تصريح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل،بشأن تدخل إيران في العراق، والرد المضاد الذي ورد على لسان وزير الداخلية العراقي السيد بيان جبر الزبيدي، يعتبران تطورا دراماتيكيا في العلاقات العراقية السعودية، ما كان أحد يتوقعه، أقله بمثل هذه الحدة، وبمثل هذه الظروف. ولكن يبدو أن ما يجري على السطح من أمور لا يشبه أبدا ما يفور في الأعماق.
فقد عرف عن الدبلوماسية السعودية، تحفظها الشديد وحذرها وتأنيها في إصدار الأحكام أو الاتهامات ضد الآخرين. لكن الوزير السعودي كان، هذه المرة، صريحا وبدون مواربة فأشار إلى تدخل إيراني بالمال والسلاح في العراق. وعندما تخرج الدبلوماسية السعودية عن طورها المعتاد فأن هذا يعني أن الأمور داخل العراق وصلت إلى حد لا تستطيع السعودية أن تستمر بالتزام الصمت إزاءها، أو تجاهلها وكأنها لا تحدث.
أيضا، عندما تعلن السعودية عن رأيها المشار إليه، صراحة ورسميا وعلى لسان قائد دبلوماسيتها، فأنها، على الأرجح، لم تفعل ذلك إلا بعد أن قامت بعمليات جس نبض الحكام العرب الآخرين، بشأن نفس الموضوع، ولاقت منهم موافقة ورضا، أو على الأقل تفهما.
ولا نعتقد أن الأمر سيدخل في باب المبالغة لو قلنا أن ما ذكره الوزير السعودي يعتبر تكميلا أو امتدادا لتصريحات العاهل الأردني، قبل أشهر، حول "الهلال الشيعي". ورغم المحاولات التي قام بها الأردنيون لتلطيف تصريح مليكهم، عقب الاحتجاجات العراقية، فأن محاولات التلطيف تلك لا تعني شيئا كثيرا، وأن العاهل الأردني كان يعني تماما ما قاله في التصريح الأساس. وسواء قال العاهل الأردني أو لم يقل، فأن مخاوفه عن ظهور "هلال شيعي"، كانت تعبيرا عن مخاوف الكثير من الحكام العرب، إن لم نقل كلهم. العاهل الأردني كان، في واقع الحال، يتحدث باسم، ليس الحكام العرب وحدهم، وإنما باسم "الشارع" في العالم العربي والإسلامي. فالمرء لا يحتاج إلى إجراء استطلاع للرأي حتى يعرف أن التجربة السياسية الجارية في العراق منذ أكثر من عامين، تلاقي مواقف، أقل ما يقال عنها أنها مواقف سلبية، من قبل المجتمعات المدنية في جميع البلدان العربية والإسلامية، إما لأسباب مذهبية خالصة، أو لأسباب سياسية مردها الكراهية للسياسة الإميركية، أو الأثنين معا.
ونحن نعتقد أن المواقف الرسمية لكثير من الحكومات العربية إزاء الوضع في العراق ما تزال خجولة وتضمر أكثر مما تعلن. ولو لم تكن أمريكا نفسها هي الراعية للأوضاع الجديدة داخل العراق، لكانت، ربما، مواقف الكثير من الدول قد سارت باتجاه القطيعة الحقيقية مع العراق. بل أن الوضع هو كذلك منذ أكثر من عامين. والعراق يعيش عزلة دولية غير مسبوقة.
حسنا، ماذا يتوجب على الدبلوماسية العراقية أن تفعله في مثل هذه الظروف؟
أو أليس أول ما يتوجب القيام به هو العمل الدائب، والصبور ثم الصبور ثم الصبور، باتجاه زيادة عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم و تحييد ما يمكن تحييده من الأعداء، وطمأنة مخاوف المتخوفين من مغبة تعقيدات الأوضاع العراقية مستقبلا، وشرح تعقيدات الوضع، وإفهام الأخرين أن العراق الجديد لن يكون عنصر اضطراب في المنطقة، وانه يتفهم أن لدول العالم، وخصوصا المجاورة، مصالح مشروعة داخل العراق. وهذا الأمر يتطلب، أيضا، أن ينسى هذا المسؤول العراقي أو ذاك، مرة واحدة وللأبد، بأنه لم يعد، كما كان في السابق، معارضا عليه أن يخيف خصومه السياسيين على شاشات الفضائيات العربية، إنما هو الآن مسؤول حكومي، يزن كلماته بميزان الذهب، ويعبر عن سياسة دولة بأكملها، وليست سياسة الحزب الذي ينتمي إليه.
