أنيس منصور هذا الكاتب والمفكر المعروف

أكتب هذا المقال لمناسبة حلول الذكرى الخامسة والعشرين لاتفاقية السلام بين مصر واسرائيل، وعنوان هذا المقال هو معارضة لعنوان كتاب أ. د. محمود فوزي quot;انيس منصور ذلك المجهولquot;، وقد عزمت على كتابته بعد أن اخبرني صديقي رجل الأعمال الاستاذ صالح عباسي صاحب مكتبة كل شيء في حيفا، بأن زوجته الأستاذة لبنى صفدي - عباسي، تلميذتي والمعيدة سابقا في الجامعة العبرية، ستحرر العدد الجديد من مجلة quot;الشرقquot;، ولابد من نشر مقال لي عن الأديب الكبير أنيس منصور في هذا العدد الخاص. لم استطع رد طلب تلميذتي النجيبة لبنى وهي التي تضاهي أستاذها في دقة البحث والتحقيق وخاصة في مراجعتها للترجمة العربية لكتابي quot;الشعر العربي الحديثquot; الذي قام بترجمته الأستاذان سعد مصلوح وشفيع السيد لأعداد طبعته الجديدة المحقّقة، حتى أن دقتها افرغت صبر صديقنا الدكتور محمود عباسي صاحب ومدير مطبعة المشرق وكاد يضيق ذرعا بدقتها العلمية في مراجعة البروفات وعدم موافقتها على التفريط حتى بالفارزة والنقطة، ناهيك عن التصحيف والتحريف في الطبع.
أماالداعي الأعظم لكتابتي هذا المقال عن المفكر والاديب والصحفي المصري الكبير أنيس منصور، فهو الخبر السار الذي زفته الي الدكتورة سيجال كرجي عن احتمال زيارة صديقي أنيس منصور القريبة لاسرائيل لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتوقيع اتفاقية السلام بين مصر واسرائيل. والاستاذ انيس منصور من كبار المثقفين والمفكرين والادباء والصحفيين العرب في العالم الذي يحتفي به ملوك ورؤساء الجمهوريات العربية والاسلامية والأدباء والعلماء في العالم أجمع ونال العديد من الجوائز وأوسمة التقدير منهم، فهو في مصر عضو مجلس الشورى وعضو المجلس الأعلى للثقافة ورئيس نادي القلم وعضو المجلس الأعلى للسياحة وعضو المجلس الأعلى للصحافة ومؤلف اكثر من 135 كتابا معظمها ترجمة ذاتية بالإضافة الى دراسات سياسة ومجموعات قصصية ونقد أدبي ومسرحيات كوميدية ومسرحيات مترجمة ودراسات نفسية ودراسات علمية وفلسفية، أي كما قيل عن المتنبي quot;مالئ الدنيا وشاغل الناسquot;.
والدكتورة سيجال هي احدى الطالبات المتفوقات في دراستها في جامعة بار-ايلان، وهي الوحيدة التي وافقت، بعد تردد، على كتابة أطروحة الدكتوراة عن هذا الاديب الكبير الثرّ العطاء في النثر العربي الحديث. أقول هي الوحيدة، لأنني كلما عرضت على طلابي المتفوقين الكتابة عن أنيس منصور اجفلوا وقالوا: هذا بحر متلاطم الأمواج من العلوم والمعارف والفلسفات والآداب، ولا طاقة لنا على مصارعتها. وعندما عرضت هذا الموضوع أخيرا على تلميذتي سيجال، قالت: والله يا أستاذ أخشى الغرق في هذا البحر المحيط، قلت لها: quot;لابد من أن تكتبي عن هذا الكاتب العظيم قبل أن أحال الى التقاعد من الجامعة، وانت خير من يقوم بهذا العمل لتفوقك في الدراسة ولسرعة قراءتك باللغة العربية، فأنت وان كنت من مواليد اسرائيل فأنت من أسرة بغدادية مازالت تتكلم اللغة العربية في البيت وبين افراد العائلة والأصدقاء، فاذا اشرفت على الغرق فسأرمي لك طوق النجاة.quot; وهكذا اقنعتها بالشروع في كتابة أطروحتها عن صديقي الأستاذ الكبير.
