1-

أثارت مقالتي في شبكة إيلاف والتي تحمل عنوان "المعقدون من إسلامهم" ردود فعل واسعة من قبل القرّاء الذين أكنّ لهم كل الإحترام حتى لو إختلفوا معي إلى أبعد الحدود، كما إنبرى للردّ عليها مشكورا الأستاذ كامل النجّار (من ينقد الإسلام ليس معقداً منه يا أبا زكريا)والذي حوى ردّه العديد من المغالطات نحاول الردّ عليه بطريقة علمية و منهجية فيها الكثير من الوقار العلمي لأستاذنا الفاضل كامل النجّار..
مبدئيّا نهج السيد كامل النجاّر نهجا سبقته إليه الملل والنحل في عصور الملل والنحل الذي كتب عنهم الإسفراييني البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق – بكسر الفاء- و إبن حزم الأندلسي في كتابه الملل والنحلل و الشهرستاني في الملل والنحل أيضا، و مصيبة هذه الملل على الإسلام أنّها حاولت أن تفسرّ القرآن تفسيرا يخدم منطلقاتها الإيديولوجية و رؤاها المذهبية ، فبدل أن تساهم في إغناء المعرفة القرآنية بالأدوات الصحيحة راحت تأخذ من القرآن تلك الآية أو ذينك السورة التي تخدم منطلقها الإيديولوجي أو تحاول تفسير القرآن بما يخدم مرتكزها المذهبي و المعرفي. وهذا تماما ما أستخدمه السيد كامل النجار عندما حاول شرعنة الشكّ حتى لو أفضى إلى غير البيديهيات العقائدية المعروفة.
مبدئيّا تجب الإشارة إلى أنّ الشكّ دون اليقين في التراتبية المنطقية، فاليقين هو حصول العلم والشكّ خلافه ، فالشك المفضي إلى اليقين أو إلى الحقيقة الكونية لا إشكال فيه تماما كشكّ إبراهيم عليه السلام كما ورد في قوله تعالى: أرني كيف تحيي الموتي ، والذي أشار إليه السيد كامل النجار في معرض رده على مقالتي، فهناك شكّ يفضي إلى اليقين بمعنى الحقيقة الكونية وهذا يتعرض إليه أهل اللب والعقل في معرض بحثهم عن واجب الوجود بتعبير الفلاسفة، وهناك شكّ يفضي إلى الفراغ المعرفي والفوضى الفكرية و الكفر الصريح بالنص الديني والكتب السماوية قاطبة، ثمّ كان يفترض بالسيد كامل النجّار وحفاظا على الموضوعية أن يؤكّد بأنّ شكّ إبراهيم ويونس و غيرهما من الأنبياء قد قادهم إلى الحقيقة الكونية بوجود خالق لهذا الكون، وليس عكس ذلك، فلماذا يأخذ النجار طرفا من مسلكية إبراهيم الفكرية في بداية نبوته ولا يأخذ بالنتائج التي توصلّ إليه عقله، وخلاصة تفسير الآيات التي أوردها السيد كامل النجّار تفيد بأنّ الله يعبد بالعقل وليس بالعاطفة، و لا يمكن إستباط جواز التشكيك حتى في الألوهية من ذينك الآيات...
وقول النجار بأنّ النقد ضروري لفرز الصالح من الطالح ، أمر مردود عليه ، لأنّ القرآن لا طالح فيه مطلقا، وإذا كان فيه طالح فكيف يجلعه مصدرا في جواز الشك، وإعتباره مقدمة ضرورية لإنتاج معرفة سليمة، وكان الأولى بكامل النجار أن يوضح لنا وبصراحة ما هو الإسلام الذي يجب أن ننتقده، هل هو مصادر ومراجع فهم الإسلام بمعنى القرآن والسنة أم هو سيرة المسلمين وتفسيراتهم المتنوعة للإسلام، أم هما الإثنان معا !!

2-

ينكر السيد كامل النجار ما قدمه الإسلام للجزيرة العربية و العالم ، ويعتبر أنّ مناطق عدة عرفت تطورا ملحوظا في العديد من المجالات في اليمن وفارس وغيرها، بمعنى أنّ الإسلام لم يقدم أي إضافات تذكر.. وهذا في حدّ ذاته مجافي للموضوعية و ينمّ عن قلة إطلاع في تضاريس الحياة الإجتماعية والثقافية والسياسية لكثير من المدائن والأمصار التي كانت قريبة من الجزيرة العربية أو في نفس الجزيرة العربية.
مبدئيا تكفي مقارنة واحدة بين المدنيات التي ذكرها النجار ومدنية الإسلام لتتجلى حجم الفوارق والإضافات، ثمّ إنّ الإسلام قبل أن يصيغ المدنية صاغ الإنسان الذي هو أساس صناعة النهضة والحضارة وهو محورهما، والمدنيات التي تحدث عنها النجار كانت خالية من أي بعد روحي أو إنساني والدليل على ذلك حجم الغارات والمذابح والإعتداءات والإقتتال فيها ، فأين نفع المدنية إذا كانت لا تصون الروح و الإنسان الذي هو أساس الوجود..
ثمّ إذا كانت المدنيات التى أشار إليها النجار عريقة ومهمة فلماذا تلاشت بسرعة و إضمحلّت وماتت، فيما ظلّت المدنية الإسلامية قائمة يشهد لها القاصي والداني، فهذا الديبلوماسي السويدي إنغمار كارلسون في كتابه: الإسلام والغرب تعايش أم مجابهة، يقول أنّه لولا الإسلام لما عرفت أوروبا أي مدنية، وهذه كارين آرمستروج في كتابها معارك في سبيل الإله، تعترف أنّ المسلمين علموا الأوروبيين ما كانوا يجهلونه بل لقنوا أوروبا تراثها اليوناني الذي نسوه نهائيا، والمسلمون هم الذين حموا النصارى ولاحقا اليهود الذين لاحقتهم محاكم التفتيش...
من أكبر الأمراض التي يصاب بها بعض مثقفينا مرض العمى الثقافي والفكري، فيأخذون من التراث البشري ما يدعم إلحادهم ويتركون المحاسن فيما الموضوعية تقتضي أن ننظر إلى المحاسن والمساوئ على حدّ سواء...