فهل كان وزير الداخلية العراقي الأستاذ بيان جبر، بمستوى هذه الصفات، وهو يرد على ما قاله الوزير السعودي؟
بصراحة كاملة، أن رد الوزير العراقي كان كارثة دبلوماسية بكل المعايير: فهو حمل الكثير من التنفج، وحفل بادعاءات عنجهية، وقبل ذلك أساء كثيرا للعراقيين الشيعة، الذين يفترض أن الوزير العراقي كان يدافع عنهم. وإلا ما معنى أن يقول الوزير العراقي بان "الهجوم على الشيعة العرب الذين يشكلون 60 بالمئة من العراقيين قد يدفعهم إلى أحضان إيران" ؟ كيف وصل الوزير لهذا الاستنتاج ؟ ومن خوله أن يقول ذلك ؟ وبأي طريقة وبأي أسلوب، سيرمي العراقيون الشيعة أنفسهم بالحضن الإيراني؟

حقا، كيف؟
بالانفصال، مثلا، عن بلدهم والتنازل عن هويتهم ومواطنتهم العراقية وطلب الهوية الإيرانية؟
ببيع بلدهم إلى إيران ؟ بتغيير لغتهم وسحناتهم وأسمائهم ؟ بإعلان الحرب ضد بلدهم ودولتهم العراقيتين، أي ضد أنفسهم، والانضمام إلى إيران؟ ثم ، لماذا، عندما يتحدث البعض عن العراقيين الشيعة، يرد ذكر الحضن الإيراني دون غيره؟ العراقيون العرب الشيعة هم عشائر زبيد وخزاعة وبني أسد وبني عقيل والظوالم وحجام وربيعة ومياح وبني كعب وبني مالك وأل بو محمد وال ازيرج وبني حسن وبني ركاب...
فما الذي يربط هذه العشائر العربية بالحضن الإيراني ؟ ولنفترض أن هذه القبائل العراقية العربية الشيعية قررت، طائعة وراضية، الارتماء في الحض الإيراني، فأنها لن تجد الدفيء الذي تريده. ودون أبناء هذه العشائر العراقية الشيعية، تجربة سابقة لمواطنيهم وأشقائهم العراقيين الكورد الفيلية الذين هجرهم صدام، في أبشع عملية تهجير عرفتها البشرية، إلى إيران. فما الذي فعلته الجمهورية الإسلامية الإيرانية لهم ؟ لم تفتح لهم حضنها أبدا. لقد سدت حتى أبواب الرزق أمامهم. أما طلباتهم للحصول على الجنسية الإيرانية أو جواز سفر إيراني، فكان أمرا مستحيلا. وعندما سقط نظام صدام وزالت الأسباب التي اضطرتهم للبقاء في إيران، فأنهم عادوا لبلدهم العراق، "مشيا على الرأس لا سعيا على القدم". ولو كانوا قد وجدوا الحضن الإيراني دافئا، لظلوا هناك.
نعم، إيران والعراق بلدان متجاوران، بل شقيقان، تربطهما أخوة الجغرافية والتاريخ والديانة والمذهب والزيجات المشتركة. وهذه الأخوة تمتد جذورها لآلاف السنين. ومن مصلحة البلدين، حقا، أن يوطدا فيما بينهما، الآن، ما هو قائم من علاقات حسن الجوار، وان يخلقا أفاق جديدة من التعاون المشترك، في المستقبل. وليس من مصلحة العراق ان يعكر علاقاته بإيران، لا حاضرا ولا مستقبلا.
كل هذه أمور مفهومة ومعلومة وواجبة التحقق. لكن هذه الأمور كلها شيء، والحديث عن "الحضن الإيراني" شيء أخر، تماما.
نحن لا نعتقد أن الكثير من العراقيين الشيعة يفكرون يوما، حتى لو في الحلم، أن يرتموا في الحضن الإيراني، لسبب واحد ووحيد هو،
إن حضن بلدهم العراق أكثر دفئا من كل أحضان العالم، مثلما يجد الإيرانيون أن إيران هي حضنهم وملاذهم، ومثلما يشعر أي مواطن أخر إزاء بلده.