قلت quot;صديقي أنيس منصورquot; وأنا أعترف أن عدد اصدقائي قليل جدا، فأنا لا اطارد كبار الأدباء والشخصيات للتعرف عليهم وللتفاخر فيما بعد بصداقتهم، وسبب ذلك ضيق الوقت عندي، فأنا بسبب أبحاثي ونشاطي الأجتماعي والعلمي في سباق دائم مع الزمن ولذلك لا أحب الدردشة في أروقة الجامعات أو الجلوس في المقاهي، ولا أحب القيل والقال واغتياب من نعرف ومن لا نعرف. وعندما قلت لأحد الأصدقاء المصريين عندما انهيت كتابة أطروحة الدكتوراة في جامعة لندن، بأني عائد الى البلاد، سألني: هل يئست من العثور على موضوع لأطروحتك؟ قلت له: لقد قدمت الأطروحة وحصلت على اللقب وأنا عائد لأدرّس في الحامعة العبرية! قال لي: ألله، كيف استطعت ذلك خلال ثلاث سنوات؟ قلت: في الوقت الذي وفرته من الدردشة في كافيتريا معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في الجامعة هنا. أما السبب الثاني من عدم رغبتي في الدردشة فهي انني في بعض الأحيان اخبر أصدقائي عن نتائج أبحاثي وإذا بي أرى بعد حين أن بعضهم نسب هذه النتائج الى نفسه دون أن يذكر بأنها من بنات افكاري. وعندما قلت لأحد الباحثين بإني توصلت الى نتيجة أن أحد كبار المؤلفين العرب له شخصيات نمطية لها خصائص وميول فكرية وسياسية ودينية واجتماعية محددة ويستخدم هذه النماذج في رواياته بتشكيلات مختلفة، قال لي متعجبا: والله، أنا قرأت وكتبت عن هذا الكاتب مدة ثلاثين عاما، ولم اتوصل الى هذه النتيجة الهامة التي توصلتَ اليها أنت بعد قراءتك لعدد محدود من رواياته! وبعد أسبوع جلست في محاضرة يلقيها هذا الباحث، فإذا به يعلن أمام الملأ بأنه quot;توصل الى نتيجة هامة وهي أن بعض مشاهير الكتاب لهم نماذج من الشخصيات النمطية يستخدمونها في رواياتهم بتشكيلات مختلفةquot;. كتمت غضبي لهذه السطو في واضحة النهار ولهذه الجرأة في نسبة نتيجة بحثي الى نفسه وأنا جالس أمامه، وعندما عاتبته قال لي بدون مبالاة: وهل أنا بحاجة الى آرائك بعد ثلاثين عاما من البحث؟ والمثل العراقي يقول: quot;عيش وشوفquot;، يعني بالعربي الفصيح: quot;عش رجبا تـَـرَ عجباquot;. ولذلك فإن الأستاذ أنيس منصور هو من أصدقائي القلائل الذين اثق بهم. فنحن اصدقاء منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي وذلك عندما القت دار النشر quot;يديعوت أحرونوتquot; على عاتق البروفيسور مناحيم ميلسون وعلى عاتقي اختيار قصص مصرية قصيرة تعكس الأجواء الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية في مصر، شرعت أولا في قراءة قصص الاستاذ أنيس منصور لأختار له quot;قصة مصرية تعبر عن الواقع المصريquot; لضمها الى المجموعة المترجمة الى جانب قصص لنجيب محفوظ ويوسف أدريس ويحيى حقي ومحمد مستجاب (الذي اثارت قصته المترجمة quot;الغراب الخامسquot; اهتمام الأدباء والباحثين في اسرائيل)، وسكينة فؤاد وجمال الغيطاني وغيرهم. وبعد قراءة معظم قصصه التي تزيد على الأربعمائة قصة، وجدته أديبا يهتم بالصراع النفسي والعقلي، وبالدوافع والغرائز والعواطف الإنسانية، فهو من رواد ما بعد الحداثة في الأدب، لا شأن له بالزمان وبالمكان وفي بعض الأحيان لا نجد ذكرا لأسماء الأبطال، فهو يهتم بالتكنيك الغربي الجديد ويرى نفسه جزءا لا يتجزء من الثقافة العالمية، فهو إذا من رواد العولمة في الثقافة والأدب والنثر، مثل أدونيس شاعر العولمة في الشعر العربي الحديث، أما دار النشر فقد طلبت منا شيئا آخر. كتبت الى الأستاذ أستنجده طالبا أن يختار لي قصة مصرية أصيلة quot;يعني مصرية بنت حلالquot;، فإذا به يرسل إلي رسالة طويلة جعلها فيما بعد مقدمة الطبعة الرابعة في كتابه quot;عزيزي فلان وقصص أخرىquot; (القاهرة، دار الشروق، 1988، ص 5-9)، تكاد تكون خارطة أو برنامجا لكتابة اطروحة دكتوراه عن قصصه.
