اعتدت وأنا أجمع حبات اللفت من حقلنا الممتد على الجبل مثل جناح نسر، أن أرى الرجال المدججين بالسلاح الذين كنت اسمع قصصا لا تنتهي في ليال القرية وصباحاتها من الرجال والنساء.
كان ثمة شوق سري جارف يخضر في أعماقي، إلى رؤية هؤلاء الرجال عن قرب، ثم ما لبث أن تحول إلى فكرة استولت على تفكيري وعقلي وجسدي الغض ذي الستة عشر ربيعا. كان الحقل هو المكان الذي قررت فيه تغيير مجرى حياتي التي كانت تغيير قدرها ومجراها في علم الغيب حتى تلك اللحظة. كنت صبية غريرة غادرت مقاعد المدرسة، صبية كان صدرها يتكور للتو كبرتقالة خجولة.
أخفيت الفكرة في دهاليز روحي ومغاليقها، وقررت مع ابن عمي الصعود إلى الجبل لأكون قريبا من الرجال الذين كبرت على أساطيرهم. لم أنس أن ضع ملابسي في صرة صغيرة، وفي جنح الظلام ودعت أمي التي كانت وحدها تعلم بقراري.
ظللت أمشي مع ابن عمي دون هوادة في جنح الظلام، ولم نشعر إلا بعد ساعات طويلة من المشي بالنهار وهو يطل علينا من خلف ذرى الجبال.
بعد اسبوعين من وصولي سمعت أن أبي بعث إلى قيادة الحزب مهددا طاليا إعادتي والا سيقوم بإبلاغ السلطات عن أعوان الحزب في القرية. كم غضبت يومها على أبي، فأنا لن أتحمل حياتي الأسرية الهادئة مرة أخرى! أصررت على البقاء مهما كان الثمن.
أول حزن حقيقي عشته في الجبل كان يوم مقتل ابن عمي، الذي قضى نحبه بعد انفجار لغم أرضي تحت قدمه فمزقته إربا. لقد تجمد عقلي ومشاعري لحظتها، وكان من الممكن ان أبقى كذلك لولا يد أحد الرفاق التي انتشلتني من اللحظة التي نسيت فيها لفترة المكان والزمان.
كان أملي الوحيد منذ وصولي هو رؤية القائد، الذي كنا جميعا نتحدث عنه بقدسية. سيطرت الفكرة علي تماما بحيث لم أعد أستطيع عنه فكاكا. كنت في شوق جارف مشوب برهبة إلى رؤيته لأتطلع عن قرب إلى قامته المهيبة.
لقد رفعته في ذاتي إلى مصاف الأنبياء، سيما أنهم كانوا يتحدثون عنه وكأنه نبي أو نصف إله. شخصية اسطورية يجسد كل معاني البطولة والشجاعة والشرف والشهامة والإباء في شخصه.
كنت أصدق كل ما يقال عنه لأنه كان ببساطة بطل كل الأساطير والحكايات التي تربيت على سماعها.
كان شيئا مصيريا لي أن أرى لو لمرة واحدة في حياتي، كانت في قلبي لهفة كبيرة لرؤية محيا الزعيم، زعيم أحلامي المزدحمة بالأبطال الأسطوريين.
ثمة فضول يجتاحني ويزلزل كياني لمعرفة هل أن القائد يمشي مثلنا ؟ ويغضب ويحب مثلنا أيضا نحن المتولهين به وبنضاله ؟
مستحيل!.. فالزعيم الملهم أبعد مما أن يتصوره خيالي الضحل والمحدود. فهو مثل النسر في قمم الجبال الشماء. يطل علينا من علي. يرانا من عرينه وعرشه ولا نراه. يعرف عنا كل شيء، ولا نعرف عنه نحن شيئا، لأن أبصارنا لا تستطيع أن تبلغ قمته قط.
لكن تلك اللحظة الحاسمة حلت، وكنت أظنها لن تحل أبدا!
كنت أعيش في أقصى مديات الخيال والحلم. هل صحيح سأحظى برؤياه ؟!.. هل سيطل على مجموعتنا كما تم إبلاغنا ؟ محال محال.
كنت أخشى أن يغمى عليً في تلك اللحظة التي ستختلط فيها الحقيقة بالإعجاز، لحظة رؤيتي للزعيم بكل مهابته أمامي وجها لوجه! فقد سمعت من العديدين أن كثيرين لم يتحملوا بهاء هذه اللحظة الساطعة والمشرقة فأغمي عليهم لحظة إطلالته عليهم.
