(1)
(المعقدون من إسلامهم)- تحت هذا العنوان كتب السيد يحيي أبو زكريا مقالأ في موقع إيلاف بتاريخ الخميس 29 سبتمبر تهجم فيه على الذين يكتبون عن الإسلام ولا
يمجدونه كما يفعل أئمة المساجد وفقهاء الإفتاء على الفضائيات العربية. وبدأ التشنج والهجوم على الغير في الجملة الأولى التي افتتح بها مقاله، فقال: " هناك بعض الناس تنتابهم قشعريرة بمجرّد ذكر لفظة الإسلام، و كأنّهم أمام مرض معدي سرعان ما ينقضّ على الجسد فيجلعه هباءا منثورا..لكن هل الإسلام بهذه الفظاعة التي يتصورون ." ولو كان الإسلام مرضاً معدياً ينقض على الجسد لسهل علينا علاجه، ولكن المشكلة أن الإسلام، مثله مثل بقية المعتقدات، ينقض على العقل فيجعله كخلية النحل، مليئاً بالفجوات المعرفية العديدة التي لا يحس بها معتنقو هذه المعتقدات، لأن معتقداتهم تملأ هذه الفجوات بعسل الحياة السرمدية في جنة الخلد. وهم بذلك سعداء لا يتطرق الشك إلى أفئدتهم. وزعم السيد أبو زكريا أن المسلمين الذين ينتقدون الإسلام يعانون من "إسلام فوبيا". وتعريف الكلمة "فوبيا" هو "الخوف غير الطبيعي وغير المبرر بواقع الشئ الذي يبعث هذا الخوف." فهل الذين ينتقدون الإسلام يعانون من خوف غير مبرر بواقع الإسلام؟ سوف أجيب على هذا السؤال لاحقاً، أما الآن فدعونا نتحدث عن النقد من حيث هو. الشخص الذي ينقد أو ينتقد شيئاً يفعل ذلك بواحد من دافعين: إما أنه يهتم كل الاهتمام بالشئ الذي ينتقده ويريد أن يزيل عنه بعض الشوائب التي تشوه صورته، وإما لأنه يرى في هذا الشئ خطورة عليه أو على غيره ويريد أن يحطمه حتى لا يؤذي أحداً. فكل من كتب نقداً عن الإسلام لا بد أن ينتمي إلى إحدى هاتين الفئتين، ولكن السيد أبا زكريا جمع الكل تحت راية الفئة الثانية، وجعلها الفئة الباغية على الإسلام.
وبداية النقد هي الشك، الشك في ماهية شئ بعينه، أو الشك في الوسائل التي يُطرح أو يطبق بها أو الاتجاه الذي يسير فيه. والذي لا يشك في الأشياء هم البسطاء الذين تعوزهم المقدرة الذهنية للشك. وحتى الأنبياء تشككوا في بادئ الأمر، فمثلاً النبي إبراهيم أصابه شئ من الشك فقال لله "أرني كيف تُحيي الموتى" فلو لم يشك في مقدرة الله في إحياء الموتى لما طلب من الله أن يريه كيف يفعل لذلك. فقال الله له: "أولم تؤمن" قال إبراهيم: "بلى ولكن ليطمئن قلبي". فاطمئنان القلب هو ما يسعى إليه الناقد. وحتى النبي محمد بن عبد الله خامره الشك في بداية رسالته ولم يصدق أنه نبي الله وأراد أن يلقي بنفسه من شاهق الجبال حتى طمأنه جبريل بأنه نبي الله. ثم شك في بعض ما أنزل عليه فقال له الله: "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك" (يونس 94). وشك فيما أنزل إليه مرة أخرى وكاد يصدق ما قاله المشركون، فأنزل الله عليه: "وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً " (الإسراء 3). ثم قال له: "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا " (الإسراء 74). فلولا الشك لما احتاج الله أن يثبته. وقد شكك الفلاسفة على مر التاريخ بكل الرسالات، السماوية منها وغير السماوية. وشكك فلاسفة المعتزلة في بعض آوجه الإسلام، وشكك بعض الفلاسفة اليهود مثل باروش سبنوزه (1632-77) في بعض ما جاء في اليهودية، فطردوه من العقيدة اليهودية. وشكك الفلاسفة المسيحيون في بعض ما جاء في المسيحية واعترضوا عليه، فمثلاً فولتير اعتبر أن العقيدة الأرثوذوكسية تلغي منطق العقل الذي كان يعتبره مقدساً بالنسبة للإنسان. وحتى قساوسة الكنيسة المسيحية انتقدوا بعض ما جاء في عقيدتهم، فمثلاً الأسقف ديفيد جنكينز، أسقف مدينة دارام Durham بإنكلترا، كتب كتاباً سماه "التناقضات في المسيحية" The Contradictions of Christianity (1976)، ولم تعزله سلطات الكنيسة عن منصبه ولم يتهمه أحد بالردة.
