زخارف: لعبة مسرحية بالنصوص وأدوات التعبير الالكترونية

برلين 22 حزيران 2006 مسرح روما Roma - Aether - Klub - Theater (مسرح مقهى).

المخرج والدراماتورغ العراقي صالح كاظم في عمل جديد من اخراجه وتوليفه ودراماتورغي شتيفن شتيغلش: (زخارف). صالة أو باحة مقهى أحالها المخرج فضاءً لعرض متنوع الوسائل: فن عرض أو (لايف پرفورمانس). ذلك أن فنون العرض، ومنذ تسعينات القرن الماضي، بدأت تلتقي من جديد، بعد قطيعة، لتؤسس مفهوما يتنكر للحدود المفتعلة بين مختلف (أنواع) الفنون ومختلف وسائل الاتصال رابطها المركزي حدث جديد: التكنولوجيا الالكترونية. پرفورمانس تلتقي فيه فنون الكاميرا (التوثيقية، الروائية، الكلِپ) وفنون الصوت والموسيقى الى جانب فنون التمثيل والرقص بمختلف اشكالها وبالنهاية خطوط او سياقات تربط هذه العناصر مع بعض. سياقات درامية أحيانا، لونية أحيانا، شعرية أحيانا، زادها الموضوع أو التنكر للاشكال والمفاهيم السائدة أو التأكيد على النشازات كسخرية parody من الهارموني...
پروجيكتور (جهاز عرض سلايدات). بيمر (جهاز عرض فيديو). شاشة عرض. جلسة مرتجلة مثلما يرتجل الغجر. طالب حسن، الفنان التشكيلي العراقي، يعتني بالاضاءة. سهير صالح الممثلة الألمانية من أصل مصري تقرأ (تلعب؟) تحت أضواء خاصة شريكها في ذلك الممثل الألماني شتيفن شتيغلش (مسرح تريبونة في برلين).

يعتمد العمل المينيماليزم minimalism اسلوبا للعرض.
والمينيماليزم أساسها حركة فنية وظاهرة تشكيلية تطورت في الولايات المتحدة ابان ستينات وسبعينات القرن الماضي. ويمكن للقاريء أن يستشف من الاسم أن هذا التيار يحاول اختزال الأشياء إلى حدودها القصوى: من ناحية اللون والخط والنص في الفن التشكيلي، ويركز على الخلاصات أو الاساسيات أو النقاء (بعض تجسيداته في المسرح هي اللا فعل عند بيكيت، الصفاء عند بوب ويلسون، الاختزال والتصفية عند پيتر بروك، الحذف عند گروتوفسكي) وغالبا ما تترك المينيماليزم الأشياء لسياق موضوعي وبدون تدخل من الفنان بالمادة الفنية إذا جاز هذا التعبير في البلاغة.
ذا الأسلوب يندهش به صالح كاظم منذ زمن طويل. في مسرحيته السابقة (تقرير لأكاديمية) تأليف فرانز كافكا وضع الممثل على منصة اعتراف أو منبر خطابة واختزل كل شيء: فضاء خالي ونقطة مضيئة فقط هي الممثل. وكاد الممثل أن لا يأتي بحركة واحدة طوال العرض. الممثل هو جزء من النص ولعبة الصمت والإضاءة كما يراه المخرج. الممثل هو ناقل للنص أو حامل لا يتدخل في آلياته الداخلية، تماما كما يفعل بوب ويلسون مع اللون الازرق الصافي حين يغسل به المسرح او كما يفعل يان دو كورته اذ يختزل ماكبث ويحيلها الى اوليات اساسية تاركا الزوائد والانشاء. صالح لا يحب الثرثرة والماكسيماليزم ليس أكثر من ثرثرة بالنسبة له.

(زخارف) عنوان المسرحية هو من هذا المنطلق سخرية مقصودة من الماكسيماليزم.
يعتمد العرض على مقاطع مسرحية (ليس مشاهد) ونصوص غير مسرحية لمختلف الكتاب. من الاندلس، من المانيا ومن العراق. كذلك يعتمد العمل على توليفة أندلسية عراقية المانية يرافقها احيانا ممثل حي او ممثل موثّق في كاميرا وتظهر من ثنياتها سلايدات زخارف مأخوذة من فلم قصير للفنانة الألمانية ديبورا فيليب.
الموسيقى تعود لملحنين عراقيين ذوي جذور دينية مختلفة وكذلك لكل من الأسباني باكو دي لوتشيا والأمريكي لو ريد. الموسيقى مزيج من الحان عراقية تلغي الحواجز التي خلقتها الملكية حين رمت اليهود خارج العراق قسرا والتي خلقتها الثقافة القومية الشوفينية التي اتهمت درّة من درر العراق المرحوم سمير نقاش بالصهيونية. منير بشير وسليم النور يحضران لاضاءة موسيقى العراق.