لم يلبث أن حانت تلك اللحظة في يوم ما، توقف فيه الزمن، وشلت عقارب الساعة وتوقفت عن الحركة.
حضر الزعيم برفقة فريق من أفراد الحماية. أثار الأمر دهشتي.لماذا يطل علينا الزعيم علينا، نحن أنصاره ومريديه ومحبيه في الجبل الذي لا يضم غيرنا، بصحبة الحراس المدججين بالأسلحة الرشاشة ؟
لم أجد غضاضة في أن أتجرع في حياتي كأس الخيبة، في هذه اللحظة التي طالما انتظرتها، وهي لحظة إطلالة الزعيم واشراقته علينا. أصبت بخيبة أمل عندما رأيته أمامي بلحمه وشحمه ودمه.
لم يكن كما كان البطل الأسطوري، الذي هدهدته في خيالي وأضفت عليه صفات القداسة والفرادة والبهاء.
زاد حجم الخيبة في روحي حينما وقف أمامي مصافحا. لكن سحنته تغيرت بعد ان همس أحد أفراد حمايته. تأملني بوجه عابس قائلا:
ـ أبوك رجل سافل، وهو عميل حقير. وبيتكم مقر أعداء الثورة..ثورتنا وسوف نهدم هذا البيت على رؤوس خونة الثورة..ثورتنا المظفرة.
على العكس مما كان متصورا لكل من يتعرض إلى مثل هذا الموقف إلى هذا الزجر والتوبيخ، لم أغضب. ولم أثر في أعماقي، بل هزت رياح فرح طاغ أعماقي الغضة. كان المهم بالنسبة لي هو أن الزعيم المفدى يعرفني ويعرف أسرتي.

وقف الزعيم فترة قصيرة يتأمل تدريباتنا. كان تهديده لعائلتي بمثابة وسام لي. ولو طلب مني في لحظتها أن اصفي عائلتي، لأطعت أوامره وأنا مغمضة العينين من النشوة، ولأطلقت زخات من الرصاص على رأس أبي لأنه عدو الثورة كما قال الزعيم. والزعماء لا يكذبون!
فيما بعد كان طبيعيا أن أتعود على طعم الجرح ورائحة البارود بعد مشاركتي في اشتباكات مسلحة ضد الجيش، الذي كنا نصطدم معه كلما واجهنا أفردا منه. لا أدري كم شخصا قتلت ؟ وهل قتلت أحدا بالفعل ؟
في تلك السنوات لم أكن اهتم بذلك، لأنني كنت على علم أن طريق الثورة ليس مكللا بالزهور والرياحين، كما يردد البعض كالببغاوات. بل مفروش بالدم والعذابات، ولك شيء يهون في سبيل الثورة والقائد والحزب.
هناك عرفت ان لكل شيء حدود، وإننا لا نمتلك إرادتنا إلى السير في فسحة الحرية التي يتركها لنا مسؤولونا وقيادة الحزب.
في البداية لم أكن اعي ذلك بل كنت أنطلق بجموح الفرس في مناقشات لا تنتهي مع الآخرين. وعندما حكم علي بالسجن الانفرادي، علمت ان حريتي يحددها الحزب، وان علي أن التعود على ذلك، وان انظر إلى كل شيء بعيون الحزب وقائده، وليس بعيني أنا.
حكم علي بالسجن الانفرادي عدة مرات، واكتشفت بعد خروجي في كل مرة، بأن أحدا من رفاقي لا يتحدثون معي لفترة معينة عقابا لي على عدم التزامي بالتعليمات.
سئمت من تعاملهم الفظ مع النساء، والذي كان ينحصر تنفيذ الأوامر وتلبية احتياجات المقاتلين الرفاق. لم أتحمل هذا النمط من الحياة:
ـ رفيقة دنيا احضري لي الشيء الفلاني!
ـ انقلي مع رفيقاتك هذا الكيس إلى المخزن!
ـ اشتركي اليوم في إعداد الطعام!
في ذلك اليوم رفعت راية التمرد وطلبت منهم أن يشركونني في القتال والا سأطلق طلقة على رأسي وأنتحر أمامهم، لأنني لم التحق بالثورة للعناية بالمرضى وإعداد الأكل وغسل ملابس الرفاق. أرسلت رسالة بهذا المعنى مع رفيق لإيصالها إلى القيادة.