والنقد، في حد ذاته، علامة صحية لأنه يساعد على فرز الصالح من الطالح. ولا يحدث أي تقدم في العلوم ولا في المجتمعات عامةً بدون النقد الذي يبين لنا العيوب لنتفاداها. وقد قال كارل ماركس: " النقد أساس التقدم ونقد الدين أساس كل النقد ". وموقف كارل ماركس من نقد الدين لا يختلف عن مواقف أغلب الفلاسفة، فقد قال: " الدين هو تنهدات المخلوقات المضطهدة وعواطف عالَم لا قلب له ولا روح. وإلغاء الدين، الذي هو سعادة البشر الخيالية، هو الطريق إلى السعادة الحقيقية. ونقد الدين، لذلك، يمثل نقد هذا الوادي الملئ بالدموع والذي يمثل الدين الهالة فوقه. نقد الدين هو قطف الزهور الخيالية من السلاسل الدينية التي تقيد البشر وتجعلهم يركنون لها أملاً في اغتناء هذه الزهور الخيالية، وليس النقد ليجعل البشر يحملون سلاسلاً بلا زهور خيالية، وإنما ليشجعهم ليرموا بالسلاسل حتى يتمكنوا من قطف الزهور الحقيقية " (Karl Marx, Contribution to the Critique of Hegel’s Philosophy of Right).

(2)
بدون أي سند علمي يقول السيد أبو زكريا: "لقد أحدث الإسلام نقلة نوعية بل وقياسية في مجتمع الجزيرة العربية و دول الجوار، وتكفي مقارنة بسيطة بين هذا المجتمع و أفقه قبل الإسلام وبعده لندرك قدرة الإسلام على تحضير المجتمع والرقي به إلى مستوى متقدم وفي كل الإتجاهات." ولو قرأ السيد أبو زكريا عن مجتمعات جنوب الجزيرة ودول الجوار قبل مجئ الإسلام لما قال هذه المقولة. فإذا أخذنا جنوب الجزيرة العربية، أي منطقة اليمن وحضرموت لوجدنا أنهم كانوا يتمتعون بحضارة فاقت كل حضارات زمانها، فقد عرفوا الكتابة ودونوا كل شؤون ممالكهم، كما ظهر في المسند، وكانت لهم معابد ومدارس ودواوين حكومية و جيوش نظامية ونظام ضريبي مكتوب، وزراعة متقدمة. وقد بنوا سد مأرب وبنوا قصوراً وحتى بيوتاً من عدة طوابق (راجع تاريخ العرب قبل الإسلام، للدكتور جواد علي). وإذا أخذنا منطقة السواد- مابين النهرين- نجد أن الحضارة البشرية قد بدأت هناك. فهم أول من اكتشف الزراعة، والكتابة والعجلة. وهم أول من بدأ فكرة الأديان السماوية بملاحم جلجامش وغيرها من الأساطير التي تحدثت عن خلق الكون وعن الآلهة الذين يسكنون السماء. وأخذ النبي إبراهيم عنهم فكرة التوحيد وذهب بها إلى أرض كنعان. وكان للآشوريين والكلدانيين نظمهم الاجتماعية وحكوماتهم وقوانينهم. ويكفي أن نعرف أن قوانين حمورابي قد سبقت الإسلام بأكثر من ألف عام وكانت متقدمة على أكثر القوانين التي أتى بها الإسلام. وإذا نظرنا إلى الشام الذي كان جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، لوجدنا أنهم قد عرفوا الدولة والحكومة والقوانين قبل أن يولد السيد المسيح. وكانت عندهم دواوين حكومية ونظام ضرائبي متقدم وكان لهم مدارسهم وجامعاتهم. وأول جامعة خارج أثينا وروما كانت في القسطنطينية وأنشئت قبل الميلاد. ولأنها دانت فيما بعد بالمسيحية فقد شجع الكهنة التعليم وتعلم اللغات ونبغ فيهم عدد كبير من المترجمين الذين استفاد منهم الخليفة المأمون فيما بعد لترجمة التراث الإغريقي إلى العربية. وعندما فتح المسلمون قيسارية استعمل عمر النصارى في الكتابة وفي شؤون المسلمين الأخرى(فتوح البلدان للبلاذري، ص 144). أما الإمبراطورية الفارسية فقد امتدت من الهند إلى الحبشة مروراً بالعراق. هذه الإمبراطورية كانت قد وصلت مرحلة متقدمة من الحضارة المعمارية والحكومية والقوانين التي تنظم حياة الأفراد في مجتمعاتها. وكانت لديهم مكتبات عديدة أحرقها المسلمون فيما بعد. ويكفي أن نعرف أن كُتّاب السيرة النبوية قد قالوا إنه عندما ولد محمد بن عبد الله ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شُرفة (مختصر السيرة، ابن كثير، ص 24).