وعندما زرت القاهرة عام 1981 مع زوجتي كان أنيس منصور أول من اتصلت به لأشكره على مقدمته، فردّ عليّ قائل: أهلا وسهلا بك في مصر، سأرسل لك سيارتي مع السائق والمرافق الشخصي ليأتيا بكما من فندق ماريوت الى مكتبي ثم أخذكما لزيارة كنيس أبن عزرا وحارة اليهود. تعجبت زوجتي من هذه الأريحية والضيافة، قلت لها هذه تقاليد الضيافة والحفاوة العربية العريقة، فباي تونس أرسل لفارس الشدياق بارجة حربية احتفاءا وتقديرا لقصيدة مدَحَه فيها معارضا قصيدة quot;بانت سعادquot; لزهير بن أبي سلمى (وقد قرأت فيما بعد بأن الرئيس حسني مبارك أرسل الى الأستاذ أنيس منصور الذي اصيب بجلطة في ساقه، طائرة مع طبيبين مصريين لنقله على وجه السرعة الى باريس، لمعالجته من قبل أحد كبار الأطباء المتخصين بالأوعية الدموية في فرنسا)، هكذا يقدر بعض زعماء العرب العلماء والمفكرين، فجئني بمثلهم، بارك الله فيهم.
وأثناء زيارة الرئيس السادات لأسرائيل عينت الحكومة الإسرائيلية البروفيسور مناحيم ميلسون من الجامعة العبرية مرافقا له، فما كان من سيادة الرئيس الراحل الا ان دعاه لزيارة القاهرة، وهناك لقي من الحفاوة والضيافة ما جعله يلهج بالثناء على الرئيس الراحل وعن زيارته مدة طويلة. وهناك التقى صديقي البروفيسور بأنيس منصور، وكانت خير هدية منه لنا مقالة كتبها عن الفلسفة الوجودية قام د. محمود عباسي محرر مجلة الشرق بنشرها مع الإهداء.