فوجئت بأن الرفيق الذي حملته الرسالة، سلم رسالتي إلى مسؤوله. فكان ان تم استدعائي من مجموعتي بواسطة اللاسلكي. تعرضت إلى توبيخ وتأنيب لتجاوزي المراجع الحزبية. منعت من الاتصال بالمقاتلين لمدة اسبوعين. لم يحدثني خلالها أحد بكلمة. أجبرت على تناول طعامي لوحدي دون ان يشاركني احد.
بعد انتهاء فترة التجريد تم استدعائي وطلبوا مني بلهجة لطيفة ان التزم بالتعليمات، ولم ينسوا التأكيد لي بأنهم يعتزون بي كرفيقة وكمقاتلة.
طوال فترة التجريد أحسست بأنني من كوكب آخر.لا أنتمي إلى هذا العالم الذي تشرق عليه الشمس كل يوم، وتغيب عنه في ميقات معلوم. كنت وحيدة، لم يسأل عني أحد. فكرت لو هربت من المعسكر فإلى أين سأتجه، وعيون الثوار في كل مكان من الجبل ؟
فقدت رغبتي في الدخول في الاشتباكات المسلحة بعد إصابتي في إحدى المرات إصابة بالغة، خضعت خلالها فيها على يد أطباء الحزب لست عمليات جراحية.تحولت بعدها للعمل في الإذاعة السرية للحزب.
مع الزمن أدركت أن البيت الذي يقيم فيه الزعيم يسمى ببيت الإعداد. إلا أن ما زاد من استغرابي هو اختيار الجميلات من المقاتلات وخاصة الشقراوات منهن بشكل عام، إلى هذا البيت.
لم أكن يدري في كنهي بأنه سيتم استدعائي في يوم إلى هذه الدار. استقبلتني في صالة الدار التي ولجتها برهبة المشرفة على الشؤون الخاصة للزعيم. سرعان ما قالت لي بلهجة آمرة، بأن علي أن أقوم بتدليك جسم الزعيم.
عندما دخلت غرفته كان فرائصي ترتعش رهبة. أما هو أي الزعيم فقد كان جالسا على مقعد.بدأت بتدليك قدميه اللتين كان قد وضعهما في إناء مليء بالماء الدافيء. بدأت بدعك قدميه بكل ما أتيت من مهارة، لكن ذلك لم يمنعه من تعنيفي واتهامي بأنني غير ماهرة في التدليك. ثم تمدد دون أن يبالي باستغرابي على السرير طالبا مني أن أدلك جسمه.
فهمت ما ينتظرني على يده، بعد أن رأيت مظاهر الشهوة في عينيه وبين فخذيه.
قال لي بلهجة آمرة:
ـ اخلعي ملابسك!
أطعت أمره، لكنني أبقيت على ملابسي الداخلية.
واصل لهجته الآمرة:
ـ اخلعيها!..تعري تماما!
فعلت طائعة ما أمرني به القائد. شعرت بالرجفة والرعب حينما نهض واحتواني بين ذراعيه.بدون شعور ضربته على صدره ربما لحماية نفسي. كان رد فعله غير متوقعا. لكمني بقوة فوق عيني اليمنى.ثم بدا يهينني ويشتمني:
ـ منحطة! سافلة! سخيفة!.. أنا أريد تحرير جسدك من التقاليد البالية التي لا تزال تتحكم بك. هل تتصورين بأنك بصعودك إلى الجبل تحررت من عقدك! أريد أن أساعدك لتحرير جسدك وتحطيم أغلاله.
طردني من الغرفة وهو يصرخ خلفي:
ـ انقلعي! ستبقين مجرد عبدة!
عند خروجي استدعتني المشرفة على بيت الإعداد، إلى غرفتها.كانت في الغرفة عدة فتيات.نهرتني بحضورهم وزجرتني.بدت في تلك اللحظة وكأنها مسؤولة عن قسم الحرملك في القصر العثماني:
ـ القائد يريد تحريرنا من عقدنا وأدران التقاليد. إلا تريدين التحرر ؟ إلا متى ستيقين تعانين من الازدواجية كمقاتلة ثورية وبين امرأة لا تزال تتحكم بها التقاليد ؟.. انك لربما تنظرين إلى القائد وكأنه رجل عادي. تخطئين لو فعلت ذلك. انه القائد، انه النبي الذي قدم لكسر أغلالنا!
في المساء استدعاني مجددا إلى غرفته. في هذه المرة كنت على أتم الاستعداد للاستسلام إلى أحضان القائد.
فض بكارتي في ذلك المساء. لم يكن ثمة من أشكو إليه معاناتي وقلة حيلتي. لم أجد نفسي قريبا من فكرة الموت كما كنت في ذلك المساء.
