دون مقدمات، ولا تنظير، ولا موسيقى تصويرية .. تعالوا نقتحم صلب الموضوع مباشرة، إذ لا أدري لماذا يذّكرني الأخ المحترم يحيى أبو زكريا بسادتنا "مشايخ الكتاتيب" في بر مصر المحروسة في الأيام الخوالي، ربما لأنه طيب "وابن حلال" مثلهم، وإن كان حاداً شأنهم أيضاً، لكن رغم هذه الحدة لم نكرههم أبداً، بل على العكس أحببناهم، وتركوا في نفوسنا أطيب الأثر، ولكن .. وآه من لكن وأخواتها، فإن سادتنا مشايخ الكتاتيب كانوا يمارسون علينا أعتى صنوف الإرهاب الفكري التي لم تتوقف عند حد "الإقصاء" بل وصلت إلى حد "الإخصاء الفكري"، فصار بعض رفاقنا رقيقي المشاعر يحجمون حتى عن تنبيهه إلى أن ذبابة تهش على وجهه، خشية أن يغضبه ذلك، أو يتصوره سخرية ومساساً بذاته المصون .
ولعلي لا أظلم الأخ يحيى، حين أراه يتصرف بنفس طريقة "مشايخنا" وإن كان على نحو أكثر حداثة، فيتحدث عن القواعد المعرفية والتنظير والتأصيل ثم لا يلبث أن يصف مخالفيه بأنهم يتبنون آراء "عبارة عن خليط من الحرية الغربية والعبثية العربية والإلحاد السوفياتي وأفكار آدم سميث ومنهج هيغل وطروحات دوركايم".
طيب وما العيب أو العار يا مولانا في أن يتعلم المرء من مفكرين هنا أو هناك، باعتبار أن الفكر بطبيعته "تراث إنساني" من حق كل ابن آدم أن ينهل منه، ثم كيف تجتمع العبثية مع منهج هيغل الصارم، وكيف يتسق للمرء أن يجمع بين الإلحاد وحرية الاعتقاد ؟ .. وما صلة دوركاييم بأفكار آدم سميث الاقتصادية بالأساس ؟


