اصبح من النادر في ايامنا هذه الجلوس امام الشاشة الصغيرة، لمتابعة احدى المسلسلات التلفازية الا ما ندر وبالصدفة العجيبة التي تجد نفسك فيها ماخوذا ومشدودا ازاء مشهد تلفازي لمسلسل ما، لا تملك معلومات مسبقة عنه، لكن تلك اللحظة التي شدتك اليه كفيلة في نهاية الامر ان تجد لك مسوغات جلوسك اليومي وبلهفة شديدة لمتابعة هذا المسلسل.
ان مسلسل (ليالي الصالحية) السوري، لمخرجه (بسام الملا) هو الانموذج المعني بعنوان هذه المقالة، حيث بدأ عرضه منذ شهر رمضان الماضي في عدة قنوات فضائية وما زال يعرض في قسم منها، وفي كل مرة اجدني متابعا لهذا المسلسل باللهفة والانشداد نفسيهما، وبالرغم من عدم تخصصي في مجال النقد التلفازي، الا انني شعرت بضرورة هذه السطور للتنبيه الى بعض اسباب التكامل الفني في المسلسل التلفازي اولا، ولاقتراب الموضوع بوصفه مادة درامية من تخصصي المسرحي ثانيا.
تُرى ما هو السر الذي يقف وراء مشاهدتك لمادة درامية، سينمائية او مسرحية او تلفازية، ولمرات متكررة، وفي كل مرة تجد نفسك وكانك تشاهدها للمرة الاولى، ربما تتعدد الامثلة لافلام ومسلسلات معروفة ومشهورة لكن القليل منها يمتلك هذه الخاصية التي يقف وراءها ذلك السر.. ؟
لعل السر الكامن وراء هذه الحالة ينحصر في (تكاملية) المادة المطروحة فنيا وبجميع تفرعاتها النصية والاخراجية والادائية والتقنية، الى جانب تمكن صاحب النتاج الابداعي من اخفاء سر صنعته ومهارته الخلاقة بجعله المسكوت عنه معلنا، والمعلن مسكوتا عنه بواسطة نتاجه المعروض، وقد يصلح هذا التفسير لمفهوم الاخراج بابسط مفاهيمه التطبيقية سواء كان اخراجا سينمائيا او تلفازيا او مسرحيا.
لا اريد ان استعرض هنا احداث مسلسل (ليالي الصالحية) بالتوصيف والتحليل لان الاحداث باعتقادي معروفة للكثير ممن شاهد المسلسل وتابعه، الا انني وجدت في هذا المسلسل مادة درامية مشبعة بتكاملية فنية عالية بدءا من المتن الحكائي للمسلسل وحواراته المنطوقة وتعدد شخصياته الرئيسية منها المركبة والثانوية الى جانب شخصيات بسيطة كثيرة، مرورا ببيئة الاحداث المنظرية ذات المعمار الشعبي الطرازي فضلا عن ازياء الممثلين الموحية والاضاءة العالية التعبير والمفردات الاكسسوارية الطرازية ذات الموروث العربي الواضح لفترة زمنية محددة... كل هذا وغيره جعل المسلسل يكشف عن واقعية اخراجية رفيعة المستوى.
تجدر الاشارة هنا الى ان الاداء التمثيلي لكل شخصية، ولا استثني احدا، كان محسوبا ومراقبا من عين مخرج يمتلك خيالا وحسا عاطفيا متفاعلا مع كل فعل ادائي يقوم به الممثل، فالجميع هنا (الممثلون والمخرج والفنيون) امتلكوا قناعة تامة في ادائهم، الامر الذي جعل المشاهد تنعكس عليه هذه القناعة الجماعية بصدقها وفعلها الخلاق، ليكون مقتنعا هو نفسه بان ما يجري امامه الحقيقة عينها، وهذه النتيجة يكمن فيها سر اخفاء المبدع لصنعته وحرفيته.
الانتقال من مشهد الى اخر وفي كل حلقة من حلقات المسلسل، كان محسوبا بدقة متناهية لا مجال فيها للحذف او للاضافة، على عكس ما نجده في مسلسلات اخرى متورمة بمشاهد دخيلة ورذيلة ومعروفة اهدافها التسويقية التجارية.
لقد امتلك المخرج (بسام الملا) سلطته الاخراجية بمشروعية تامة على كل التفاصيل الصغيرة والاحداث المركبة بكل تفرعاتها الحكائية، وصراع ناسها واهواءهم ومواقفهم وامنياتهم وخيبات امالهم، وخطط ودسائس البعض منهم تلك الطافحة نياتها بالشر وهي تتعارض مع النيات المملوءة خيرا.
فعلا اننا ازاء عالم من الاحداث الواقعية التاريخية واليومية، التي عبرت عن عادات وتقاليد ومواقف الانسان العربي الحقيقي، بكل ما امتلكه هذا الانسان من مواصفات جمة جعلته يتصدر اجناس العالم المختلفة.
ومن اهم هذه المواصفات التي كشف عنها مسلسل (ليالي الصالحية) والخاصة للشخصية العربية هي : الامانة والشهامة والحب والاخلاص والتضحية وحسن الجوار والمحبة و... و... وغيرها من الصفات الانسانية المنبعثة من حضارة وتاريخ هذا الانسان العربي منذ الاف السنين عاش فيها كريما شجاعا محبا للخير والحكمة وطاعة القانون.. كل هذا وغيره طرحه لنا المسلسل بطريقة درامية محببة نجحت بتوفير عنصرين مهمين في التلقي وهما : الترقب والتوقع.
كما كان لزوايا الكاميرا اثرها المباشر في شد المتلقي الى اللقطة الفنية المحكومة باجوائها الليلية منها والنهارية، وتناسق وانسجام منظرها واضاءتها، والانفتاح على الحارة بازقتها والدخول الى غرف بيوتها التراثية، هذا بالاضافة الى هيمنة الاخراج على ايقاع درامي متماسك يشد المتلقي ويجعله منتظرا القابل من الاحداث يوميا، وبذلك نجح المسلسل في تكوين علاقة اتصالية مهمة ما بين المتلقي والشاشة الصغيرة، كادت ان تختفي في زمننا هذا.
اما المؤثرات الموسيقية والغنائية فلقد احتلت مكانها بجدارة، وحققت هدفها في الهيمنة النفسية والعاطفية على المتلقي وجعلته في انفعالية عالية التاثير والتصعيد الحسي والعاطفي ازاء كل مشهد من مشاهد العمل.
مما تقدم، نجد انفسنا امام تكاملية فنية قلما نجدها على الشاشة الصغيرة في هذه الكثرة المتزايدة من المسلسلات والبرامج التلفازية.. فتحية لكادر هذا المسلسل الكبير حقا، انتاجا وتاليفا واخراجا وتمثيلا وتقنيات فنية وادارية.. بجهود كل هؤلاء اصبح من حقنا ان نتخذ من مسلسل (ليالي الصالحية) انموذجا للتكامل الفني في الدراما التلفازية.