استدعاني بعد ذلك إلى فراشه مرتين، ولم ينس وأنا اخرج من غرفته أن يحذرني:
ـ إياك وممارسة الحب مع رجل آخر! فمن يتم إعدادها هنا، هي خاصتي، وعليها أن تبقى كذلك!
كان الحب محظورا على الجميع. محظور أي تقارب بين المقاتلين والمقاتلات. فالحب مخالف للتعليمات، لأنه يضعف الانضباط الحزبي والروح القتالية التي يجب يتحلى بها الرفاق والرفيقات. فالجميع هنا للقتال وليس لممارسة الحب.
لقد بلغ تشدد الحزب في الموضوع إلى درجة إعدام النساء اللائي يسمع نداء القلب والعواطف، على يد حظيرة إعدام جلها من المقاتلات. وكانت كل مقاتلة توكل إليها المهمة تقوم بها بغل وتشف وكراهية لا يمكن تخيلها.
كم من رفيق أطلق عليه لقب (خائن) لأنه أصغى لنداء القلب وأحب في هذه الجبال، وسط الصمت الذي لجا صبيا او صبية غريرة مثلي.
ان أنسى فلن أنسى بصيرة، ابنة احد الإقطاعيين التي لجأت إلى الجبل وهي في الثانية عشرة من عمرها. وكانت قد حزمت أمرها على الفرار بعد بلوغها السادسة عشرة.إلا أنهم اكتشفوا أمرها قبل ان تقدم على تنفيذ خطتها بعد ان وشت بها أقرب صديقاتها.
في مشهد لن أنساه ما حييت أرغموا جميع المقاتلين والمقاتلات على مشاهدته، طلبوا منها أن تحفر قبرها بنفسها. كان ذلك في يوم تموز قائظ. عندما سئلت عن آخر طلب لها في اللحظات الأخيرة من حياتها.
صرخت بأعلى صوتها:
ـ يسقط الزعيم!
أطلقت الرفيقة العرجاء أطلال، النار على ساقيها فهوت في القبر الذي حفرته بنفسها. أجهزت عليها بقية المقاتلات، وحطموا رأسها رجما بالحجارة بين زغاريد بقية النساء وهتاف المقاتلين، وكأنهم قد أحرزوا نصرا حاسما على قوات النظام.
لا تزال أيام (مائلة)، نابضة في بصري وبصيرتي. فرت لتنقذ حياتها بعد ان اكتشاف علاقتها مع بهادر. عندما بلغت صخرة قرب جبل يجري تحته نهر بهدوء، غير عالم بما سيحدث بجواره قريبا. بدأت بغسل وجهها بمياه النهر الوديع. لم يكن ثمة من يسمعها، ويستمع إلى أنين روحها.
عندما رأت حظيرة الموت النسائية تقترب منها، قبضت بيدها على قنبلة كانت تحملها. حملقت في وجوه أفراد الحظيرة وزميلاتها اللاتي حضرن ليشهدوا مهرجان إنزال القصاص بها. وقفت تتأمل وجه من أحبت شرف، الجبان الذي كان يقف مع الحشد. صرخت بأعلى صوتها:
ـ لا تقتربوا مني! لا أريد ان الحق أذى بأحد!
ثم فجرت القنبلة وتمزقت أشلاؤها التي سقطت في النهر الذي كان يجري بهدوء غريب، وهو يحمل أجزاء من جسدها الممزق.
عقد اجتماع بعد أيام من الجريمة لمناقشة الموضوع بهدف تثقيف المقاتلين ثقافة ثورية. وكم أصبت بالغضب والإحباط وبمشاعر متناقضة لا أستطيع وصفها، تم الإعلان انها استغلت أنوثتها للتغرير بالرفيق شرف، الذي لا تشك القيادة في صلابته الثورية وإخلاصه للحزب والقائد.
كم شعرت بالضغينة تجاهه وأنا أرى مدى خسة وجبن هذا اللعين الذي فدته بحياتها شبابها وهو يقول:
ـ أجل أيها الرفاق لقد غررت بي. كانت مجرد شيطانة، حاولت ردعي عن طريق الثورة والقائد. استسمح القيادة الحكيمة إعطائي فرصة لإصلاح ذاتي واستعادة روحي الثورية.
قوبلت كلماته بالتصفيق من قبل الرفاق. وقد كوفيء من قبل قيادة الحزب بمناسبة شجاعته في النقد الذاتي لأخطائه بمنحه مسدسا مهدى من القائد مع ترقية إلى منصب قيادي أعلى.

فصل من رواية (وداعا سيلوبي).