ما علينا
يقول المحترم أبو زكريا ـ لا فض فوه ومات شانئوه ـ إن الليبرالية التي يعرفها "بعض العرب" هي تغريب واقتلاع للجذور، خلافاً لليبرالية الغربيين أنفسهم، وكأن هناك ما يمكن وصفه بليبرالية غربية وأخرى شرقية وثالثة بالملوخية، يا سيدي هذه خبرة إنسانية مشتركة، لا تعرف الغرب ولا الشرق، وما بينهما من خلافات مجرد "تفاصيل" لا قيمة لها، مادام الهيكل الأساسي هنا أو هناك متماثل متماسك، يستند إلى منظومة قيم محددة، هي موضع اتفاق إنساني قبل أن يكون عرقياً أو عقدياً أو أيديولوجيا ؟
ثم يصل سيدنا أبو زكريا إلى "لعبة الفزاعات"، التي بات المحترمون من المحسوبين على التيارين الإسلامي والقومي يفرطون في استخدامها كثيراً، وأحياناً إلى درجة تثير الغثيان وربما السخرية أيضاً، وتأمل عزيزي القارئ ما يخلص إليه السيد أبو زكريا بعد أن فتش وفتش وفتش في عقول وضمائر خصومه الفكريين من الليبراليين، ليؤكد في نهاية المطاف أن خصومه "يريدون لهذه الحرية أن تكون منطلقا لتدمير الموروث الحضاري لهذه الأمة ونسف الإسلام ومكوناته وضرب اللغة العربية في الصميم" .
وهذا منطق تكفيري صريح، إذ أن اتهام الليبراليين بمحاولة "نسف الإسلام" لا يمكن أن تمر هكذا، حتى لو وضعها السيد أبو زكريا بين عبارتين مما توصفان بتعبير "حمال الأوجه"، وهما "تدمير الموروث الحضاري للأمة"، ثم "ضرب اللغة العربية في الصميم"، والحقيقة أن هذه الاتهامات لا تخرج عن كونها "إرهاباً فكرياً" وتوزيعاً كريماً للتهم على خلق الله، بما يتنافى حتى مع المنظور الإسلامي القويم الرصين، الذي يأبى أن يشق على الناس قلوبهم، فلم أسمع أو أقرأ مثلاً أن كاتباً مثل شاكر النابلسي أعلن إلحاده، رغم أن هذا أمر لا يعنيني ـ كليبرالي ـ لأنه شأن يتعلق بضميره، ولا صلة لي به، كما لم أسمع أن سيد القمني دعا إلى استخدام اللغة الانجليزية في المكاتبات، رغم أن ذلك يحدث في شتى بقاع الكون، ولا يراه أحد مساساً بلغتهم وحضارتهم، لأنها أصيلة وليست من الهشاشة إلى درجة يمكن أن تنهار في أول مواجهة حضارية
......
بالطبع لا يفوت السيد أبو زكريا أن يخلط "أبو قرش على أبو قرشين"، كما نقول في مصر، وهذا أيضاً سلوك يومي، وطريقة تفكير شائعة في أوساط حبايبنا الإسلامجية والقومجية، فتراه يقول "ممارسات الليبيراليين العرب الموجودين في دائرة السلطة والنفوذ"، وهذه نكتة سخيفة فعلاً، عذرا لم أجد تعبيراً أخف وطأة من هذا، لأنه على حد علمي المتواضع بشؤون المنطقة، فإنه لا يوجد ليبراليون متنفذون في أي قطر من أقطار المنطقة، اللهم إلا حالات استثنائية فردية لا تشكل وزناً، أما المتنفذون فهم إما من العسكريتاريا العربية القادمة على ظهور دبابات القومية العربية الفاشية، أو المشايخ المتلفعين بعباءة الدين يبيحون للحكام الطغاة هؤلاء ما يثبت دعائم طغيانهم بفتاوى "فقهاء السلاطين"، فتراهم يختارون شذرات من هنا وهناك لتدبيج الفتوى "إياها"، التي تستهدف في النهاية "السمع والطاعة، وإن ضرب عنقك"، بينما لا أرى وسط هذا المشهد "ليبرالياً واحداً يوحد ربه"، ومع هذا يكيل لهم أبو زكريا التهم بالقنطار، كقوله إنهم ابتعدوا عن الشارع العربي، ويتناسى أن الليبرالية ـ وهي أول ما عرفه أبناء المنطقة من فكر معاصر ـ مغيبة بشكل قسري ومنهجي من قبل اعتى قوتين وهما أنظمة الحكم، والمؤسسات الدينية، فأنظمة المنطقة تعامل الليبراليين كاليتامى على مأدبة "محدثي النعمة"، وتتربص بهم الدوائر، ولا يمولهم أحد بينما تتدفق الأموال على القوميين والإسلاميين من كل حدب وصوب، كما لا تسمح الأنظمة لليبراليين بصحيفة واحدة ـ هل تعرف صحفاً ليبرالية غير (إيلاف) التي انتزعت وجودها من الإنترنت وشجاعة مؤسسها ـ بينما ترخص الأنظمة صحفاً فاشية زاعقة، وأخرى دينية تحريضية، أو ثالثة تافهة فضائحية ومبتزة، ناهيك عن صحف الحكومة التي تشبه يوم الثلاثاء، الذي لا أدري لماذا لا أرى له موضعاً من الإعراب وسط أيام الأسبوع ؟


