ما الفارق بين انطولوجيتين شعريتين.. سويدية ولبنانية؟

الى ماذا يهدف الشعر؟
الى ماذا يهدف الأدب والفن عموماً؟
وأيّ وجهة للجمال..؟

باسم المرعبي من مالمو: هل ممكن أن يكون العنف والدم بديلاً عن ابتسامة الطفل، مثلاً، التي يقول عنها شكسبير quot;ليس هناك ما هو أكثر سحراً منهاquot; هل يمكن أن تكون التماعة نصل مسموم واشهاره بديلاً عن بريق عيني الحبيبة أو تلويحتها؟ هل ممكن أن تكون القصيدة رسالة موت لا رسالة حياة وتعضيد للمتعبين والجرحى ـ جرحى النفس

الأنطولوجيا اللبنانية
والجسد ـ؟ أسئلة لا تنضح من مرجعية رومانسية ـ وإن لم تكن هذه عيباً ـ بقدر ما تمليها حاجة واقعية في ظلّ شراسة الحياة بل وفظاظتها التي هي أفظع من أيّ وصف... لكن الأكثر شراسة وفظاظة أن تكون الحياة عزلاء من كلمات حقيقية قادرة على موازنة ترسانة الرعب والإنحطاط التي لا تنفك تتسع وتستقبل المزيد.
نعم الكلمة قادرة على الموازنة بل والغلبة. قد تُمحى عشرات المشاهد الرهيبة من التاريخ والذاكرة لكن كلمة واحدة مؤثرة تبقى تتناقلها الريح عبر السلالات حتى تصل الى الفم أو الأذن التي تعي...

هذه الكلمات استدعتها الأخبار quot;المفخّمةquot; عن صدور انطولوجيا للشعراء المنتحرين أعدتها اللبنانية جمانة حداد بعنوانquot; سيجيء الموت وستكون له عيناكquot;. وما يُلفت هو ـ صيغة المبالغة quot;الرهيبةquot; في تقديم العمل وكأنه quot;معجزة إلهيةquot;. والكتاب، بدءاً، يثير جملة أسئلة منها: لماذا مثل هذه الإنطولوجيا؟ وما الذي ترمي اليه؟ وهل القارىء بحاجة الى هذا الحشد من الشعراء الذين ساقتهم أقدارهم و ظروفهم البئيسة لأن يكونوا ضحايا فعل حرّمته كلّ الديانات وكذلك القوانين الوضعية؟ وقد كان أكثر اقناعاً لو انّ الجهد المسفوح في مثل هذا العمل التمس غير هذه الوجهة التي اتخذت من توابيت الشعراء قوارب للوصول! الوصول الى quot;وهمquot; السبق بإنجاز شيء لم يتحقق لسوى صاحبة الإنطولوجيا أو كأنّ الترجمة تبدأ منها وتنتهي بها وكلا quot;الزعمينquot; واضح من الصيغة quot;الإحتفاليةquot; للخبر الذي يُشمّ منه، وكما راجَ، ان معدّة الإنطولوجيا هي ذاتها التيquot;دبجتهquot; كما في مقدمة الكتاب: تقول جمانة في المقتطف الذي نشر من مقدمتها ضمن حملة الترويج لها: (مئةٌ وخمسون شاعراً في القرن العشرين انتحروا، إذاً، ووجدتُهم.
متى بدأ ذلك؟ وكيف؟ ولماذا؟ أنا نفسي لا أعرف. بزغوا جميعاً ذات غفوةٍ: ألفونسينا، فلاديمير، أميليا، بول، سيلفيا، تشيزاري، دانييل، خليل، نيلغون، جان بيار، أليخاندرا، جون، صفيّة، أتيلا، ريتيكا، تيسير، بيدرو، قاسم، كارين...الخ: بزغوا وجاؤوني في المنام. جاؤوني وخطفوني وصعقوني. صعقوني ودوّخوني وافترسوني. إلى المقلب الآخر سحبتني أطيافهم وقالت: quot;حان ليلنا فاذهبي وتجهّزي. انهضي من رقادكِ وأنهضينا. قد تعبنا من حياتنا السريّة، ومللنا الهيمان في وادي الظلال. دحرجي الحجر وابعثينا).
وتكمل قائلة: (متى بدأ ذلك؟ وكيف؟ ولماذا؟ لا أعرف....)

