كوابيس في فيلم ينتقد الأخلاق من منظور أخلاقي

مازن الراوي من برلين: يقول المخرج الجيكي ميلوش فورمان في لقاء حديث معه quot;التاريخ غير رحيم مطلقاً، يعيد نفسه دائماً، ويكمن ذلك في أن القوى الأصولية المحافظة من الذكاء الشيطاني بحيث تبدو الحقيقة مرة، وهي أن الليبراليين سوف لن ينتصرواquot;. ويحاول فورمان بهذه الرؤية السوداوية أن يقدم فيلمه quot;أشباح غوياquot;، وهو فيلم يحتوي على جوانب كثيرة، ليس مركزها الفنان فرانسيسكو غويا ولكنه يريد به أن يجسد، في زمن الرعب والتعذيب، شخصية سلبية لم يحاول أن يتجاوز quot;الغليان العاطفي في داخله إلى اتخاذ موقف فعلي من أحداث عصرهquot; بل امتثل وصوّر القوة والسلطة واُعتبر رساماً للقصر. و يقدم الفيلم أيضا وقائع تاريخية عن فترة محاكم التفتيش في اسبانيا فيضيء بتوليفة متداخلة شخصيات مهمة تقوم بدور الجلاد وهي تملك القوة والسلطة وهي مقتنعة كلياُ بأنها تملك الحق في أن تمثل دوراً أخلاقيا في الإصلاح، فيما تتبدل مواقفها بتبدل الظروف وتبقى قناعاتها في هذا المجال ثابتة
.
فيلم ميلوش فورمان سياسي، يتعرض إلى نقد الأخلاق بمواقف أخلاقية، ومع أنه ينتقد الخاصية السلبية للشخصيات، كما في تقديمه لغويا ووصفه له بـquot;الجبانquot; إلاّ أنه مقتنع بأن العالم لا يمكن تغييره.
ويعتبر ميلوش فورمان واحدا من المخرجين المهمين اتخذ شهرته بفيلمquot; طيران فوق عش الوقواق ـ 1975quot; الذي نال عليه جائزة الاوسكار كأفضل إخراج. وفيلمquot; أماديوس ـ 1984quot;و quot; لاري فلينت: الحقيقة العارية ـ 1996quot;. ويعتبر فيلمه الأخير غويا من الأفلام المهمة التي تحدث عنه النقاد ووجدوا فيه تجسيداً لأفكار ميلوش في فيلم يتناول مقطعا من التاريخ لكنه يقدم رؤيا عصرية في معالجة مشكلاته وشخصياته ويوضح فيه من خلالها مواقفه.
ويدخِل ميلوش بحساسية استثنائية المُشاهد في أجواء تلك المرحلة التاريخية، ليس فقط من خلال عرضه لأعمال غويا بل من خلال الأجواء الكابوسية لتلك المرحلة القاسية من سيادة الوهم الديني الذي قاد الى محاكم التفتيش بما انطوت عليه من تجسيد القوة الغاشمة وممارسة التعذيب بقناعة كاملة. وهكذا فإن الأجواء الكابوسية جزء من الفيلم.