إن مجرد أن يلفظ أي مسؤول عراقي تعبير "الحضن الإيراني"، ثم يحذر الأخرين بأن العراقيين الشيعة سيرتمون فيه، إذا هوجموا، لهو صفعة قاسية على وجوه العراقيين الشيعة، وإهانة بالغة لمشاعرهم. إن كلمات كهذه تظهر، مهما كانت دوافعها، العراقيين الشيعة وكأنهم مجموعة من "مرحلين ولاجئيين وعابري طريق"، تقطعت بهم السبل، فلم يجدوا غير الأراضي العراقية مستقرا، إلى حين تنجلي الغمة، ويعودوا إلى وطنهم الذي جاءوا منه. فهل هذا هو حال العراقيين الشيعة ؟
هذا فيما يخص "الحضن الإيراني"، الذي حذر الوزير العراقي من أن العراقيين الشيعة سيرتمون إليه.
إما فيما يخص الفقرات الأخرى في رده حول مطالبته "السعودية أن تعطي المرأة حقها في قيادة السيارات والانتخاب"، وأن " تهتم السعودية بشؤونها وبمشاكلها الداخلية"، فهي مطالبة منطقية، تنم عن عقلية متحضرة ومتقدمة جدا. لكن المسألة هي، أن الوزير السعودي لم يثر هذه القضايا في تصريحه، ولم يدع أن المرأة السعودية أفضل موقعا من شقيقتها العراقية، ولم يقل أن السعودية تبز في نظامها الديمقراطي ما موجود في العراق من ديمقراطية. الوزير السعودي تحدث عن مسألة واحدة هي، تدخل إيران في الشؤون العراقية الداخلية.
والرد العراقي يجب أن يركز على هذه النقطة وحدها، أما أن يفندها بما يملك من حجج وبراهين، أو يعترف بوجود تدخل.
أما الأسهابات الأخرى التي وردت على لسان الوزير العراقي، فأننا نخشى أن يتصدى له من يطالبه بذكر عدد النسوة العراقيات اللواتي يقدن سياراتهن هذه الأيام في شوارع المدن العراقية، دون أن تقودهن ميلشيات الأحزاب الحاكمة، إلى التهلكة. أيضا ، نخشى أن يظهر من يسأل السيد الوزير العراقي: ما الفرق، هذه الأيام، بين أوضاع المرأة العراقية وشقيقتها السعودية ؟ إلا يوجد على كل مفترق طرق، وعلى مدخل كل جامعة، مجموعة من "المطاوعة" العراقيين الجدد، بزوا نظرائهم السعوديين في مواقفهم المتطيرة ضد أي أنثى تسير في الشوارع العراقية؟ كذلك، نخشى أن يسأل أحدهم الوزير العراقي إن كانت نسبة أل 25 في المئة من مقاعد البرلمان العراقي المخصصة للنساء، هي مطلب نادت به الأحزاب العراقية الحاكمة التي ينتمي إليها معالي الوزير، أم انه مطلب فرضته اميركا فرضا، فتعوذ الآخرون ألف مرة بالشيطان الرجيم وقبلوه، وما زالوا يقبلونه على مضض؟
نعم، الوزير العراقي على حق عندما قال أنه "يرفض التدخل السافر في شؤون العراق". لكن معالي الوزير ليس بحاجة، حتى يوصل هذه الرسالة، أن يثير غضب شعب بأكمله. وألا ما علاقة تصريح الوزير السعودي، بما قاله وزير الداخلية العراقي بأن "العراق مهد للقانون والحضارة وعلم الإنسانية القراءة والكتابة ونشر الحضارة في ربوع العالم"، وما علاقته بالجمل والبدوي؟
إن القانون والحضارة والقراءة والكتابة تعني، أول ما تعني، أن يعتمد الإنسان على القانون، وعلى المحاججة الذهنية، وليست العضلية، في دعم أرائه وتفنيد أراء الاخرين.
ولكن الوزير العراقي تصرف كأي بدوي، أخذته العزة بالإثم، فشهر سيفه على طريقة "إلا لا يجهل احد علينا".
ألا ترى يا معالي الوزير العراقي، أننا جميعا ما نزال نعيش في مرحلة البداوة ونتأبط خناجرنا، وأن الفرق هو، أن بعضنا يظهر خنجره علانية من على صهوة بعيره، بينما يتزنر بعضنا الأخر بخناجرهم، لكنهم يظنون أن ستائر السيارات الفارهة التي يركبونها ستخفيها عن الأعين.