لكن هل هي، حقاً، لا تعرف أن هناك انطولوجيا اسبانية أعدها وترجمها خوسي لويس جايرو بعنوان laquo;أنطولوجيا الشعراء المحبطين أو المنتحرينraquo; وهي تضم 53 شاعراً وشاعرة، وقد صدرت في مدريد وبأكثر من طبعة وأحدثها منذ حوالي خمس سنوات، أفلا تقتضي الأمانة الإشارة لها سيما وان الفقرة الآنفة من مقدمتها تستدعي الإقرار بمثل هذا الجهد الريادي. وحتى عربياً فالأمر ليس بالجديد أي تقصي ظاهرة الشعراء المنتحرين أو الكتاب عموماً. هذا الكلام هو ليس للتقليل من شأن العمل، رغم عدم اتفاقنا مع طبيعته، ولكن للتنبيه الى ضرورة التواضع في اطلاق الأحكام أو عند الحديث عن حيثيات العمل ذاته.

ان التباهي والفرح الزائد بإنجاز هذه الإنطولوجيا هو خفة ثقافية صارخة واستخفاف بآلام الشعراء المنتحرين ومراكمة اضافية quot;للعنفquot; وquot;الإرهابquot; وكل المعاني التي تقف

الطبعة السويدية
نقيض الحياة والجمال والشعر. مهما كانت المسوغات التي ساقتها والتي تطفح منها وفيها فكرة يتيمة وهدف أيتم وهو اهالة المديح والتمجيد لنفسها كمعدّة ومترجمة بل و quot;مكتشفةquot; للأموات. هؤلا ء الذين كان يجب أن يبقوا ـ بفعل انقضائهم ـ بعيداً عن أية ألاعيب ومزايدات.. لكن هيهات فقد استبيحَ ترابهم وبعثرت رفاتهم باستعراضية لا علاقة لها بالشعر أو الأدب، استعراضية تنفي تماماً أي ألم مزعوم لصاحبة الإنطولوجيا ذرفته على الشعراء المنتحرين ؟ تقول في المقدمة:
(في صوفيا عشتُ وفي واشنطن، في فيينا وفي بوينوس آيريس، في موسكو وأثينا ومكسيكو وهافانا، في بيروت وعمّان والقاهرة والجزائر، في ريو دي جينيرو عشتُ وفي ليما، في بروكسيل وفي برلين، في بيجينغ عشتُ وفي بودابست...

ومتُّ: بالرصاص متُّ بالحبل متُّ بالسكين متُّ بالحبوب متُّ بالمياه غرقاً متُّ تحت العجلات دهساً متُّ بالارتماء في الفراغ متُّ بالسمّ متُّ وبالكهرباء وبالغاز وبالمخدرات متُّ وباللهيب المفترس متُّ).
صار الموت وأقدار الآخرين بضاعة مزوقة يُنادى عليها بابتهاج...
ومن كلام quot;منسوبquot; للناشر عنها (هذا الكتاب هو كتابٌ أنطولوجيّ مستفزّ وعدوانيّ بسبب quot;هويتهquot; الانتحارية. يرى إلى الشعراء المنتحرين في القرن العشرين بعينٍ شعريّة وترجميّة، علميّة، ومعرفيّة، ومدقِّقة، وصارمة، وليّنة، وعارفة، وذكيّة، ونزيهة، ومتمرّسة بجوهر الشعر وبالترجمات الواثقة من مرجعياتها ومعاييرها اللغوية، ومن معادلاتها ودلالاتها وتأويلاتها الشعرية. وهو كتابٌ عالِمٌ، من الصفحة الأولى إلى صفحته الأخيرة. لكنْ مُسكِرٌ وخاطفٌ ومستولٍ وصافعٌ ومدوِّخٌ وجالِدٌ ومقلِقٌ ومخيفٌ وموحشٌ ومعذِّب ومتوحّشٌ وطاردٌ للنوم ومهشِّلٌ لسكينة الروح وخصوصاً مسالِمٌ وفاتحٌ لشهية المعرفة والاستزادة. وهو كتابٌ يصعق قارئه ويصيبه بالدوار، وإن يكن قارئاً quot;حديدياًquot;، متماسكاً، ويقف على أرض ثابتة. وهو ذو أنياب. ومفترس. إذ لا يتخلّى عن قارئه إلاّ ملتهَماً وأشلاءً منتشية. لكن، ليس الانتحار ما quot;يدمّرquot; المتلقّي العارف، في هذا الكتاب، ويجعله يصاب. فهذه بداهةٌ quot;عاطفيةquot; لا تنطلي على المتمرسين بالشعر وترجمته. ذلك أن quot;الدمار الروحيّquot; الذي ينطوي عليه لا يستدرّ الشفقة بقدر ما يستدرّ الحريق الأدبي، وبقدر ما يفتح الدروب، دروب العين والقلب والتأمل والرؤية، إلى طعنات الشعر النجلاء، وترجماتها، والى جهنّم الذات الشعرية وتلبّداتها. تنطوي الانطولوجيا على ترجمات لقصائد مهلكة من فرط رؤيويتها، وعلى مقدمة دراسية ونبذ ومعارف ومقابسات ومقارنات وتحليلات، شعرية ولغوية ونفسية، وطبية.... فكأنها حصيلة عمل جماعيّ مضنٍ ودؤوب لفريق متكامل من الباحثين والدارسين والمترجمين، من العالم أجمع، في حين أنها صنيع الشاعرة والمترجمة جمانة حداد وحدهاquot;).
هل تؤمن حداد، حقاً، بالكلمة ـ القصيدة ـ الشعر بمطلقه، دون الإحتفال الخارجي والبهرجة المتوخاة، دون هذا الجنون والهوس بالذات؟ لا أعتقد ان الجواب متوفر لديها..