ولكن إذا كان السيد أبو زكريا يتحدث عن منطقة الحجاز، ففعلاً كانت هذه المنطقة متخلفة بالنسبة لدول الجوار بسبب عزلها عن بقية العالم المتحضر بالصحراء التي يصعب السفر فيها. ومع ذلك كانت مكة قرية متحضرة تجارياً ومدنياً وقد سافر تجارها في رحلات الشتاء والصيف إلى الشام واليمن وبلاد فارس، وعقدوا الأحلاف والسفارات مع هذه الدول. وقد عرفوا جميع أنواع الشركات والكيل والموازين التي برعوا فيها. فكان عندهم الرطل والأوقية، وكان الرطل اثنتي عشرة أوقية والأوقية أربعين درهماً. بل كانوا يعرفون الأوزان الدقيقة، فكان وزن الشعيرة يساوي واحد من الستين من وزن الدرهم (الجرام)، وهو نفس الوزن الإنكليزي الحديث. وكانوا يتعاملون بالعملات اليمنية والشامية والرمانية إلى أن جاء الإسلام وأراد عمر بن الخطاب أن يجعل الدراهم الإسلامية من جلد البعير. قال عمر: " هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل‏.‏ فقيل له إذًا لا بعير" (فتوح البلدان للبلاذري، ص 525). وعندما فتح المسلمون العراق في أيام الخليفة عمر، اختط عقبة بن غزوان مدينة البصرة عام 17 هجرية وبناها من القصب. قارن هذا مع حضارة جيرانهم الفرس الذين بنوا إيوان كسرى متعدد الشرفات.
واستمر الإسلام بدوياً إلى أن جاءت الدولة العباسية وأنشأ الخليفة المأمون بيت الحكمة واستعان بالمترجمين النصارى لترجمة التراث الإغريقي الذي تعلم منه المسلمون، خاصة الفرس الذين كانوا على قدر كبير من الحضارة قبل أن تأتي ترجمة الآثار الإغريقية. ولذلك كان جل المؤلفين وعلماء الفلك والصيدلة والطب وغيرها من الفرس. فهل كان السيد أبو زكريا محقاً في قوله إن الإسلام قد أحدث نقلة نوعية بل قياسية في مجتمع الجزيرة العربية ودول الجوار ؟ لا أعتقد ذلك

(3)
انتقل السيد أبو زكريا بعد ذلك إلى الهجوم على كُتاب إيلاف ووصفهم بمثقفي الفودكا، فقال: " وبالعودة إلى وجهات نظر المعقديّن من إسلامهم – والذين نقرأ تعليقاتهم على كتّاب إيلاف والذين بدورهم يشكلون إمتدادا لمثقفي الفودكا والكباريهات الذين يحكمون على الإسلام بعد أن يكونوا قد أخذوا قسطهم من كؤوس الصبابة والخمرة المعتقّة. " وهنا يظهر السيد أبو زكريا غرامه بالكليشيهات المحفوظة منذ القرن السابع الميلادي. فهل شرب الخمر أو الفودكا يؤثر في الإنتاج الفكري للكاتب؟ إذا كان هناك أي تأثير فإنه تأثير إيجابي كما أثبت الفيلسوف والشاعر عمر الخيام الذي تغنى بالخمر، وكما أثبت امرؤ القيس وأبونواس. وجل فلاسفة العصور الوسطى والحديثة في أوربا قد تعاطوا الخمر وأنتجوا فلسفة وعلوماً أصبحت ميراثاً تفتخر به البشرية. وهناك من لم يشرب الخمر مثل الفيلسوف أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، ومع ذلك أنكر وجود الله وقال إن المادة لا تأتي من المعتقدات. والملفت للنظر أن السيد أبا زكريا قال: " فإنهم يحكمون على الإسلام من خلال العصر العبّاسي والأموي و المماليك ويحاولون إلصاق الأخطاء السياسية التي إقترفها المحسوبون على الإسلام بالإسلام، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى حقيقة تاريخية وراهنة وهي أنّ الإسلام لم يدخل الحيّز التطبيقي إلاّ في فترة حياة الرسول عليه الصلاة والسلام و ما أعقبه بعد ذلك بقليل حيث تصدعّت التجربة الإسلامية ليس لخلل في المنظومة الفكرية والعقدية للإسلام بل يعود ذلك إلى تغليب الآنا على المجموع و طغيان المصالح الخاصة على المصالح العامة