1
مامن شاعر أو تشكيلي أو مسرحي أو كاتب على امتداد الساحة العربية ومنذ الستينات تقريبا وحتى اليوم إلا وكانت أغاني فيروز جزءا من مكونه الخاص والمحرك الفاعل لمستفزاته الابداعية.. هل هذا المعنى مخالف للحقيقة؟ لا أظن أن أحدا من هؤلاء يقبل أن تكون حياته الخاصة والابداعية بمعزل عن أغاني فيروز تلك (هذه) الأغاني التي لاتزال عامرة بالحضور الخفي في كل ركن من أركان الرجوع الى الحياة، وصدقها وتنهداتها الحلوة والمرة، في زحام الموت والقلق والاحتراق اليومي الفارغ.. لكن المؤلم أن صاحبتها لم تحصل على رد الجميل.. ففي كل يوم تزدحم المواقع الالكترونية والصحف والمجلات بآلاف المقالات والمتابعات من دون ضوء على أثر صوت فيروز في تجارب مئات الشعراء مثلا، ولم يتجرأ أحد (إلا القليل جدا) أن يكتب ماأوحت به من قصائد وأجواء كتابة وممهدات للشحن والتفجر، بل وما أوحت له تلك الصور الشعرية الساحرة والبسيطة حد الحيرة، في تهيئة المناخ الصحي للخروج من الآني المقيت الى أفق بعيد للكتابة.

2
ثمة سحر خاص في كلمات اغاني فيروز.. تأخذنا الى أعماق فضاءات الروح وتدعونا هناك الى التـأمل.. وفي كل مرة أعود الى كتيبات وأرشيف فيروز لأبحث عمن كتب هذه الأغاني فلا أجد سوى (الأخوين الرحباني) وأتساءل : هل هو عاصي ام منصور؟ ومرة جمعتني مع منصور الرحباني أجواء ثقافية نادرة بحضور الصديق مروان الرحباني، يومها سألت منصور بشكل خاص وحميمي ظنا مني أنه سيجيب بنفس الخصوصية حين قلت له : من كتب قصيدة (بغداد والشعراءُ والصورُ) أنت أم عاصي؟ فرد بإصرار على رفض البوح بمثل هذه التفاصيل لاعلى صعيد الموسيقى ولا على صعيد الشعر.. واستمر الحديث لفترة أخرى حتى عدت به ثانية الى ذات النقطة ولكن من زاوية اخرى فكرر الرفض (نحن الأخوين الرحباني وكفى)....

3
دائما أبدأ يومي بأغاني فيروز، ودائما توقفني الكلمات : (طيف ياطيف عاجبني حبيبي... لوّح ياصيف رجعتنا قريبي) لم أكمل سماع هذه الأغنية لأن دمعة ً قفزت بما يشبه العتب أو الغضب، وتذكرت ساعتها أنني نسيت الصيف والشتاء، هما يمران علي من دون رجوع أو أي شيء آخر ! كم مر صيف وكم مرّ شتاء ولم أعبأ بهما بل ولم أعرف ما اذا مرا أم هما للآن في الطريق، ثم مالذي سيحدث اذا جاءا أو لم يجيئا، فأنا انتظرت ثلاثين عاما حتى لم يعد في الوقت انتظار، وحتى لم يعد ثمة شيء أنتظره... هل أختلق يدا تلوح لي من بعيد؟ وهل يحق لي أن أعرف شيئا آخر غير أنني وحدي؟ وانتبهت إلى أن الأغنية انتهت، هكذا مرت بسرعة ولم تتجاوز الدقائق الثلاث، دائما أغاني فيروز قصيرة، لمحة عابرة لكنها تبعث الروح من جديد، والأسئلة كذلك، وبدأت الأغنية التالية : (ياريت إنت وأنا في بيت.. شي بيت أبعد بيت) وأسأل : ماهذا؟ ماهذا؟

4
لي مع الصديق الكاتب والصحفي جمال حيدر ذكريات جميلة ومريرة أيضا، فهو من جوالي المنافي بامتياز، ومثله أنا، وغيرنا ممن نعرفهم ولانعرفهم، أحيانا نفرح لهذا البقاء البعيد في فضاءات الإغتراب الطويل، وأحيانا نحزن، لكن في كل مرة نلتقي أو نتواصل عبر الهاتف نقول لبعضنا شيئا يختصر الأشياء كلها.. ومن أقواله الجميلة حين نتحدث عن الحياة والثقافة والفن يقول (اثنان لم تجد بمثلهما أمة العرب فيروز والمتنبي) وأقول له صحيح جدا.. لكنه في مرة أخرى وفي غير مناسبة يكرر هذا القول، وأخجل أن أقول له لقد سمعت منك هذه الخلاصة مرات عديدة، وأبدي إعجابي بما يقول.. وهكذا تتكرر الجملة حتى أنني أحب أن أكررها الآن الى حد التبني والقبول المطلق، ففي كل مرة أتأملها أجدها في الموقع الحقيقي من التجربة...

5
في معركة دامت سنوات طوال مع الوالد المحافظ، كانت مفردات مثل راديو أو تلفزيون تعني خطا أحمر لايمكن القبول بهما حتى الموت ! إذكر ذلك أيام الصبا والشباب الأول من منتصف الستينات وحتى منتصف السبعينات، وكان الأصدقاء هواة الشعر والخطوات الأولى يتحدثون عن سهرة الإذاعة الكويتية مساء كل أربعاء حيث ساعة كاملة مع أغاني فيروز (من الحادية عشرة وحتى الثانية عشرة) وكان لابد من المجازفة ! وبشكل سري محفوف بخطر الكشف، اقتنيت جهازا صغيرا لايتعدى حجمه كف اليد، وأخفيته بطريقة مريبة في انتظار مساء الأربعاء، لكن وكما يقال يكاد المريب أن يقول خذوني، سمع الوالد الخبر، وحدثت المعركة، لكن الجميل أنها حدثت بعد مساء الأربعاء...

6
من الذي كان مركز التجربة؟ فيروز أم الأخوين الرحباني؟
في ظني أن هذا السؤال..... لماذا أنشغل بهذا السؤال؟ ثمة عالم آخر يشغلني أكثر، وهو الأجمل والأهم:
حبيبي بدو القمر والقمر بعيد والسما عالية مابتطالا الأيد