الجواب هو لدى أميلي بينيت السويدية التي أعدت وأصدرت قبل أشهر، وإن بإسهام عدّة مترجمين، انطولوجيا جميلة ذكية وهي على النقيض تماماً من انطولوجيا حداد.. المعنى الأخلاقي مغاير تماماً بالضرورة فهي لم تمجد فعل الإنتحار ولا تدعو القراء اليه أو تتغزل به مثل ما فعلت الأولى، بل العكس تماماً. انطولوجيا بينيت اسمها quot;قصائد للعزاءquot; ومن العنوان يُستشف ويعرف المحتوى وهي تأكيد على أهمية القصيدة و قابليتها على اجتراح الضوء مهما كان الظلام مطبقاً.. قابليتها على اجتراح الفردوس في جحيم الحياة الراهنة لانسان عصرنا الضاري.
هنا تعريف بالإنطولوجيا السويدية، من ترجمة صاحب هذه السطور، مستل من العدد الثاني من مجلة quot;ملامحquot;، الشعرية، الذي سيصدر قريباً:
حاجتنا الى العزاء والسلوى لا نهائية. هكذا كتب ذات مرة الأديب السويدي ستيغ داغرمان. وهكذا وفي مختلف المواقف الحياتية نحتاج الكلمات التي بإمكانها أن تتوسط بين الأمل وامتلاء المعنى. هذه الإنطولوجيا التي تضم 190 قصيدة هي من أجل أن تسعفنا بذلك. فالشعر كان، على الدوام، ملاذاً في لحظات الحياة الصعبة. وخلال مئات السنين حاول الناس أن يقدحوا بالكلمات فكرة أنه يمكن أن يوجد الضوء حتى في الظلام . quot;قصائد للعزاءquot; كتاب يحتوي نماذج من كل أنحاء العالم وكل الأزمنة. والمهم أيضاً ان هذه الإنطولوجيا تضمنت شيئاً
من الإرث الشعري السويدي والعديد من الشعراء الأكثر شعبية مثل:
كارين بوية، يلمارغولبيري إديت سودغران، و كريستينا لوغن. بير لاگركفيست، توماس ترانسترومر بو سيترلند. الأصوات العريقة المعروفة عالمياً كانت حاضرة في هذه الإنطولوجيا مثل جون دن، إميلي ديكنسون، هوبكنز، هولدرلن ووليم شكسبير الى جنب الأسماء المعاصرة مثل فيسما بيلسيفيكا (لاتفيا) وبي داو (الصين). ليلتقي القارىء، في المحصلة، بما يقارب 120 شاعراً وشاعرة بدءاً من الإغريقية سافو (600 قبل الميلاد) الى السويدية سارة هالستروم(1979). هذا ماجاء في كلمة الناشر.

ومن التقديم الموجز جداً لمعدّة الإنطولوجيا اميلي بينيت:quot;لا تكن خائفا من الظلمة لأن الضوء يرقد هناكquot;. هذه الجملة الإستهلالية من قصيدة للسويدي ايريك بلومبيري هي التي تقف وراء فكرة المختارات في هذه الإنطولوجيا. الشعر هو مصدر لانهائي للعزاء. في هذا الكتاب توجد مادة شعرية عضدت الناس في مواقف الحياة الصعبة خلال سنوات طوال.

كلمة أخيرة لجمانة لتكتمل quot;فرحتهاquot; بانجازها لو كانت ضمت الى كتابها الشاعر والروائي والصحفي السويدي، المتميز، ستيغ داغرمان الذي مات منتحراً بعادم سيارته في خريف العام 1954 وكان له من العمر 31 عاماً.