كيف نظر المثقفون العرب الى فن المسرح في عصر النهضة العربية، الذي بدأ منذ أواسط القرن التاسع عشر؟ وكيف حاولوا استيعابه، ومن ثم اعادة انتاجه وفق رؤاهم الشخصية والمحلية وصولاً الى التنظيرله، تأليفاً واخراجاً؟

لاشك في أن الأجابة على ذلك تقتضي قراءة الوثائق المحفوضة من مذكرات وبيانات ومقالات وأبحاث كتبها هؤلاء المثقفون في ذلك العصر، والتي يجد الباحث مختارات منها في كتاب (نظرية المسرح) الذي قام بجمع مواده وتحريره محمد كامل الخطيب، ونشرته في جزئين وزارة الثقافة السورية عام 1994، ضمن سلسلة (قضايا وحوارات النهضة العربية)، وهو انجاز كبير ومهم لايستغني عنه أي باحث في المسرح العربي.

ومن بين الوثائق التي استوقفتني وأثارت دهشتي بحث بعنوان (فن التمثيل) لأديب لبناني شاب اسمه نجيب أفندي حبيقة، مدرس البيان في كلية القديس يوسف، نشره في ست حلقات بمجلة (المشرق) عام 1899، وهو في الثلاثين من عمره. وبالرغم من صغر سنه وموته المبكر(1869- 1904)، فانه منظّر خطير لفن المسرح، ومثقف سابق لعصره استوعب نظرية ارسطو وبوالو، وأفكار شليغل وغوته وراسين وكورنيه حول المسرح استيعاباً لا يرقى اليه استيعاب الكثير من المعنيين بنظرية المسرح وكتابه في عالمنا العربي اليوم، فهو يشير في مقدمته الى أن التمثيل فن جليل القدر رفيع الشأن، ويقتبس من شليغل قوله ان التمثيل quot; من أعظم ما أنتجته قوة التعبير، فاق على جميع الفنون الشعرية، ومن ثم على كل ما جادت به قرائح البشر quot;، ويعزو ذلك الى أنه يعيد الينا أخبار السلف بطريقة شائقة لا نظير لها، اذ يحاكيهم في طبائعهم وعوائدهم وأقوالهم وأفعالهم ومحاكاتهم بما يخيل لنا أنهم نشروا من مدافنهم وظهروا علينا بمظهر الأحياء على حالتهم الأصلية، كأنهم لم يغيبوا عن عالم الوجود، فهذا التخيل هو علة شغفنا بالروايات التمثيلية وتأثيرها فينا.
وبعد أن يتحدث حبيقة عن اليونان بوصفهم اول من اهتدى الى فن المسرح، والرومان الذين جروا على أثرهم في مضماره، فلم يشقوا لهم غباراً، والأوروبيين الذين تصرفوا فيه حتى بلغوا في كل أبوابه حد الاعجاز، ينتقد العرب على سوء ترجمتهم لمقالة أرسطو في التمثيل قائلاً: quot; لا أخالهم أتوا على تعريبها الاّ اتباعاً لسواها من المقالات، فلم يعيروها جانب العناية، فجاءت سقيمة عقيمة لا تحل رموزها، فلذا أعرض عنها العرب ولم يفطنوا الى هذا الفن الكريم، ولو صرفوا اليه اهتمامهم لنبغوا فيه quot;.