ما علينا أيضاً
ثم بهذه المناسبة أنا أدرك أن مولانا يحيى أبو زكريا قادم من تجربة لها خصوصيتها، تتسم بالحدة والخصوصية ولا يمكن تعميمها على ثقافات أخرى أكثر تسامحاً كما هو الحال في مصر والشام مثلاً، ولعله يتصور أن جنرالات الجزائر أو تونس أو ليبيا من الليبراليين، ولكن دعني أسأل عما يعرفه عن "الحملة الفرنسية" على مصر ؟
هل يعرف أنها أول حراك حضاري حقيقي زلزل مصر وبالتبعية المنطقة برمتها، حين جلب معه أول مطبعة معه، وأصدر أول صحيفة ، وفك رموز حجر رشيد، وأعد أول مشروع بحثي ضخم مازال له قيمته العلمية والأكاديمية فضلاً عن التاريخية هو كتاب "وصف مصر" ، ناهيك عن التصدي للخرافات التي أشاعها "العثمانلية" وجعلوها تستشري في البلاد وبين العباد، وأسسوا المستشفيات والإرساليات و.. و.. الخ .
سافر رفاعة الطهطاوي مع البعثة إماماً ليصلي بهم في باريس فعاد ليكون رائد النهضة وإمام التنوير، وأبناء رفاعة هم من حملوا مشاعل التنوير وما تبقى منها حتى يومنا هذا .
ألم تكن الحملة الفرنسية هذه "غزواً" مباشراً وصريحاً، وعاد الفرنسيس إلى بلادهم، وبقي التنوير والمنتج الحضاري، وإلا لبقينا حتى اليوم نكتب على "رق الغزال" ونتداوى بـ "عدية يس" ؟
لنعد إلى التاريخ الأبعد، ونرى ماذا فعل الرومان بمصر حين ترهلت حضارتها الفرعونية، وشاخت .. وكيف صنع البطالمة دولة فتية ، أو بتعبير أدق نفخوا في روح الأمة فعاد اليها شبابها، وصارت الإسكندرية حينئذ منارة الدنيا وحاضرة الزمان، وأسست مكتبة الاسكندرية، وهي بالمناسبة لم تكن مكتبة بالمعنى المتعارف عليه الآن، بل كانت جامعة تخرج فيها كل أساتذة ذلك العصر من فلاسفة وكيميائيين وفيزيقيين وحتى علماء اللاهوت والكهنة والأدباء.
ألم يكن الرومان "غزاة"، ومضوا لتبقى الاسكندرية حتى يومنا منارة ومدينة بألف وجه وألف أسطورة ؟
يا معلم أبو زكريا، اسمعني جيداً، الحضارة بطبيعتها انجاز إنساني، وأميركا الراهنة هي نفسها روما هذا الزمان، والأميركان هم "موجز العالم"، من قوقاز وجرمان وزنوج وملونين وهنود وصينيين وغيرهم، وحدث انهم أصبحوا القوة الأعظم، انطلاقاً من تراث الغرب الشائخ، وتراجعت قوى "أوروبا العجوز" وستتراجع أكثر لتصبح مجرد محميات أميركية .. صدقني أو انتظر النبأ اليقين .

