عبد الله كرمون من باريس: هكذا يدعى كتاب بيير بايار الذي نشره مؤخرا لدى دار مينوي. كتاب رائع بحق، استطاع من خلاله أن يدافع عن أطروحة، يُخيل إليك في البدء أنها منقوعة في غرابة بلا حد: كيف يحق لكم أن تتحدثوا عن الكتب التي لم تفتحوها قط؟ قد يُقرأ في مجابهته الرائعة تحريضا على اللاقراءة، وكم قد يشهد عليه الجميع أن عسله مدسوس بسم. ماذا إذن عن مرافعته الجميلة؟ هل يدفعنا بايار إذن مثل فوضويٍّ أن نتوقف عن القراءة؟ أليس موسوما بالجنون، كما أشار إلى ذلك، لقاؤنا الصدامي مع الكتب؟
بايار قارئ ماكر، يتقن فضيلة الغش النزيه، فهو يكتب بسلاسة قل قرينه فيها بين كتاب الفرنسية اليوم، لاسيما كونها مستوعَبة في برهنة منطقية جد متقنة ببراعة.
هو يدافع إذن عن اللاقراءة، ما ليس يعني انعدام القراءة، فقد أشار في بدء كتابه بأنه جاء من محيط عائلي لا يرعى اهتماما أكبر للقراءة والمقروء لذلك كما يقول فقد ألفى في حالات قصوى نفسه مرغما على التعليق على كتب لم يقرأها قط. خاصة وأنه جامعي إذ أن الجامعيين هم أكثر الناس تعرضا لأن يتحدثوا عن كتب لم يقرؤها أبدا نظرا لمتطلبات مهنتهم.
المشكل الذي لا يهون إذن تعترضه عقبات في عالم تقدس فيه الكتب، أولها كما فصلها بايار أنه تلزم القراءة بداهة. ثانيها أن ثمة كتب تلزم قراءتها خاصة أو أشد من ذلك أن تُستل في وجوهنا ضرورة قراءة كل شيء. على أن أجمل وسيلة للحديث عن كتاب هي في حال لم يقرأ في كليته بل أيضا في حال عدم فتح دفتيه بالمرة إذ أن مخاطر القراءة لا حد لها على القارئ النهم كما تعرض لذلك بايار في كتابه.

الكتب التي نجهلها
quot;توجد أكثر من طريقة لعدم القراءة ومن أكثرها راديكالية هي ألا نفتح قط كتاباquot;. من هذا المنظور عمد بايار إلى تنظير وضع عدم القراءة ذاك من خلال شخصية هامشية لدى موزيل في quot;رجل بدون خصالquot;، إذ القراءة في العمق هي اللاقراءة. فالسيد ستوم الذي التجأ إلى الخزانة التي يعمل بها شخص موزيل ككتبي أراد أن يوجهه هذا الأخير في بحثه وأن يريه بذلك إحدى التقنيات التي قد تخوله أن يقرأ أكبر عدد من الكتب، كان أن استغرب وشاء أن يدرك كيف يعرف هذا الكتبي كل كتب الخزانة على كثرتها إذ استفسره عن ذلك. رد عليه بقوله: لم أفتح منها ولو واحدا!
أمر هذه اللاقراءة غير متأت من اللاثقافة وإنما من رغبة شديدة في معرفة أفضل لهذه الكتب. لكن كيف ذلك؟
يرى الكتبي أن الانكباب على كتاب واحد يجعل القارئ يفقد سلامة المشهد العام. لذلك فشخصية موزيل هذا ليس يطلع سوى على قائمة الكتب. ذلك أنه كما وضح بايار ذلك ليس غير آبه بالكتب وليس دونما شك معاديا لها، فتلك شريعة حبه لها، ذلك أنه يخشى أن يصرفه تعلقه جد المفرط بواحد منها عن مجموعها. القارئ الحقيقي إذن من ليست تفقده الثقافة حسب بايار هو الذي يقرأ الكتب حول الكتب ويسعى إلى عدم فقدان النظرة الشمولية.
عدم قراءة كتاب ما إذن لا تمنع المثقف أن يتحدث عنه، يقول بايار، إذ هناك ثمة ضرورة ملحة للتمييز بين معرفة محتوى كتاب ما وبين معرفة الوضع الذي يشغله ويميزه عن غيرها. آنذاك يحق لمثقف ما أن يتحدث بالتالي عن كتاب لم يقرأه قط غير أنه يدرك مع ذلك مكانته بين غيره من الكتب. يقدم بايار مثالا ملموسا عن ذاته، فهو لم يقرأ أبدا يوليسيس جويس ومن المحتمل ألا يقرأه قط، كما يقول، غير أنه ليس يحدث له أن يجد حرجا في الحديث بتفصيل وإسهاب عن هذا الكتاب نفسه. فإذا كان يجهل محتوى الكتاب فإن مكانته بل وضعه معروف لديه كلية أليس مضمونه إذن هو مكانته نفسها وتميزه عن غيره؟
كل حديث عن أي كتاب ليس ينصب في واقع الأمر في مجموعه على الكتاب المعني بل على مجموع كتب وأشياء أخرى محيطة به من قريب أو من بعيد ما يسميه بايار كما دل على ذلك quot;بالمكتبة الجماعيةquot;.
اللاقراءة إذن كما وضح لنا بايار من خلال شخصية موزيل ليست ركونا إلى جمود بل نشاطا ثقافيا ذلك أنها ليست تساوي انتفاء القراءة، إذ أنها طريق تجنيد طاقاتنا دون أن يجرفنا سيل الكتب، كما وضح بايار ذلك، يلزم إذن أن يُدافع عنها وأن تُلقّن.