ويوضح حبيقة ان ما دفعه الى كتابة هذا البحث هو رغبته في سد الخلل الذي يشوب وعي المشتغلين في التمثيل باصول المسرح وقواعده، بالرغم من خطورة هذه المهمة وما فيها من المصاعب والمتاعب. وقد قسم البحث الى بابين احدهما في أصول المسرحية التي يسميها (رواية) من حيث تأليفها، والثاني ادارة تمثيلها. ولكن مانشر في الكتاب لا يبحث الاّ في الباب الأول، أي مانصطلح عليه اليوم ب (شعرية النص المسرحي). ويبدأ هذا الباب بالوقوف على ماهية الرواية التمثيلية، فيعرفها بأنها quot; عبارة عن تمثيل واقعة تاريخية أم اختراعية بواسطة أشخاص تنطبق أفعالهم وأقوالهم علىالحقيقة والاحتمال quot;. ويقول حبيقة quot; تمثيل بواسطة أشخاص quot; تمييزاً لها عما سواها من الفنون التي تقوم بطريقة الاخبار أو الوصف، أي ما نسميها اليوم (الطريقة السردية). ويشير الى أن الكتّاب قد اختلفوا في بيان معنى (الواقعة)، فمنهم من ذهب الى أنها مجرد الحادث الذي عليه مدار الرواية (المسرحية)، ونسب هؤلاء رأيهم الى أرسطو. وارتأى بوالو وكثيرون بعده أن الواقعة تشمل quot; أخلاق الأشخاص، فضلاً عن الحادث، بل للأخلاق المتبة الأولى فيها، ويؤيد قول بوالو ما نراه جارياً في الطبيعة نفسها واليها المرجع في الرواية (المسرحية). وبذلك فان حبيقة يميل الى نظرية بوالو في التأليف المسرحي أكثر من ميله الى نظرية أرسطو ن ولكنه يشير، برؤية متقدمة، الى أن الانسان بالرغم من محاكاة امثاله بالايماء والالقاء والحركة، فان التمثيل فن قائم بذاته، واذا كانت غاية المسرحية توفير اللذة فان لها فوائد اهمها أربع:
1- اننا نقتبس الحكم والتعاليم الأدبية التي يصح ايرادها في أكثر المواضع، مع مراعاة جانب الاقتصاد ومحاشاة التكلف فيها.
2- ان وصف الخير بما هو أهله يحببه الينا ولو كان عرضة للأخطار والدواهي وابراز الشر بهيئة السماجة واللؤم والفظاعة يجعل فينا نبوة عنه.
3 - ان انتصار الفضيلة في الختام يحرك في النفوس أشد الرغبة في الصلاح، وأشرف العواطف، وأسمى الأميال، وعقاب الرذيلة يثير في الأفئدة نفرة منها وسخطاً عليها.
4 - اننا نعبر بمصائب الغير فنسعى لاتقاء مثلها فينا.

أما شروط كتابة المسرحية فهي، حسب رؤية حبيقة، ثلاثة : ايجاد المواد التي يتطلبها الموضوع، ثم تنسيق تلك المواد على ترتيب يلائم مقتضى الحال، ثم التعبير الذي يبرز الموضوع بصورة تروق الخاطر. ويرى أن الموضوع يجب أن يكون معتدلاً، أي بعيداً عن الايجاز المخل والاسهاب الممل. ومحكم الارتباط آخذة أجزاؤه بعضها برقاب بعض، صادرة فيه اللواحق عن السوابق لا يعتريه خلل ولا تشويش، أي ما نصطلح عليه اليوم بـ (الحبكة)، وجارياً صوب النتيجة وذلك أن تأتلف كل شعبه في السعي الى العاقبة، وتتجه الى الخاتمة كل ظروفه متدرجة لا تتوقف ولا تعيقها استطرادات معارضة. وتاماً، أي مستوفياً للغرض المقصود، بالغاً الحد المرغوب. وأخيراً يجب أن يكون طبعاً، أي خالياً من كل أنواع التكلف، فتتبع فيه الأمور مجراها الحقيقي متسلسلة بعضها من بعض وفقاً لشروط الحقيقة والاحتمال، وتتناسب فيه المعلومات مع علاتها طبقاً للنواميس الجارية. ولا بأس من الالتجاء الى الخارق الظاهر اذا دعت اليه الضرورة. وضمن عناصر الشرط الأول يبحث حبيقة، أيضاً، في شأن الأشخاص، والوحدات، والقيم الانسانية (التي يسميها أدب الرواية). فالأشخاص يشترط فيهم أن : يكون عددهم معتدلاً، وبينهم تفاوت في المقام والأهمية، وينقسمان الى فريقين: أنصار البطل وخصومه، ذلك أن التضاد بينهم في الطباع والأقوال والأعمال لمن أعظم دواعي التشويق واللذة. ومما يلحق بالأشخاص الأخلاق (أي طبائعهم)، ويشترط فيها أن تكون خطيرة فيها بعض العظمة، وملائمة بحيث توافق جنسهم ومركزهم وعصرهم ودورهم الذي يؤدونه في الواقعة، وحقيقية تنطبق على رواية التاريخ قي ظروف الزمان والمكان التي وجدوا فيها جميع أمورهم وأحوالهم، وثابتة لا تتغير بتغير الأمور، بل تبقى كما هي من البداءة الى النهاية. وهنا يستدرك حبيقة فيقول: لايراد بالثبات أن يكون الشخص من حجر لا تؤثر فيه الظروف، ولا تفعل في نفسه الانقلابات، ولكنا نقصد بذلك أن جوهر الأخلاق يبقى دائماً هو هو، اما المظاهر فتبدو في صورة متنوعة والعواطف تختلف باختلاف الأحوال.