***

ثم تعال هنا عزيزي يحيى وأجبني بصراحة وبساطة، ودون شعاراتية وتنظيرات لم يعد لها متسع في الصدور من فرط القهر، إذ أراك تتهم الليبراليين بأنهم "نجحوا بامتياز في إستقدام الدبابة الأميركية إلى بلادنا بحجة التمكين للحرية"، وهذه بحق كل غال ومقدس شرف لا يدعيه الليبراليون، الذين لا يفهم المرء كيف يستطيعون إقناع دولة عظمى مثل الولايات المتحدة لديها مؤسسات عملاقة في كل شئ، بأن تنفق كل هذه المليارات وتضحي بآلاف من أبنائها لا لشئ إلا لأن شاكر النابلسي أو العفيف الأخضر أو غيرهما كتب مقالاً هنا أو هناك، بالله عليك ألا تمنح خصومك الفكريين حجما أكبر من قدراتهم، وهم المستضعفون من حكومات بلدانهم، ومن متطرفي بلدانهم ؟
أما الحقيقة التي يغض السيد يحيى أبو زكريا الطرف عنها فهي أن "إخوانه" من الإرهابيين هم من أتوا بأميركا وأصدقائها بدباباتهم وبوارجهم، وليس الليبراليين الذين لا يملكون سوى عقولهم وضمائرهم، بينما السادة المجاهدون يفجرون الطائرات ومحطات المترو والمنتجعات السياحية، وندفع نحن فاتورة هذه الجرائم في كل لحظة .
ثم أنه ومع إنكار أي عاقل لأن يكون لليبراليين دور في استقدام الأميركان أو الطليان، غير أنني شخصياً لا أرى أي فرصة لإزاحة الطغاة العرب إلا عبر "طغاة كونيين"، ولنأخذ من قصة حبيب قلبك صدام حسين مثالاً ، وأجبني بصراحة ودون التفاف :
من كان يستطيع بوسعه إزاحة ذلك الطاغوت صدام الذي كان يجثم على صدر الشعب العراقي غير أميركا؟
كأني أسمعك تقول لي العرب، وهذه إجابة أتمنى ألا تراودك عن خيالك، لأن العرب لا يهشون ذبابة تعف على جثة أشقائهم، العرب هم من دفعوا لصدام ودفعوا به إلى أتون حرب عبثية مع إيران، وهم من وقفوا عاجزين حين غزا الكويت والتهمها في ساعات، وهم الذين وقفوا يتفرجون عليه وهو يدفن آلاف العراقيين في مقابر جماعية، أرجوك إنس العرب والعروبة تماماً، حاول أن تتخلص منها كما تخلص الألمان من تراثهم النازي، والطليان من الفاشية، ولنكن متسقين مع أنفسنا ولو مرة واحدة .
إذن ستقول لي إن الشعوب هي التي كانت ستطيح صدام.. وسلامتها الشعوب، فمع كامل احترامي لها، إلا أنه لم يعد هناك مفر من الاعتراف بأن الشعوب العربية كما لا يخفى على أحد تم "إخصاؤها"، حتى صارت لا تصلح إلا للتسابق وراء لقمة العيش والنكاح وتعاطي المسكنات والشعارات، وجهاز أمني واحد في دولة عربية صغيرة ـ ولن أقول جيوشاً ـ كفيل بقمعها .
بعضهم سيهمس بأن "جماعات الإسلام السياسي" كفيلة بإزاحة الطغاة، وإقامة دولة "الخلافة الإسلامية"، وأبشرهم بأن هذه الجماعات متفرغة أولاً لتحريم البوكيمون والزهور، وملاحقة الأدباء والفنانات والشبان العشاق الصغار في الحدائق، وبعد أن يفرغوا من هذا "العدو القريب" سيتفرغون بإذنه تعالى للعدو البعيد، وهذا هو سلوكهم الأصيل وأدبياتهم التي يقولون فيها "إن العدو القريب أولى بالجهاد من العدو البعيد" ، في إشارة إلى إسرائيل، وإلا لما ترك رجل مثل عبد الله عزام فلسطين مستباحة ومحتلة وراح يجاهد في قندهار، وما تفرغ ابن لادن لأميركا والهند والسند والعراق والوراق/ بينما لم يمس شعرة لإسرائيل .

***

أخيراً .. لا أفهم كيف يغفو ضمير السيد يحيى أبو زكريا حين يرى نفسه ينتقد الليبراليين، بل ويكيل لهم الاتهامات في (إيلاف) بينما لا يجرؤ ليبرالي واحد أن ينشر حرفاً في آلاف المواقع الإسلامية والقومية المنتشرة عبر الشبكة، بل وصل الأمر بالمحسوبين على الإسلاميين والقوميين إلى حد التنكيل بزملائهم في العمل لمجرد انهم يخالفونهم الرأي، وأعرف عشرات الحالات من فرط بشاعتها لا يسمح المرء لنفسه بالخوض في تفاصيلها، حدثت لصحافيين ليبراليين في فضائيات مثل "الجزيرة"، وصحف لا حصر لها على امتداد هذه المنطقة المحشورة بين سندان حكومات مستبدة، ومطرقة مهووسين دينياً أكثر استبداداً .
يا رجل أنت لا ترحم .. ولا تريد لرحمة الله أن تحل، فالرحمة يا مولانا يحيى، رووق وكل عام وأنت طيب.

[email protected]