3-

مثقفو الفودكا وراء كل ما يحيق بديننا من تكالب وهذه حقيقة قلتها في مقالتي المعقدون من إسلامهم، والسيد كامل النجار لايرى أي تأثير للخمرة المعتقة على الفكر الناتج عن هذا العقل الذي بخرّف بتأثيرات الخمرة، وهنا أحيله إلى آلاف البحوث التي تتحدث عن تأثير الخمرة على العقل البشري ، فالقانون الغربي يمنع عاقر الخمرة من سياقة السيارة.لأنّه قد يدهس كائنا من كان في طريقه ، كما أكدّت الإحصاءات في الغرب بأنّ معظم الحوادث يقف وراءها ناس سكارى ، فإذا كان السكّير لا يقدر على قيادة سيارة ، فكيف يصنع فكرة أو تيارا فكريا ، اللهم إلاّ إذا ألحقنا هذا النتاج الفكري بمذهب الحشاشين والسكارى، وهكذا فكر لا يصلح لصناعة نهضة مطلقا ، أما عمر الخيّام فلم يثبت أنه كان يقارع الخمرة ، بل إتخذ من الخمرة كمصطلح مجازي للتعبير عن مكونات عرفانية خاصة بالعرفانيين..

4-

حسنا قال السيد النجار أنني كمن يلقي خطبة في المسجد الأقصى ، فذلك أشرف لي والله من معاقرة الخمرة المعتقة ، عموما هناك جهل كبير بيّن في حديث السيد كامل النجار عن الناسخ والمنسوخ، لأنّ القرآن الكريم نزلّ على رسول الله –ص- لإدارة مجتمع أريد له أن يخضع لتعاليم تسبب له الرقي والإزدهار ، فإذا نزلت آية معينة لمعاجة واقعة بعينها ومسيجّة بالخصوصية، فما الإشكال أن يتم الإنتقال إلى حكم آخر ، خصوصا وأن الناسخ ليس نقيض المنسوخ أو عكسه تماما...
ثمّ إنّ الناسخ والمنسوخ ليس في بديهيات الأحكام الواقعية كما يقول علماء الأصول ، بل في ثانويات الأمور ، و هذا لا يعني مطلقا أن القرآن لا نفع فيه كما قال النجار..
وبعد حديثه عن الناسخ والمنسوخ دلف النجار للدفاع عن نانسي عجرم وهيفاء، فبربك وبغض النظرّ عن حكم الشرع في ترهاتهما، هل ما يقدمانه للناس هو طرب أو تحريك شهوات، وكإنسان عاقل هل تقبل لإبنتك أن تدور ذات اليمين وذات الشمال وكل ما فيها مكشوف ، و الجالسون أمامها وهم يكرعون الخمرة يوشكون أن ينقضوا عليها !!

5-

وأخيرا يتحدث النجار عن نفسه قائلا أنه قرأ القرآن و كتب التفسير وكتب المسشرقين وجملة من التصانيف، وهذا شيئ رائع لأنّ المثقف الموسوعي يجب أن يحيط علما بكل شيئ، غير أنني أجزم أنّ السيد النجار أخذ من كل ما قرأه ما يخدم إيديولوجيته وما يريد تبنّيه من أفكار، وأنا عندما دعوت إلى إعادة قراءة الإسلام قراءة مجددة وجديدة، إنما دعوت إلى ذلك إيمانا مني بأنّ الكثير من القراءات كانت خاطئة سواء تلك القراءات التي قرأها الملاحدة العرب وأرادوا التأكيد على جدوى الإلحاد.، أو القراءة الليبيرالية، وحتى بعض القراءات الإسلامية..
ومن تمّ قال السيد النجار: أنّ المثل الإنجليزي يقول بأنّ الذي لا يتحمّل الحرارة عليه أن يخرج من المطبخ، فأنا والحمد لله أتحمل الحرارة ومستعد لأي مناظرة فكرية كائنا ما كانت ولن أستحي من إسلامي بتاتا...
لقد قرأ النجار الإسلام بأدوات معرفية مغايرة، تماما كما قرأه محمد أركون وغيره، ثمّ إذا كانت رؤى جامدة نسبت إلى الإسلام وأقترنت به هل هذا يعني أنّ الإسلام مريض بل أكثر من مريض كما يقول النجار...
بالتأكيد فإنّ المرض هو في رأس النجار، وإذا كان يدعي بأنّ الإسلام صادر العقل، فليعلم أنّ الإسلام جعل التفكير فريضة، وأملى على الإنسان أن يعي أهمية الحكم الشرعي ومدى ملاءمته لصالح الإنسان قبل تطبيقه، فهل فعل السرقة قبيح أم طيب!
وهل فعل الكذب قبيح أم طيب!
وهل فعل الخيانة قبيح أم طيب!
لو قرأ النجار القرآن بنظارات معرفية حقيقية بعيدة عن الأدلجة التي تملي عليه توجهاته الفكرية لأكتشف شيئا مغايرا، لكن من لم يجعل الله له نورا فماله من نور!
وللبحث تتمّة.