وعند صدور كتابي عن quot;المسرح البشري في العالم العربي في القرون الوسطىquot; باللغة الإنكليزية، قال لي الأستاذ أنيس: قرأت كتابك دفعة واحدة خلال ثلاثة ايام ثم قررت إرساله الى الأستاذ د. محمود فوزي عميد أكاديمية الفنون والترجمة لترجمته الى اللغة العربية ونشره في دار الشروق بالقاهرة، ثم طلب مني نسخة من الكتاب لإرسالها للترجمة. وعند زيارتي للقاهرة عام 1992 مع تلميذتي الدكتورة ألغا برامسون التي كانت تعد أطروحة الدكتوراه عن الطبيبة والروائية د. نوال السعداوي والتي نالت بعدها الدرجة بامتياز، أخذت معي ثلاث نسخ من الكتاب هدية له. دعانا الأستاذ أنيس الى الغداء في فندق سميراميس في القاهرة وكان في استقبالنا في الوقت المحدد قرب بوابة الفندق الأستاذ أنيس مع رئيس تشريفات الفندق مرحبا بنا. أخذنا الأستاذ الى المائدة المحجوزة لنا قرب نافذة كبيرة مطلة على النيل. فإذا بنا نجد تلميذتي السابقة، الصحفية المعروفة المتخصصة بشؤون الشرق الأوسط السيدة سمدار بيري من جريدة quot;يديعوت أحرونوتquot; مع المصورة الصحفية المرافقة لها. جلسنا لتبادل الحديث وحدثنا الأستاذ عن الرئيس الراحل المغفور له أنور السادات ومرافقة أنيس له في زيارته التاريخية للقدس ومحادثات السلام، وتساءلت برامسون عن سبب تلكؤ التطبيع بين مصر واسرائيل، فاشار أنيس الى النيل ومياهه التي تجري بهدوء وقال: quot;نحن المصريين لنا صبر وأناة، لا نتسرع في الأمور، ومزاجنا يشبه مزاج النيل الذي يجري بتأن وهدوء، أما انتم الأسرائيليون فتستعجلون الأمور وتريدون أن نجاريكم في تسرعكمquot;. لم أشأ التعليق على ما قاله الأستاذ وإن كانت ذاكرتي التاريخية التي تمتد من quot;المدراشquot; lt;شروح وتفاسير التوراةgt; (الذي يحدثنا عن فيضان النيل وأن يوسف الصديق بقي في دار سيده لمراجعة حساباته بينما ذهب الجميع للاحتفال بوفاء النيل ومشاهدة المسرحيات التمثيلية، فانتهزت زليخا الفرصة وراودته عن نفسه)، مارّة بالمقريزي وابن تغري بردي وابن أياس والجبرتي، والتي تقول لي إن النيل كان يفيض سنويا بتياره الهادر المتدفق الحامل للطمى فيغرق الضفتين والقرى المحاذية ويعيد خصوبة الأرض بالغرين المترسب، وان الحياة الاقتصادية والزراعية والسياسية والاجتماعية كانت تدور حول وفاء النيل والمقياس، وأن جريانه الهادئ المستديم هو نتيجة لبناء السد العالي. لم اعقب، فقد تعودت على الآراء التي يبلورها المهتمون بالحاضر من الأدباء والمفكرين، فهم يقيسون المستقبل به، بينما نحن المؤرخين نقيس الحاضر بالماضي. طلبت تلميذتي من الأستاذ أن يعرفها بالدكتورة نوال السعداوي فهي تكتب أطروحتها عن رواياتها، فاستجاب لطلبها، ثم علمنا فيما بعد أن السعداوي كانت في الولايات المتحدة بعيدة عن تهديد المتطرفين لها بسبب آرائها. وعندما طلبت السيدة برامسون شراء بعض الكتب من المكتبات الشعبية، غضب اصحابها قائلين: لماذا تهتمين بهذه الكافرة المتمردة التي تسئ الى الأسلام والمسلمين.
وبعد عودتي الى القدس هاتفني الأستاذ وقال لي: مبروك يا أستاذ! قلت له: خير أنشاء الله، قال: أمامي على مكتبي بروفات كتابك المترجم الى العربية مع مقدمة الصديق د. محمود فوزي، قلت له: أرجو ارسال البروفات قبل طبع الكتاب لمراجعتها وذلك لأن بعض المصادر العربية التي استشهدت بها غير متوفرة لديكم. وعدني الأستاذ بارسال البروفات لمراجعتها ووفى بوعده كالمعتاد، وأنفقت الساعات الطويلة لمراجعتها واضافة الأقتباسات والاستشهادات حسب المصادر العربية النادرة، وارسلتها اليه، وآمل أن ترى هذه الترجمة النور عن قريب فأنا مازلت أنتظر هذه الترجمة العربية التي قام بها مترجمون مصريون من أكاديمية الفنون والترجمة بمصر من عام 1996.
