اسمي مهدي، شابٌ عادي، موظف بسيط، لا أملك سيارة ولا دراجة ولا حتى زلاجة، أقيم مع أصدقائي حيث أعمل، نتكدس ثمانية أجساد في غرفة واحدة ملحق بها حمام صغير ومطبخ أصغر وصالة كالجُحر، وفي الإجازة الأسبوعية أزور أهلي تخفيفاً للأعباء المالية وهرباً من المصروفات. أحياناً يقلني أصدقائي وأحياني يقلني المعارف ومرات أقف على الطريق العام لمن يمكن أنْ يقلني مجاناً وما أكثرهم.

الأسبوع الفائت تعلمت درساً.. لا تستقل سيارة يقودها مطوع شاباً كان أم شيخاً. أبداً لا تفعل ذلك، وإلا تركك أشيب الشعر غائر العينين فاقد الذاكرة مشلول الحركة. وقفت على الطريق العام منتظراً رأفة سيارة تقف لتقلني، لأني ولحظي التعس لم أجد من أذهب معه وكان يجب أنْ أذهب بأي طريقة لأنَّ أبي قرر أنْ يعقد قراني على ابنة عمي واتفقوا واتفقنا جميعاً على ذلك اليوم، ولأنَّ حظي كان تعساً أيضاً، فلم أستطع الحصول على يوم إجازة، لأن الشركة كانت تستقبل وفوداً من جميع أنحاء العالم. لا بأس، فقد كنت قانعاً وراضياً، ابنة عمي جميلة وهادئة وتعجبني، كما أنها مثقفة وسوف تتخرج بعد سنتين، كنا متفقين أنا وهي وراضيين، هذا كله ليس جديداً. أين كنا؟ نعم تذكرت، حين وقفت على الشارع العام منتظراً سيارة وكانت الساعة الثالثة بعد الظهر، وعقد القران بعد صلاة المغرب مباشرة أي الساعة السابعة والنصف تقريباً، والمسافة تتطلب ساعتين، وأحتاج ساعة للاستعداد قبل الذهاب إلى المسجد حيث يُعقد القران. وقفت بجانبي سيارة لم أعرف ماركتها ولم أحدد لونها، فقط رأيت سائقها رجلاً في الأربعين من عمره، وكان واضحاً من لحيته الطويلة، أنه مطوع أي متدين جداً، سألني عن وجهتي وقال إنها وجهته تقريباً، ابتسمت وركبت إلى جانبه، وبدأ التحقيق:
ما اسمك؟
ـ مهدي.
ماذا تعمل؟
ـ موظف.
أين؟
ـ شركة الغاز.
أي فرع؟
ـ الرئيسي
متزوج؟
ـ لا.
تعرف فلان الفلاني يعمل في شركة الغاز؟
ـ لا.
غريبة مع أنه في الفرع الرئيسي.
ـ.......
هل تستلم راتباً جيداً؟
ـ نعم.
الحمد لله إذن وضعك جيد؟
ـ نعم.
الحمد لله، بارك الله لك في مالك، هل صليت الظهر؟
ـ.......
لا تخشى شيئاً، سنتوقف عند مسجد الرحمة ونصلي هناك قَصْراً.
ـ أنا صليت جَمْعاً في الشركة.
الحمد لله يبدو أنك إنسان طيب.
ـ هل ستتأخر في الصلاة لأني مستعجل.
لا، ركعتا العصر فقط قَصْراً.
ـ تمام.
ما بك؟ مريض؟
ـ لا.
مهموم؟ تحتاج مساعدة؟
ـ لا.
لا تقلق، ستصل بالسلامة، أنا لا أتجاوز الثمانين كيلو في السرعة.
ـ واضح.
عندك عمل ضروري في البلد؟
ـ نعم.
ما هو؟
ـ عمل خاص.
الحمد لله، أعذرني لا أقصد التدخل.
ها هو المسجد، انتظرني هنا، أو إذا أحببت يمكنك أنْ تتوضأ وتقرأ شيئاً من القرآن حتى أنتهي.
ـ لا بأس سأنتظرك.