العرض اذن هو شيء من اللا حركة!
المقطع الاول من كتاب ابن حزم الاندلسي طوق الحمامة. يتحدث عن تعلق البشر بصفات لا تخضع لمعايير ثقافتنا الاستهلاكية المعاصرة لدى الحبيب او الحبيبة. شكل عربي قديم خارج عن اطار الجماليات التقليدية السائدة ومقارب لجماليات الجانب المعتم في الفنون المعاصرة. ألقى هذا المقطع بالتبادل شتيفن شتيغلش وسهير صالح كل بتأوليه المحايد! الصورة ليس سوى صورة توثيقية. تاريخ ولادة ومعلومات باردة بخط أسود على شاشة بيضاء.
لمقطع الثاني من رواية حي إبن يقظان لابن طفيل. الفصل الخاص بنشوء وطفولة بطل الرواية الذي اختلفت الروايات حوله. قراءة صافية، حياد ميت وحي مع الكلام خلفيته نص اخباري ثابت عن المؤلف.
أما المقطع الثالث ڤيديو quot;رجل في مصعدquot; نص لهاينر موللر مأخوذ عن مسرحية quot;المهمةquot;. والفيلم (سيناريو واخراج صالح كاظم) يدور عن شخص ذاهب إلى مدير دائرته ليجد نفسه فجأة في بلاد الپيرو. الشخص يصف كيف يلتقي انسان بشكل مفاجيء مع محيط غريب.. سكاكين ومخاوف وهواجس.. الممثل في حياد توثيقي تتخلله ظلال فيلم قديم اعاد المخرج منتجة بعض من مقاطعه.
وفي المقطع الرابع المعتمد على مسرحية لسنغ quot;ناثان الحكيمquot; حول التعايش بين الديانات التوحيدية، ينقل المخرج المشاهد بشكل مفاجيء من سكون المينيماليزم الى حركة مباغتة وحوار في مقهى يتحول أثناءه المشاهد أيضا الى ممثل. يبدو ناثان في هذا المشهد وكأنه جالس خلف البار يتناول القهوة بينما يواجهه صلاح الدين الايوبي من جهة المقهى الأخرى بالاسئلة. أسئلة يلقيها صلاح الدين الذي ظهر في هيئة صبي لعبته ممثلة مسرح دريسدن الوطني المعروفة سهير صالح، بينما شتيفن (ناثان الحكيم) يتناول القهوة ويروي حكاية الخاتم المعروفة.
بعد تلك الحركة المفاجئة والوحيدة تقريبا في العرض يعود السكون. نص حول امراض النفس لموسى بن ميمون الذي يعتبره سبينوزا معلما له. وحتى حين ظهرت أوكسانا شي، راقصة ألمانية، وقدمت رقصة تعبيرية تعتمد الموسيقى الشرقية وتعارضها او تجابهها بتعبيرية اوربية تميل الى التجريد، لم يتغير السكون. كانت الرقصة، أكاد أقول، خالية من الحركة!
طقوس اليوم كانت هي الحدث الأخير في الپرفورمانس. نصوص من مجموعة كتبها المخرج بالألمانية تحت عنوان quot;مدينة إفتراضيةquot;. وصف للمدينة بشكل خليط بين آلان روب گرييه أيام الرواية الفرنسية الجديدة وبودلير والحنين الشخصي: (عند مدخل زقاق يؤدي الى النهر هناك جيف لكلاب فطست بسبب الحر أو قتلت ببنادق صيادي الكلاب السائبة، تتجمع حولها الغربان التي تغطي السماء غير مكترثة بالطقس. تحت ظلال الشناشيل تنتشر روائح المأكولات التي يجري إعدادها خلف أبواب البيوت. وبين وقت وآخر يطل من أحد الأبواب رأس امرأة، تصب سطلا من الماء على الإسفلت، ثم يختفي).
لعب المخرج على التوتر بين عناصر العرض المختلفة: تفجّر النص مقابل سكون الممثل، روحانية المحتوى مقابل دنيوية الموسيقى والڤيديو وان خانته هنا وهناك (القفلات) أو المعابر بين مقطع وآخر. وقد كان من الممكن للمعابر (القفلات) الصامتة المرتبكة أن تصبح أسلوبا يستكمل المينيماليزم.
عمل المخرج على تنوع النص في سياق واحد: سياق القول. فأصبح النص قوة قائمة بذاتها ولا دخل للممثل فيها (إذا صحّ التعبير) سوى دور الوسيط. رأينا النص مرة لوحده ومرة تأويلا مع صورة وثالثة تصادما مع موسيقى ورابعة تمردا على تأويل وهكذا تصاربت النصوص مع الموسيقى او التقت. ما كان يهم المخرج هو اضاءة المحتوى بطرق مختلفة.

آدورنو كان حاضرا بشكل ما اذن!
صالح كاظم عمل في سبعينات وثمانينات القرن الماضي مع المسرحي الالماني هاينر ميللر (المذبحة، ماكبث، هاملت) وقبلها مع المخرج السويسري وتلميذ بريشت بينو بيسون (الانسان الطيب من ستسوان) في الڤولكس بونه كما قام بترجمة عدد كبير من اعمال هاينر ميللر الى العربية. قبلها وفي السبعينات اشتغل في مسرح مدينة هاله في شرق المانيا كدراماتورغ. قام باخراج مسرحية واعداد تقرير لاكاديمية تمثيل المرحوم عوني كرومي. واعاد اخراجها مع الممثل الالماني تيو بادرسون واحد من ممثلي مسرح الدولة في بوتسدام. كما قام بالتعاون مع اسماعيل خليل في تحقيق مهرجان المسرح العراقي في المنفى الدورة الثانية عام 2001.

زخارف
(نصوص لموسى بن ميمون و أبو بكر إبن طفيل وعلي إبن حزم الأندلسي وإبن عربي ولسنغ وهاينر ملر)
أوكسانا شي (رقص تعبيري)، ديبورا فيليب (سلايدات)، سهير صالح (قراءة مسرحية)، شتيفن شتيغلش (قراءة مسرحية، دراماتورغي)، صالح كاظم (اخراج، نصوص وفيديو) وطالب حسين (تصميم الضوء).

Roma - Aether- Klub-Theater
Boddinstr. 5