والعودة إلى مفردات الثقافة الجاهلية وتحديدا مبدأ الإعتزاز بالقومية والإنتماء القبلي وبروز الطوائف والملل حيث عملت كل طائفة على تجزئة الإسلام و إستنباط ما يؤكّد صحة منطلقها الإيديولوجي منه دون إثرائه معرفيا .." وهذه الفقرة من مقال أبي زكريا قد أكدت الفجوة الكبيرة بين الإسلام النظري والإسلام العملي. فإذا كان الإسلام الذي ظهر قبل أربعة عشر قرناً من الزمان لم يطبق إلا في حياة الرسول (عشرة أعوام المدينة) وبعده بقليل، لماذا يصم آذاننا الداعون إلى الحاكمية لله والمطالبة بتطبيق الشريعة التي أثبت الزمن أنها غير قابلة للتطبيق وإلا لكانت طُبقت من المسلمين الأوائل؟ ثم ألا يُظهر هذا الكلام أن الإسلام، لو كان من عند الله، لجاء إسلاماً قابلاً للتطبيق ولكان قد طُبق بالفعل، لأن الله يعلم أنه لو أتى بإسلام مخالفٍ لطبيعة البشر التي جعلها هو فيهم، فلن يطبقوه إذ أن الطبيعة تغلب التطبع ؟ أما طغيان المصالح الخاصة على العامة فهو طبيعة البشر وقد كان المسلمون الذين عاصروا النبي يخرجون التمر الصيص للزكاة ويحتفظون بالتمر الجيد لأنفسهم. فأنزل الله: " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " (البقرة 267). وعن ابن عباس قال: كان أصحاب رسول الله – ص- يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون به فانزل الله: " يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم". أما العودة إلى مفردات الثقافة الجاهلية والاعتزاز بالإنتماء القبلي فقد كانت معروفة حتى في أيام النبي ولم يتخل العرب عنها يوماً واحداً. وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير العرب مضر، وخير مضر بنو عبد مناف، وخير بني عبد مناف بنو هاشم، وخير بنو هاشم بنو عبد المطلب، والله ما افترق شعبتان منذ خلق الله آدم إلا كنت في خيرهما". (الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام جلال الدين السيوطي، ج4، سورة التوبة، الآية 128). وقال الله تعالى في القرآن: " وكنتم خير أمة أخرجت للناس ". فالتفاخر في الإسلام كان معروفاً منذ ميلاده.
ثم قال السيد أبو زكريا: " وعلى صعيد آخر فإنّ العرب قبل الإسلام كانوا لا يعرفون إلاّ الشعر وبعضا من الفنون التي إستوردوها من هنا وهناك، لكن بعد الإسلام عرفوا الشعر و الطب والفلسفة والفلك والرياضيات و الجبر والحكمة بمعنى أنّ الإسلام كان له فضل إطلاق العنان للعقل ليبدع في تفاصيل الحياة على قاعدة تعمير الأرض وفق إدارك شروط الطبيعة و قانون العلة والمعلول " وقد بيّنا في الفقرات السابقة أن عرب ما قبل الإسلام قد عرفوا الكثير الذي احتفظ به الإسلام وجعله من طقوسه المقدسة. أما كل العلوم التي دخلت العالم الإسلامي في الخلافة العباسية فلم تدخل لأن الإسلام أطلق العنان للعقل ليبدع، كما قال السيد أبو زهرة، ولكن لأن الخليفة المأمون أطلق يده في مال الدولة وأنشأ بيت الحكمة وأغدق على المترجمين الذين ترجموا كل ما وقع تحت أيديهم. ولو كان الإسلام قد أطلق العنان للعقل لينتج لماذا لم ينتج العقل الإسلامي شيئاً زمن الرسول وزمن الخلفاء الراشدين وزمن الدولة الأموية؟ ومن المفارقات العجيبة أن الخليفة المأمون الذي أنشأ بيت الحكمة بدأ الفتنة الكبرى بخلق القرآن وعذب وسجن وقتل المفكرين وأنشأ من جاء بعده منصب " صاحب الزنادقة " الذي عذب وقتل كل من قال شيئاً لا يتفق وآراء السلف. وفي أيام الدولة العباسية أوصد فقهاء بغداد باب الاجتهاد.