مرَّت عشر دقائق، ربع ساعة، نصف ساعة، وكدت أنفجر لولا أنْ ظهر بابتسامته العريضة.
السلام عليكم.
ـ وعليكم السلام.
الحمد لله صليت واستطعت الاستماع لحديث الإمام، كان مفيداً، والله يا أخي شباب هذا الزمن مبهوتون بالمدنية والحضارة ومعظمهم ينسى صلاته وأمور دينه.
ـ.......
لكن أتمنى من الأهل أنْ يعودوا لوعيهم ويلتزموا بدينهم أمام أولادهم حتى يكونوا لهم قدوة حسنة.
ـ نعم.
هل أنت متعلم؟
ـ نعم.
ما هي دراستك؟
ـ دبلوم.
جيد والله هل تفكر في إكمال دراستك؟
ـ لا.

مضت ساعة ونصف ولا يبدو أننا اقتربنا من القرية، هل سأصل؟ بعد ربع ساعة أخبرني أنه مضطر للوقوف كي يقدم واجب العزاء، لقد توفي جد زوجة زميله بالعمل ولا بد من أداء الواجب.
ـ أرجوك إنْ كان لديك أعمال أخرى فسأرى سيارة أخرى، يجب أنْ أصل قبل صلاة المغرب.
لا.. لا.. مستحيل، لن أتأخر، أعدك، تفضل معي فكلنا أخوة.
ـ شكراً، لا أستطيع.
تمام، انتظرني.

بعد أربعين دقيقة من الحر والصمت والغضب والحيرة ما بين ترك السيارة أو البقاء خوفاً من عدم الحصول على سيارة أخرى.. ظهر مُترنحاً.
الحمد لله لقد أديت واجبي وأشعر براحة.
ـ الحمد لله، أرجوك، انطلق، أنا مستعجل.
عندكم عرس؟
ـ.......
حاضر، لكن سبب تأخري بالداخل هو أنَّ والد زوجة زميلي أصر على أنْ أبقى قليلاً لتناول الفاكهة والتمر، ولم أستطع رد طلبه، خاصةً وأنَّ زميلي غير موجود.
تمام.
القهوة كانت لذيذة، ملأى بالهال والزعفران.
ـ جيد جداً، مبروك.
ما بك؟ يبدو أنك من النوع الذي لا يحب الحديث.
ـ تقريباً.

صوت الراديو مزعج، قلت في نفسي، ليته يغلقه، ألا يكفي أنَّ الصوت مشوش وغير واضح. بعد قليل، أضاء مؤشر نفاد الوقود في تابلوه السيارة، توقف عند أقرب محطة، ملأ خزان سيارته، ثم توقف عند المحل، سألني:
هل تشرب شيئاً؟
ـ أرجوك لا.
عصير؟ لا تخجل نحن أخوة.
ـ أرجوك لا أريد شيئاً.

تجاوزت الساعة السادسة، سأنفجر حتماً، ظهر بسرعة، ابتسمت، تفضل يا أخي.
ـ لا أريد شكراً لك، هل يمكن أنْ ننطلق؟
طبعاً وبسرعة، من الأفضل أنْ أنطلق كي لا أضطر للوقوف لصلاة المغرب.
ـ لا أرجوك أنا مستعجل.
ولا يهمك.

انطلقنا، صوت الراديو يزداد تشوشاً، وهو محدقٌ في الطريق.
ـ هل يمكن أنْ تطفئ صوت الراديو؟
تقصد المذياع؟ طبعاً، أصلاً ليس به ما يفيد.
ـ شكراً لك.
الشكر لله.
متى تعود من البلد؟
ـ يوم الجمعة مساء.
مثل الجميع.
ـ نعم تماماً.

فجأة هدرت السيارة، قلت له: ماذا حدث؟
قال لا أعلم، خيراً إنْ شاء الله.
نزل من السيارة، تفحصها ثم ركب وأعاد تشغيلها، لم تعمل، قطبت وجهي، لعنت ساعتي، ساعدته، فتشنا عن سبب العطل، بحثنا جيداً. واحترنا تماماً.
يئس الرجل ونظر لي، قال لا بأس، القرية قريبة، نصلي المغرب وننطلق مع أول سيارة تمر علينا، صرخت بوجهه وركضت بالاتجاه الآخر وأنا أزعق: إنْ عدنا إليها كنا ظالمين، إنْ عدنا إليها كنا ظالمين.

أزهار أحمد كاتبة ومترجمة
[email protected]