم، وزيارتي لمنزل الفنان المبدع (العربي اليعقوبي) كانت فرصة لاقتسام بعض الوقت مع رجل من هذا النوع، لقاء/ متنفس للخروج عن ابتذال السياق الفني الراهن ورغبة للبحث عن أفق أرحب وأغنى في النقاش وتبادل أطراف الحديث، زيارة كانت في الواقع تتويجا لإلحاح مستمر مني لمعرفته وكان المسرحي الآخر المبدع (مصطفى حوشين) هو من رتب لهذه الجلسة الجميلة إثر مكالمة هاتفية خاطفة انتشلتني من غمرة إعدادي للإحتفاء باليوم العالمي للشعر، ورغم أجندتي المزدحمة قصيدتـئذ إلا أنني لم أترك أي مجال ولو صغير كي أفوت هكذا لقاء.
لقاء ما كان له أن يكون اعتياديا أمام رجل استثنائي، لقاء ممهور بخيمياء الفن وجنون الإبداع، منفلت من لعبة (سؤال/جواب) الرتيبة، و كنت أعرف منذ البداية أنني لا أستطيع هنا أن أمسك أو أتحكم بدفة الحوار و أنه من التقدير و الإحترام لهذه الذاكرة الماثلة أمامي أن أترك لها أن تبحث عن تسلسلها الزمني الخاص و حرية انتقائها للنقلات الأساسية في العمر و محطاتها الفنية الخالدة و أن تحصي كما تشاء نجاحاتها و خساراتها منذ صدمة الضوء الأول و الصرخة الأولى في 31 مارس 1930 بطنجة، رغم رغبتي المبيتة في استدراج هذا الرجل للحديث عن كل شيء، عن ذكرياته منذ 1950 مع فرقة المعمورة للمسرح و مخرجها الفرنسي أندري فوازان... عن مخرجين عالميين اشتغل معهم كديفيد لينش و فرنسيس فورد كوبولا و مارتن سكورسيزي و مصطفى العقاد... و مخرجين مغاربة كبار كالجيلالي الفرحاتي و فريدة بليزيد و مومن السميحي و لحسن زينون و آخرون، كنت عاقدا العزم أن أخرج من لقاء نادر كهذا بأكبر قدر من الغلة الفنية التي يرتضيها شغفي و فضولي.

زمن طنجة الجميل:
لم أكن أتصور يوما أن أجلس هناك في منزله و أن أتبادل و إياه أطراف الحديث عن كل شيء، و كان على الزمن أن يتوقف قليلا و أن يركض للوراء في سباق استرجاعي من أجل القبض على المنفلت و الهارب.
حيطان حائلة ومكتبة خشبية صغيرة و صورة العربي اليعقوبي في مسرح سارة برنار بباريس تتوسط أحد الجدران وإلى جانبها تعرش زهرية من الخزف الصيني، شمعدان قديم و مائدة عامرة و وصلة من المالوف التونسي تنبعث من مسجل بأحد الغرف، و مضيفنا منطلق في بوح عفوي لا يخضع لأي انسياب كرونولوجي محكم، من محطة إلى محطة أخرى و من نجاح إلى نجاح أكبر، و أنا شيئا فشيئا أطرد ارتباك اللقاء الأول و أدخل في الطقس و أرفع الكلفة و الحدود.
كان (بّا العربي) مدهشا في الحكي، في التقاط الصور العابرة من أمام ذاكرته، حكى عن كل شيء، عن المسرح و السينما و الفن، عن شخوص و وجوه و ذكريات ماثلة في وجدانه، عن أفضية/أزمنة طنجاوية غابرة لم نعد نعرفها أو بالكاد نعرفها، حكى عن (حانة البراد) و صاحبتها (مدام ليلي)، عن (تروديس بار) و صاحبته (مدام تروديس)، عن الأمريكي (بوب) عازف البيانو الزنجي في (أوطيل الريف)، عن فنانين كبار أنفقوا أعمارهم و فنهم بها و عن آخرين مروا سراعا هاربين من جحيمها، تحدث عن زمن طنجة الجميل، الزمن الذي تمت خيانته، تحدث عن جينا و بول بولز عن هاريس... بيتر أوتول... محمد شكري... مصطفى العقاد و فيلم الرسالة... فرقة المعمورة و رفاق العمر: أحمد الطيب العلج و محمد سعيد عفيفي و الطيب الصديقي ( دون أن أنسى لحظة الصمت و التأمل التي خيمت عليه بعد أن تحدث عن رفاق الدرب و قبل أن يستدرك بكثير من الحزن و الأسى: لا أعرف من فرقنا، الدهر أو من يحكم الدهر!!) كان الرجل منسابا في الحديث بشكل ممتع وجذاب، و من جانبي لم أحاول أبدا أن أوقف هذا البوح، لأنني جئت كي أنصت، كنت في مقام السامع الذي إن تكلم لا ليحكي بل ليبحث عن أقرب السبل إلى تحفيز هذه الذاكرة التي لا تشيخ، و بين الفينة و الأخرى كان يتدخل الفنان المسرحي: (مصطفى حوشين) كي يثير قصصا و ذكريات مشتركة بينهما كانت بمثابة ملح هذا اللقاء الجميل.
و بعد ست ساعات كاملة من البوح و المكاشفة كان لنا أخيرا أن نقوم و نترك (بّا العربي) كي يستريح مع وعد بالزيارة قريب، فأبى الرجل أن يودعنا إلا بعد أن يسمعني وصلة من الطرب الأندلسي التي أداها بصوته الجميل الذي لم يفقد رغم العمر رونقه و طراوته.