وبعد أن يوضح حبيقة معنى الوحدات الثلاث (وحدة الواقعة و وحدة الزمان و وحدة المكان)، وما أصلته من خلافات بين أئمة المسرح (يصفها بأنها حرب موان ولا حرب البسوس)، يبرئ أرسطو منها مؤكداً أن هذا الإمام (بمعنى المعلم الرائد) قد جزم بوجوب وحدة الواقعة (الحدث)، ولم يقل شيئاً صريحاً عن الزمان والمكان، فكأنه أدرك بحكمته البالغة أن شأنهما يختلف باختلاف البلاد والعصور، لذا لم يضع لهما حداً محدوداً بل تركهما وشأنهما. ويختم حبيقة كلامه عن الوحدات بدعوة جريئة تنطوي على رؤية متقدمة وروح مجددة، قائلاً: quot; يحق لنا ان نكسر تلك الحلقة الحديدية التي ضيق علينا بها رجال القرن السابع عشر (يقصد اصحاب الكلاسيكية الجديدة)، ونوسع نطاق الزمان والمكان في رواياتها، لكن إيانا أن نتجاوز الحدود ونستبد بالوحدات على مقتضى الهوى quot;. ويحذر حبيقة، في حديثه عن (أدب الرواية)، الكتاب المسرحيين من إظهار الفظائع والفواحش التي تعافها القلوب وتستنكف منها النفوس، وإبراز الفضيلة بمظهر يعرضها للهزء أو يحط من قدرها، أو وصف الأهوال والرذائل وصفاً يحببها الى المشاهدين، أو عرضها بمعرض يستهوي القلوب، أو خلو المسرحية من مغزى حميد ونتيجة أدبية.

ويقسم حبيقة التنسيق الى نوعين: احدهما خارجي، ويقصد به توزيع النص المسرحي الى فصول ومشاهد وغناء، ويستفيض في توضيح كل جزء مشيراً الى الاختلاف بين اليونانيين والإسبان و الطليان في ما يتعلق بعدد هذه الأجزاء وطولها. والثاني داخلي، ويبحث في : بيان المقصد، وهو مطلع المسرحية والأصل الذي تنشأ منه فروعها، والعقدة التي هي مجموع الحوادث والمساعي الموافقة او المعاكسة لفوز البطل، والخاتمة التي هي القسم الأخير الذي فيه فض المشكل، وحل العقدة.

وأخيراً يتناول حبيقة شرط التعبير في مبحثين: الأول صورة الخطاب، ويقسمه الى ثلاثة أنواع يسميها: المحاورة والمناجاة والخلوة، ففي النوع الأول يجري الحوار بين شخصين أو أكثر، ولا سبيل الى تدخل أشخاص آخرين ما لم يكن من شأنهم الإصغاء الى قول غيرهم، أو الأشتراك معهم بوجيز القول حيناً بعد حين، وفي النوع الثاني يخاطب الشخص نفسه في حالة الانفراد، فيكشف عما يخالج صدره من الأفكار والعواطف وما يتنازعه من العوامل. وفي النوع الثالث يعبر أحد الأشخاص عن رأي أو عاطفه من دون أن يسمعه الآخرون. وشرط الخلوة أن تكون نادرة وفي منتهى الإيجاز. أما المبحث الثاني فهو صفات الإنشاء، ويرى فيه حبيقه أن إنشاء المسرحية يجب أن يكون طبيعياً متنوعاً ممتازاً برشاقته وضبطه، ويعيب على بعض مسرحيات كتاب زمانه كونها تقوم على التكلف والمحسنات البيانية الضافية، والغرائب الفنية، والنكات الأدبية في غير موضعها، والتخيلات المسهبة. وبالإجماع كل التحسينات الدالة على التصنع، والداعية الى السأمة والحائلة دون تقدم الواقعة. بيد أنه لا يرى مانعاً من المحسنات الطبيعية التي يقتضيها المقام.
[email protected]