مشهد مرعب: إينيس الجميلة (ناتالي بورتمان) سقطتْ في أنياب محاكم التفتيش. تمّ تعذيبها وزجها في زنزانة، وهي تنتظر قرار موتها. أما القس الظلامي لورنسو (خافير بارديم) المسؤول عن ذلك فيجلس هادئاً أنيقاً إلى منضدة ويحظى برعاية والدي إينيس بينما يناقش معهما مسألة الصدق والكذب في اعترافاتٍ انتزعت من ابنتهم بالتهديد وبالتعذيب.
انه زمن مظلم وأوقات صعبة في اسبانيا. محاكم التفتيش في حالة سعار. في نفس الوقت، وفي هذا الخضم، هناك رسام مثل فرانسيسكو غويا (ستيلان سكارسغارد) يحظى بتقدير رفيع من قبل القصر، وهو لم يقدم على الاحتجاج أو ينتقد الوضع القائم.
كان غويا يساوم ويتغافل، يرسم كل ما يراه تقريباً. يقوم بإنجاز البورتريهات للمتنفذين وهم في السلطة، وكذلك يرسم الناس العاديين في الشوارع بنفس الدرجة من الواقعية، كما يراهم هو. كان غويا يصوّر ويوثق في أعماله المعاناة والوحشية التي يراها عياناً ويطبق بذلك المقولة: لست أنا إلاّ مجرد فنان.
إذاً غويا هو واحد من المراقبين العرضيين ينظر إلى ما يحدث ويسجله من دون ان يتعامل ويتفاعل من أجل تغيير الواقع الوحشي الذي يحيط به. لقد سجل هذا الفنان الواقع كما رآه دون أن يجمّله أو يحسّنه ويغيّر من صورته الحقيقية. لكنه مع ذلك لم يتصد لتغيير الواقع المادي نفسه. ولكن ألا يعني التوثيق التصدي لتغيير المعطى القبيح وتشكيل الوعي بضرورة التصدي لتغيير المعطى القبيح إلى ما هو أفضل؟. وهل الصور ليست سلاحاً عندما توضع في يدٍ غير مناسبة؟
إلاّ أن غويا يبقى على الحياد وينأى بنفسه عن التجاذب وعن الانخراط في الواقع بغية تغييره. والواقع أن صمته وحياده وابتعاده عن الانخراط في الواقع بفعالية كلفه بعض الشيء، لكن المشاهد لا يطل على خسارة غويا من خلال فيلم ميلوش فورمان، ذلك لأن الفيلم لا يقدم غويا كشخصية مركزية يدور حولها الفيلم ويريد تجسيدها، غويا شخصية ثانوية في الفيلم
وهذا أمر جيد من ناحية، لأن تقديم وعرض صور عديدة لغويا تمنحنا الكثير من المعرفة عن quot; شخصياتquot; تلك المرحلة وتحكي أيضاً عن الفترة التي أصيب فيها بالصمم، وتجسد كذلك الفترة التي هرب إلى المنفى الفرنسي. ومن الواضح أننا نتعرف جيداً على محنة فنان أعتبر رسام القصر في تلك المرحلة. محنة عميقة طبعت فيه آثار المعاناة والآلام.
كل زمن قاس ومعتم، هو الزمن الذي يحاول ويعني المخرج يانوش فورمان بتجسيده. كل زمن مظلم لا بصيص نور فيه، وتتمثل القسوة فيه هو ما يريد أن يركز عليه. زمن يجلس الجلاد مع ضحاياه إلى منضدة واحدة إثر اغتصابهن أو بعد فترة وجيزة من ذلك.
ينصب اهتمام فورمان على شخصيات يحبذها ويحاول أن يضيئها وفق رؤيته. وهو بذلك يعني بمسألة الأخلاق في الدرجة الأولى، الأخلاق التي تسود في زمن صعب وتتعايش مع الظرف السائد فتجتاز المرحلة. أخلاق تتكيف وتكون ملائمة لكل زمن: أخلاق تتصف بالانتهازية وبالوصولية وبالقدرة على التكيّف، وفي نفس الوقت يتصف بأخلاق رجل السلطة والقوة.
هكذا فان القس لورنسو، في الفيلم، هو رجل من هذا الصنف، خدمَ محاكم التفتيش وكان مرعباً ولكنه بعد ذلك خانها. هرب إلى فرنسا ثمّ عاد مرة اخرى كوزير لنابليون هذه المرة. عاد رجلا مثالياً أخلاقياً، بطريقته الخاصة. إنه واحدٌ من اولئك الذين يستطيعون دوماً إقناع أنفسهم بأنهم يخدمون ويضحّون من أجل قضية عادلة. الواقع أن هذا الأمر وتلكم الشخصيات التي أراد ميلوش تجسيدها هي من أكثر الشخصيات خطورة على الوضع البشري، كما يوحي بتجسيده لها.
وميلوش الجيكي الذي استقرأ وخبر عياناً التاريخ البشري الذي يراه محفوفاً بالجريمة وبالقتل ومملوء بالمآسي يعرف في الواقع عنماذا يتحدث وما الذي يريد أن يقوله في أعماله الفنية. في فيلمه غويا يفضح ميلوش، بتسليطه الضوء على صورة مهمة في مقطع من التاريخ، ومن خلال تجسيده الغني لصور وحقائق التعذيب، لا ينفك من استزادة العذاب والجوع وبلبلة الأفكار والإحباط لدى الرأي العام. هكذا تتحرك الكاميرا وتتجوّل إلى ما لانهاية وهي تحيط بالمرحلة من خلال تصويرها العري والأجساد المعذبة والمسلوخة الجلد، ولكن من غير أن تبعث تلك المشاهد الرعب ودفع المشاهد لاغلاق عينه. كل صورة بمفردها، وبضمنها صور غويا، فاعلة ومؤثرة وهي تغني المشهد.