الكتب التي تصفحناها
مثال بول فاليري الذي لم يكتف بأن يقصي الكاتب عن حقل النقد الأدبي كما كتب بايار بل مضى حتى إلى إقصاء الكتاب نفسه. quot;قوة عبقرية فاليري تكمن في كونه عمد إلى تنظير ممارسته في القراءة، (...) ذلك أن امتناعه عن قراءة كاتب هو أعظم مجاملة يمكن أن يقدمها إليهquot;.
أورد بايار أمثلة عديدة عن جسارة فاليري من خلال حديثه أكثر من مناسبة عن كُتاب لم يقرأهم سواء بروست أو أناتول فرانس أو المفكر برجسون. أحاديثه نوع من التعميمات التي قد تنطبق على أي كاتب. ذلك أن quot;كل قراءة جد متأنية وحصيفة تمنع صاحبها من التمكن من موضوعهاquot; لذلك سعى فاليري إلى نحت نظريته عن المسافة التي يلزم اتخاذها بين القراءة والكتاب والكاتب من أجل النفاذ إلى عمق كثير من الكتب دون التأني كمضيعة للجهد والوقت على أعتاب كتاب واحد. لذلك ففاليري يدعو إذن إلى تصفح الكتب quot;كما دعانا أن نفعل ذلك بشأن بروستquot;. غير أن تصفح الكتب وتخطي صفحاتها يتم حسب بايار في مستويين، سواء شرعنا في قراءة الكتاب بدءا من الصفحة الأولى ثم عمدنا شيئا فشيئا إلى تخطي السطور ثم الصفحات متجهين بذلك إلى الصفحة الأخيرة أو بأن يتجول القارئ في الكتاب كيفما اتفق وعلى هواه كأن يبدأه من الصفحة الأخيرة دون تصميم أفقي للقراءة بل دائري يخطه كما يشاء. لكن أليست هذه العملية قراءة؟ من ذا الذي يمكننا أن نسميه قارئا حقيقيا إذن؟

الكتب التي سمعنا عنها
القراءة يمكن تعريفها أحيانا على أنها لقاء مع فكرة كتاب مّا ذلك أنه ليس من اللازم الانكباب على كتاب كي نتعرف على موضوعه ومحتواه. فقط كما كتب بايار يلزمنا الاكتفاء بالإنصات أو قراءة ما يقوله أو يكتبه عنه الآخرون. بعد ذلك لن نكون فقط على علم به بل نصل حتى إلى درجة إصدار حكم عليه. يضع بايار مثال شخصية باسكروفيل لدى أمبرتو إيكو في quot;اسم الوردةquot; والذي كون فكرة بل معرفة عن أعمال أرسطو دون أن يقرأها قط إلى درجة أن يعلق عليها. ذلك أن الكتب ليست تظل لوحدها شاهدة على ما فيها بعد نشرها إذ تتشكل حولها سياقات عديدة كما أن كل فرد يستطيع أن يشكل قراءته الخاصة عن نفس الكتاب مع أنه لم يقرأه قط. خاصة إذا كان الكتاب المعني خطير الوصول إليه كما يقول بايار بشأن كتاب أرسطو مسموم الصفحات لدى إيكو.

الكتب التي نسيناها
الكتب التي قرأناها ونسيناها يستوي حالها تماما مع حال عدم قراءتها بالمرة . quot;كلما شرعت في القراءة إلا وشرعت في الآن نفسه في نسيان ما أقرأه، هذه الصيرورة محتمةquot;. ليس من قارئ محمي ضد هذا النسيان، حتى أن مونتيني نفسه كتب حسب بايار أنه ليس ينهض للبحث عن معلومة في رفوف كتبه حتى ينسى تماما لماذا قام وما الذي دفعه إلى ذلك. إذن يتساءل بايار هل القراءة التي لم نعد نتذكرها أو ولو أي شيء عن المقروء يمكن أن تسمى بعد قراءة؟ أي كتاب إذا فتحناه سلفا سواء حول الكتب التي قرأناها ونسيناها وكيف أن ذلك يستوي تماما مع حال عدم قراءتها بالمرة أو لم نفتحه، ولم نعد نذكر منه نزرا فهو شبيه بغيره من الكتب الأخرى التي نجهلها. لذلك يكتب بايار أن تلك الكتب ليس يتبقى منها سوى عناوينها أو فقط بعض محتوى تقريبي يطفو على سطح وعينا.

حول القراءة
إضافات إلى كل الخطابات الممكنة في وضعيات خاصة وعمومية حول الكتب، حرص بايار كذلك على تلقيننا بعض تقنيات ونصائح حول القراءة والتعامل مع الكتاب.
فمن خلال الفكرة العميقة لكتابه، بغض النظر عن توثيقه الغني، يحرضنا على الإبداع والخلق لأن الحديث عن كتاب لم نقرأه قط هو بحق قمة الاختراع الفكري. أمر آخر هو رغبته أن يتخلص القارئ من ترسبات تربيته المبنية على قداسة الكتب؛ الكتب التي لا يلزم تحويرها بل استظهارها عن ظهر قلب. عمل فيه جهد تنظيري هام ونحت لمصطلحات إجرائية تقود القارئ وتتخذ بالتالي مكانها في باب جديد من الانشغال بالقراءة وأحوال القراء حول المعرفة وجدواها. كتاب جميل إذن عن فلسفة الرفض، ليست تغني مقالتي عن قراءته!