فجأة اكتشفت أمام ناظري مشهدا خالدا، تلقيته من خبرتي في قراءة ملحمة جلجامش، ليس كمتفرج لاستعراض أو احتفال طقوسي، بل كمشارك على نحو فعال، احتفظت به في ذاكرتي دون إرادتي، كأنه شيئا لأفهمه، أو يطالبني أن أفهمه كي انتمي إلى شئ من الماضي _ زمان أوروك _ بالطبع تطلب مني ذلك نشاطا عقليا، لأنه في مواجهتي مباشرة، و لأكون أكثر إشراقا في مشاركتي له، ومرتبطا ارتباطا وثيقا به، ليعطيني مساحة حرة املأها بنفسي _ الثور السماوي _ جسم، ولحم، ودم، وفروة سوداء، له أعضاء من أطراف، ورأس، فهو كالثور له لسان، وعينين، وأذنين، وقرنين، وذيل، وله جسم لا كأجسام الثيران، ولحم لا كلحم الثيران، ودم لا كدم الثيران، وكذلك كبر قرنيه، ووزنه، وثخنه، فهو فريد يستعرض _ تراجيديا السماء _ يقودنا إلى شئ آخر وراءه، فهو لم يمثل نفسه فحسب، ونرتعب إلى منظره الفردي، ولا نفع في تداعيات هذا الأمر، انه دلالة وخبرة جزئية تدعي إلى خبرة كلية، فخواره الأول قتل مائة رجل ثم مائتين وثلثمائة، وقتل في خواره الثاني مائة ومائتين وثلثمائة كما ورد في ملحمة جلجامش، إنه حضور مرئي لشيء من الماضي، واستبصار جرئ يستحوذ على مخيلتي، لابد لي من معاينته، لأستخرج الصورة المتخيلة له، أنني أجد فيه مشهدا قاتما بذاته، أجد فيه شيئا آخر في اللامعقول، ألتمسه كمشهد إلزامي، وهو استجابة لذاتي، وتعميم جزئي لتصوري الذهني، لا لبس في شرعية ملحمة جلجامش، أنه يسرني أن أتخيله بدرجة أكبر في التصورات الذهنية، وهو من معاينة النص رمز للجفاف وانحباس الماء، ورمز القوة أو الخصب، وعلاقته بالألوهية المؤنثة، فتبدت منه الأم الكبرى، وهو صفة ملازمة على الأرض للإله دموزي _ تموز كما ورد في مناحة عشتار : ( إليك يا ثوري البري الذي في القفر، ويا حلمي الذي في القفر، أتوجه بصلاتي )، وصور أيضا بآلهة السماءhellip;فعندما عاد الملك جلجامش مع صديقه أنكيدو إلى ( أوروك ) من غابة الأرز بعد قتلهما خمبايا _ حارس الغابة _ كان جلجامش مزهوا، متغطرسا، وفي لحظة التقته عشتار متوسلة به أن يقترن بها، ويمنحها بذرتها، لم يستجب لها، وراح في تقريعها، وعيرها بعشاقها فأدركت أن سلطتها الأنثوية في تضعضع، فصعدت إلى أبيها ( آنو ) إله السماء في مجلس الآلهة للحصول على الثور السماوي السحري،وطلبت منه أن يكون ضخما، يهبط إلى الأرض، ويدمر ( أوروك ) ويقتل رجالها، وفي مقدمتهم جلجامش، ويحدث فراغا هائلا في السكان، وأضرارا فادحة بالمحاصيل، فاستجاب ( آنو ) لها، وأنزل الثور السماوي مثيرا الرعب والهلاك، إلا أن جلجامش هب بمساعدة صديقه بالدفاع عن مملكته، ونفسه، فقفز انكيدو وأمسك بقرني الثور السماوي، وبين السنام والقرنين دس جلجامش سيفه فخر ثور السماء، وشقا جوفه واستخرجا قلبه، ووضعاه أمام إله الشمس، وبهذا تنتهي السلطة الأنثوية، لاسيما قطع انكيدو فخذ الثور السماوي، وقذفه بوجه عشتار، وتوعدها انه سيقتلها لو قبض عليها، ففرت إلى المعابد، وجمعت المتعبدات، وراحن ينوحن على مصيرهن، وانتهت بذلك الألوهية المؤنثة أو السلطة الأمومية، وانهزمت في ساحة صراع طويل، وتحطم رمز الثور حاضن الأم الابن أي الالوهة الأم والإله الابن.

أن مقتل الثور السماوي لم يكن متعة أو بهجة فقط، فان صوت إله السماء الأثير الذي ابتدع الثور السماوي، يتردد صداه على الأرض، تردد بنغمة رجولية تواصل السلطة، محطمة المسافة التي تفصل مشاهدتي شيئا من الماضي، وأكون مجرد ملاحظ لم ير ما حدث أمامه، بل بالأحرى لم ير جزءا منه، فلم يكن إلا أن استغرق في عالم حالم عن قصد واع لتحويل المسافة إلى مشاهد للثور السماوي في ملحمة جلجامش، وهو يتماثل فائض النشاط كتمثيل ذاتي حي، وهذه صدمة لحياتنا اليومية مثلما كانت صدمة بذاتها في ( أوروك ).