ميلوش: كان غويا شخصية جبانة
وفي لقاء مع ميلوش فورمان أجراه سباستيان هاندكه لصحيفة الـ quot; تاغس شبيغلquot; بمناسبة عرض فيلم quot;غوياquot; أضاء ميلوش ما أراد أن يقوله في الفيلم، فضلاً عن موقفه من التاريخ ومن الأحداث الجارية. ومن أجل التعرف على أفكاره وعمله الفني في فيلمه غويا الذي يعرض حاليا في برلين نقدم عرضاً لهذا اللقاء:

ـ أبطالك في الغالب هم ليسوا في المركز، يواجهون الأحداث ويتعرضون لها ويسقطون في أزمة مع القوانين ومع مجريات الأحداث في عصرهم. غويا لم يكن في الواقع شخصية تقاوم وتناضل ضد ما يراه وما يحدث أمامه.

ـ كان غويا شخصية سلبية، على الأقل أزاء ما كان يحيط به. ما نراه في أعماله الفنية، من احتدام المشاعر والفروقات بين لوحة واخرى، وتناقضات وتعارضات فيما حققه من أعمال، هي حصيلة غليان عاطفي اعتمل في داخله. ولكن يبدو أن رأسه كان اشبه بالمرجل الكبير، يحتوي على ما هو جميل وعلى ما هو محتدم كالجحيم. طرفان يتناقضان ويتعارضان فيما بينهما.
لم يكن غويا يثق بأحد. لم يترك لنا أية مذكرات أو ملاحظات. والرسائل التي كتبها الى صديقه مارتن زاباتير هي الرسائل الوحيدة التي كتبها، لكنها مع ذلك رسائل لم يكتب فيها إلاّ ما هو عرضي ولا تحظى بأهمية تذكر. في الحقيقة لم يكن غويا إلاّ شخصية جبانة.

* ولماذا تقدم إذاً فيلماً عن غويا؟
ـ كان غويا يعتبر نفسه هو المركز، لأن الأطراف كانت تتجاذب وتجتمع عنده: أولئك الذين يمثلون القوة والسلطة وأولئك الضعفاء المعدمين. لقد رسمهم جميعاً وجسدهم في أعماله الفنية. بالنسبة لي، أنا لا أريد أن أقدم بورتريه عن فنان عبقري. أريد أن أقدّم شيئاً أكثر شمولاً. في الواقع تعود البدايات الأولى لفكرة الفيلم إلى وقت بعيد، تعود إلى سنوات الخمسينيات عندما كنت لا أزال في المدرسة الفنية في جيكوسلوفاكيا. آنذاك جرى نقل محاكمة صورية عبر المذياع اعترف فيها المتهمون بجريمتهم جهاراً، وهم في الواقع لم يقترفوا أية جريمة، ومع ذلك ترجّوا علنا لأن ينالوا عقوبة الاعدام التي اكدوا انهم يستحقونها و حكموا بها!!!.
لقد تسنى لي أن التقي فيما بعد بواحد من هؤلاء. كنت أريد أن أعرف أية أشكال من التعذيب دفعتهم إلى الاعتراف. كان الأمر بسيطاً للغاية: سبعة أشهر حرمان من النوم ويعترف المرء بكل ما يراد منه!!!.

* وهكذا فان فيلم غويا هو سياسي بالدرجة الأولى؟
ـ أفلامي هي سياسية دائماً، حتى إذا ما تناولت فيها أحداثاً تاريخية. التاريخ غير رحيم مطلقاً، هو يعيد نفسه دائماً، ويكمن ذلك في أن القوى المحافظة الأصولية من الذكاء الشيطاني، آنذاك وفي الوقت الحاضر، بحيث تبدو الحقيقة مرة، حقيقة أن الليبراليين سوف لن يفوزوا مطلقاُ.

* الفرنسيون والاسبان ممسوسون بتحقيق ثورة نموذجية مثالية، وتصوّر أنت في فيلمك بأنهم ليسوا محرريين؟
ـ حسناُ، لقد تمكن نابليون من إنهاء الملكية، ومحاكم التفتيش في اسبانيا، ولكنه لم يكن يعرف شيئاً عن اسبانيا حينما جرد وجند لها القوة. إفتح التلفزيون الآن وانظر إلى الحدث الأبرز: يرى المرء على الشاشة الجنود الأمريكيين غير منهمكين في بناء الديمقراطية، بل هم منهمكون في القتل. قال ديك تشيني قبل الحرب العراقية quot;سوف يستقبلوننا بالورود كمحررينquot;، وكانت هذه هي كلمات نابليون بالضبط التي قالها أمام جنرالاته قبل أن يدخل اسبانيا، لكن سرعان ما باغتته مواجهة صعبة اضطرت الفرنسيين للتقهقر، وأعتقد بأن هذا ما سيحصل بالضبط للأمريكيين في العراق.

بريد قسم السينما في أيلاف

[email protected]