دأبت منذ مطلع التسعينات خلال كل عطلة صيفية، التفرغ الى تحقيق كتاب quot;عجائب الآثار في التراجم والأخبارquot; (في أربعة أجزاء)، للمؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي مع فهارس ومعجم مصطلحات في أربعة مجلدات ضخمة أخرى، فقد أخذت على عاتقي، بارشاد أستاذي وزميلي في الجامعة العبرية المرحوم البروفيسور دافيد أيلون، إصدار نص هذا الكتاب الرائع معتمدا النسخة التي كتبها الجبرتي بخطه، ولذلك كنت أقضي أشهر الصيف كل عام للبحث وقراءة المخطوطات في مكتبات أوربا وخاصة في كمبردج ومانشستر وأكسفورد وبون ولوس أنجليس، أما عطلة الشتاء فقد كنت أقضيها على الأغلب للعمل في قسم المخطوطات والميكروفيلم في دار الكتب القومية بالقاهرة. وقد مدّ الي العاملون في دار الكتب بالقاهرة يد المساعدة في كل ما كنت أطلبه وخاصة العالم الجليل الأستاذ د. أيمن فؤاد السيد الذي كان آنذاك من كبار موظفيها.
وحين كنت في عام 1997 في إجازة البحث السنوية التي كنت اقضيها ذلك الصيف في ضيافة معهد الدراسات الشرقية لجامعة بون برآسة المستشرق، الأستاذ د. ستيفان ويلد، (وهو رئيس رابطة الصداقة الألمانية العربية، والذي يحاول منافسة العرب في الضيافة والكرم) كتبت مع الاستاذ ويلد طلبا من بون الى مدير دار الكتب المصرية آنذاك، بالحصول على ميكروفيلم لإحدى مخطوطات الجبرتي، وبدل الرد قرأنا خبرا غريبا في مجلة quot;الأهرام العربيquot; في عدد أكتوبر 1997 quot;إن رئيس مجلس إدارة دار الكتب المصرية الجديد، أمر بمنع الباحث الاسرائيلي quot;شاموئيل [كذا] موريه، الذي يسعى الى تحقيق الجزء الرابع من كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار للعلامة عبد الرحمن بن حسن الجبرتي ولاعداد فهرس شامل لجميع الأجزاءquot;، من دخول الدار. وعجبت كيف منعوا دخولي دار الكتب القومية بالقاهرة وأنا موجود في جامعة بون بألمانيا؟ ومع ذلك فقد شجب الشاعر والصحفي الكبير عبد المعطي حجازي هذا الخبر في صحيفته وعده عملا مشينا وماسا بسمعة الدار، كأن هذه الدار المكرسة لخدمة الباحثين والعلماء أصبحت وقفا لهذا المدير الجديد يمنع ويسمح حسب أهوائه.
ولكي أتجنب مثل هذه المعاملة طلبت عام 1998 من الأستاذ أنيس منصور أن يتوسط لدى إدارة الدار بمساعدتي على الحصول على ميكروفيلم لبعض المخطوطات فأرسل اليّ والى الدار رسالة توصية عملت عملها السحري عند المدير الجديد الحصيف للدار في الحفاوة بعملي في قاعة مطالعة المخطوطات والميكروفيلم، في دار الكتب المصرية، بارك الله فيه وفي مسعاه.