(4)
ثم شنف السيد أبو زكريا آذاننا بخطبة تصلح أن يلقيها أمام المسجد الأقصى يوم الجمعة، فقال: " والذين يرمون الإسلام بالجهل و التعصبّ والتطرف والإرهاب، لم يتعاملوا مع الإسلام كمنظومة فكرية وعقائدية متكاملة، فهذا راح يحكم على آية واحدة وذاك راح يحكم على نصف آية، وآخر راح يحكم على ربع حديث، والبعض وحتى يجوّز لنفسه الإسترسال في السكر والعربدة والمجون والعهر الأخلاقي راح يشكك في القرآن كله حتى يتحررّ من قيد الإلتزام بالحكم الشرعي، بمعنى أنّ كل المستغربين العرب و المرجفين من إسلامهم لا يملكون دراسة كاملة متكاملة عن مكونات الفكر الإسلامي و مقومات البحث الأكاديمي في نقد الظواهر الفكرية، فالإلمام باللغة وظروف نزول الأية و الإطلاع الموسّع على تفسيرها و معرفة الناسخ من المنسوخ ومؤونة كبيرة من العلوم كلها ضرورات في نقد النص الديني أو الإلمام بمعناه و فهم هذا النص من مختلف جوانبه هو الشرط الأساس لنقده..والملاحظ أنّ المرجفين من إسلامهم أكثر تمكنا من أغاني نانس عجرم و هيفاء وهبي و بقية التفهاء، فيكف وهم يفتقدون إلى أدوات النقد أن ينتقدوا دينا علم البشرية معنى الرقيّ. " فإذا تجاوزنا عن السكر والعربدة وكل الصفات غير الكريمة التي وصف بها السيد أبو زكريا نقاد الإسلام، نخلص إلى نقطتين: النقطة الأولى هي أن من يريد أن ينتقد الإسلام لا بد أن يكون ملماً بقواعد اللغة العربية وبجميع أسباب النزول وبجميع الناسخ والمنسوخ. والنقطة الثانية هي أن المتمكنين من أغاني نانسي عجرم وهيفاء وهبي لا يحق لهم نقد الإسلام. فلنأخذ النقطة الأولى أولاً:
لا شك أن من يريد أن ينتقد أو ينقد الإسلام لا بد أن يكون ملماً باللغة العربية وتصاريفها، أما الإلمام بأسباب النزول الآيات ففيه مشكلتان رئيسيتان: المشكلة الأولي هي أن الإسلامويين يقولون لنا إن الإسلام صالح لكل عصر ولكل أمة. فإذا كان الأمر كذلك فيجب أن تكون الآيات كذلك صالحة لكل عصر وعليه يصبح سبب نزول الآية ليس ذا قيمة، لأننا لو ربطنا الآية بسبب نزولها وزال ذلك السبب فيما بعد لأصبحت الآية زائدة عن حاجتنا ولا منفعة لنا منها. والاعتراض الأهم من ذلك هو أن المفسرين لا يتفقون في سبب نزول الآيات. فإذا أخذنا الآية : " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بعوضة فما فوقها " (البقرة 26)، قال الواحدي عن سبب نزولها: " لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) وقوله: (أو كصيب من السماء) قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فنزلت الآية". وقال الحسن وقتادة: " لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين المثل، ضحكت اليهود، فأنزل الله الآية". وعن الربيع بن أنس: " إن الآية نزلت من غير سبب، وإنما هو مثل ضربه الله للدنيا وأهلها، فإن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا امتلأت هلكت، وكذلك حال أهل الدنيا إذا امتلأوا منها كان سبباً لهلاكهم غالباً. " وقال سعد ابن أبي وقاص: " نزلت في الحرورية- يعني الخوارج." وأخرج ابن أبي حاتم أنها نزلت في المنافقين " (العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني، ص 84). وينسحب هذا الاختلاف في أسباب النزول على كل آيات القرآن، فكيف نعرف سبب نزول الآية كي نستعين به في النقد ؟ وكل هذه الأسباب ما هي إلا تخمين من المفسرين. أما القول عن الناسخ والمنسوخ فيحتاج كتاباً كاملاً للاعتراض عليه. وأصلاً ليس هناك سبب منطقي يجعل الله ينسخ آياتٍ قد أنزلها إذا صدقنا أن القرآن أزلي وأنه محفوظ في اللوح المحفوظ من قبل أن يخلق الله العالم. فإذا عرف الله قبل أن يخلق العالم ما سوف يحدث عندما يبعث محمداً، لماذا أنزل الآيات التي يعلم أنه سوف ينسخها بعد قليل مثل الآية 12 من سورة المجادلة، التي طلب منهم فيها تقديم هدية للنبي كلما تحدثوا إليه: "يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم " ولما رفض المسلمون تقديم الهدايا، نسخ الله الآية بالآية التي بعدها مباشرة: "ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم". فكيف يستقيم هذا عقلاً أن ينسخ الله آية قال للمسلمين فيها "ذلك خير لكم". وبعض السور فيها آيات ناسخة نزلت قبل الآيات المنسوخة. وهناك من نسخ آيات القرآن بالحديث، وبعضهم، مثل هبة الله بن سلامة، نسخ الآيات بالأساليب اللغوية مثل الاستثناء وتخصيص العام. ثم أن المفسرين لا يتفقون على عدد الآيات المنسوخة أو ما هي. فبعضهم قال إن المنسوخ لا يتعدى أصابع اليدين والقدمين بينما جعله الآخرون بالمئات. وهناك 43 سورة فقط ليس بها ناسخ أو منسوخ، من مجموع 114 سورة.
أما النقطة الثانية عن المتمكنين من أغاني نانسي عجرم وهيفاء وهبي فقد اتبع فيهم السيد أبو زكريا حكم مشايخ الإسلام الذين حرموا الغناء والموسيقى، ولكنه زاد على حكمهم بأن جعل عقول من يحفظون أغاني نانسي عجرم عاجزة عن نقد الإسلام. ولا يسعنا هنا إلا أن نورد له قول ابن رشد: إن غرس الفضائل في النفوس ضرورة، والسبيل إليها الموسيقى والرياضة.

(5)
وبإشارة غير خفية، وعلى مجرى " إياكِ أعني فاسمعي يا جارة" قال السيد أبو زكريا: "ولا يبذل هؤلاء المرجفون أي جهد في قراءة الإسلام مجددا، والتمعن في مكوناته المعرفية، فجل ما قرأه هؤلاء نصا لإبن تيمية الحراني، و جملة لإبن القيم الجوزية، و عبارة لنصر الدين الطوسي، و مفردة لأبي حامد الغزالي، فكيف عندها ننتقد عملاقا فكريا وجبلا شامخا معرفيا بأدوات بسيطة و يتيمة لا ترقى إلى مستوى فعل النقد الحقيقي ." ولا ندري ما يقصد بعبارة " قراءة الإسلام مجددا " هل يقصد أن الإسلام قد تجدد أم أن القرأءة يجب أن تكون مجددة ولا تصلح القراءة الواحدة للتراث ؟ وأنا لا أستطيع أن أحكم علي بقية الذين انتقدوا الإسلام إلا أني أستطيع أن أؤكد للسيد أبي زكريا ًأني قد قرأت القرأن وعدداً هائلاً من كتب الأحاديث وكتب التاريخ الإسلامي وكتب التفسير وكتابين عن الناسخ والمنسوخ بالإضافة إلى عدة كتب للمستشرقين الذين انتقدوا الإسلام وبعض المستشرقات اللاتي امتدحنه. وعندما أقدم مقتطفات من ابن الجوزي أو ابن قيم الجوزية أو غيرهما فإني قد قرأت الكتاب الذي اقتبست منه. والمشكلة الأساسية في الإسلامويين أنهم لا يتحملون النقد سواء الشخصي أو نقد القرآن. ونصيحتنا لهم أن يعملوا بالمثل الإنكليزي الذي يقول: " إذا كنت لا تتحمل الحرارة فاخرج من المطبخ ". فالذين يودون جعل الإسلام فوق النقد عليهم أن يفصلوا الإسلام عن السياسة ويجعلوه عقيدةً بين الشخص وربه، وساعتئذ لن يتعرض شخص للإسلام بنقد. أما إن أصروا على أن الإسلام دينٌ ودولة، فمن حقنا نقد كل ما يمت للدولة بصلة.