وفي عام 2001 سافرت مرة أخرى الى القاهرة لاكمال مقارنة مخطوطات الجبرتي وكانت ترافقني آنذاك مساعدتي في أبحاثي العلمية الآنسة ألوما سولنك، وزرنا الصديق أنيس منصور في مكتبه في الأهرام ودعانا الى حضور ندوة تقام في معرض الكتاب العالمي في القاهرة. كنت قد زرت معارض الكتب السابقة في القاهرة. ولكن هذا المعرض كان مختلفا عن المعارض السابقة، فقد كانت اكثر الكتب المعروضة كتبا دينية وكتب طبّ عربية قديمة وكتبا عن حجاب المرأة ومكانة المرأة المسلمة في العائلة وكتبا عن السحر والجن وتفسير الأحلام لابن سيرين وغيره، إلى جانب كتب معادية لليهود ولإسرائيل والولايات المتحدة طبعت معظمها طبعات انيقة ومتقنة في المملكة العربية السعودية ومصر. ثم ذهبنا الى الندوة التي تحدث فيها الأستاذ أنيس منصور. دارت الندوة حول انعدام قيادة أدبية وفكرية في مصر التي كانت في النصف الاول من القرن الماضي تعجّ بالصالونات الادبية المصرية التي كانت مركز القيادة الفكرية والثقافية في مصر والبلاد العربية والإسلامية كافة وعلى رأسها صالون العقاد وصالون مي زيادة، والرافعي وغيرهم من كبار المثقفين والمفكرين المصريين، كما دار الحديث حول قرارات الحكومة المصرية نشر الحاسوب والتكنولوجيا الحديثة بن الجيل الجديد وغير ذلك من الموضوعات المهمة بالنسبة لمستقبل مصر. وعندما سمع أحد الحاضرين أن مساعدتي ألوما تتحدث معي باللغة العبرية، طلب الاذن في القاء سؤاله. قدم المتحدث نفسه بانه طالب في جامعة الأزهر وأنه يعجب كيف سمحت الحكومة المصرية بعقد معاهدة مع إسرائيل، فإسرائيل بالنسبة للمتحدث هي كيان غير شرعي يجب ازالته. كان سؤالا محرجا جدا وانتظرت ردّ الأستاذ أنيس منصور لأرى كيف يجيب على مثل هؤلاء المتطرفين. كان الاستاذ لبقا في رده واثقا من وجهة نظره، وقال بصوت المرشد الأمين والأب الروحي للجيل الجديد: أننا نحن العلمانيين لنا نظرة أخرى الى الأحداث، وقد حارب جيلنا أسرائيل وضحى بالكثير من أجل القضية الفلسطينية، حاربنا في 1948 وفي 1956 وفي 1967 وفي 1973، ثم اصبح همنا تحرير أرضنا عن طريق التفاوض، وبهذه الطريقة فقط افلحنا في تحرير أخر ذرة من أرضنا عن طريق المفاوضات السلمية، أما اذا كان لجيلك طريقة أخرى في حل المشكلة فأهلا وسهلا.quot; وهكذا افحم الاستاذ بلباقته وفكره الثاقب صاحب هذا السؤال الذي جلس وهو يتصبب عرقا.
ثم دعانا الأستاذ الى سيارته لنقلنا الى فندق هيلتون قرب ميدان التحرير، وفي السيارة سألني ما رأيي في الندوة، قلت له ان رده كان مفحما ولكني منزعج من هذا التطرف الذي أبداه بعض المستمعين والمتحدثين ومن غلبة الكتب القديمة على الكتب العلمية الحديثة واختفاء كتب أحرار المفكرين العرب من الأسواق وكل من يسأل عن مثل هذه الكتب يسمع الاهانات عن مؤلفيها الكفرة الملحدين. وأنا الآن آمل ان يستطيع الزعماء العرب والمسلمون الوقوف أمام هذا التيار الذي أدى الى مقتل الدكتور فوده وطعن الأديب الكبير الحائز على جائزة نوبل للآدب المرحوم نجيب محفوظ ورش دار الأستاذ أنيس منصور بالرصاص لصدّ مدّ التحرر الفكري في مصر الرائدة.
عندما قدم الاستاذ أنيس منصور الى أسرائيل عام 1979 كان الحمامة التي بشرت بتوقيع اتفاقية السلام بين المرحومين السادات ومناحيم بيغن، واليوم كنا نأمل أن قدومه هذه المرة سيبشر بوقف هذا التناحر الدامي بين الفلسطينيين واسرائيل والتوصل الى حلّ سلمي للقضية الفلسطينية التي أكلت الأخضر واليابس. ولكن هذه الزيارة ألغيت وكان ما كان من التناحر والانتقام المتبادل واختطاف الأسرى لتبادل ألف أسير أو أكثر بجندي إسرائيلي واحد، رحم الله أيام كان الفارس المملوكي المصري يساوى ألف فارس من quot;الإفرنج الكفرةquot; في ميدان القتال.

الجامعة العبرية بأورشليم-القدس