لا أنسى يوما من أجمل أيام حياتى كان فى أكتوبر عام 1973 عندما عبرت قناة السويس إلى الضفة الشرقية عند منطقة الفردان فى قطاع الجيش الثانى، وتصادف وقتها وجود قائد الجيش الثانى الفريق فؤاد عزيز غالى، وكان أول مسيحي يرتقى منصبا عسكريا رفيعا كهذا، وكنا جميعا نعرف أنه مسيحى ولكننا كنا نشعر بأنه مصرى وبأنه قائدنا، وأكتسب إحترام الجميع حتى أننا لم نعد نتذكر أو نذكر أنه مسيحيا وزالت تلك التفرقة العنصرية البغيضة والتى تفرق أبناء البلد الواحد. ونزلت وقتها كطفل يلهو إلى مخبأ بإحدى النقاط الحصينة فى خط بارليف (والذى كان لا يقهر)، ووجدت بعض مخلفات الجنود الإسرائيليين والتى قد هربوا بدون أن يأخذوها، وبالرغم من تحذير قائدى وقتها بألا ألمس أى شئ، إلا أننى أخذت جريدة عبرية كانت ملقاة داخل المخبأ وخبأتها تحت سترتى!! وما زلت أحتفظ بها حتى الآن كذكرى لأكثر أيامى فخرا على المستوى الشخصى والقومى، وكانت أياما جميلة ذقنا لأول مرة حلاوة النصر والتى لم تستطع ثغرة الدفرسوار أن تنال منها، وكنا حقيقة على أتم إستعداد للقتال مرة أخرى للقضاء على تلك الثغرة مهما إتسعت، وأنا لا أقول كلام أغانى أو أناشيد، ولكنه كلام واقعى لشخص عايش قلب المعركة والأحداث، وزارنا وقتها أيضا الرئيس حسنى مبارك قائد القوات الجوية وقتها، وكان يخشاه كل القادة الأصغر منه رتبة، وزارنا أيضا المشير أحمد إسماعيل وكان رجلا عسكريا من الطراز الأول وكان فى نفس الوقت رجلا طيبا بشوشا يذكرك بمحمد نجيب (رحمة الله عليه)، وكانت تلك الأيام هى أجمل خاتمة لأيام التجنيد العصيبة، ولا أخبى عليكم أن نبأ وقف إطلاق النار وبداية محادثات الكيلو 101 كان نبأ سارا بالنسبة للجنود على الطرفين سواء الجانب المصرى أوالجانب الإسرائيلى، ولا يعرف طعم السلام إلا من ذاق أهوال الحرب، وإلا من فقد إثنين من أعز أصدقائه بالحرب، وإلا أطاع أوامر قائده بأن يجمع أشلاء زملائه قطعة قطعة فى ميدان المعركة، ولا يقدر حلاوة السلام إلا من رأى زملاءه وهم يحترقون وهم يمسكون بمدافعهم المضادة للطائرات، وما زلت أتذكر رائحة جلودهم وهى تحترق وتملأ المكان، رحم الله الجميع وألهم أهليهم الصبر.

***

والسادات كان عريس فرح 6 أكتوبر بلا منازع، والسادات كان شخصية فذة وشخصية يختلف فيها الناس، فيوجد من يحبه بإخلاص، كما يوجد من يكرهه بعنف إلى حد قتله، وأنا كنت ومازلت من القسم الأول، لذلك سوف أحاول أن ألمس بعض جوانب شخصيته، من خلال النكتة التالية:
"عندما كان يخرج السادات قبل ظهر كل يوم جمعة لأداء الصلاة، كان يزعق بعلو حسه فى بيته :
أيوه ياجيهان وحياتك، ناولينى العصاية والزبيبة!!"

***

(المصريون يطلقون كلمة (الزبيبة)، على العلامة التى تظهر على جبهة الشخص من كثرة السجود).
(وبمناسبة "الزبيبة"، عندما كنت صبيا صغيرا أصلى فى المسجد كنت أحرص أن أضغط بشدة على جبهة رأسى أثناء السجود لكى تطلع لى "زبيبة" فى رأسى لكى يسعد بى أبى من جهة ومن جهة أخرى لكى أشعر أننى قد خرجت من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة، يعنى كان عندى زبيبة زيى.. زى أبويا بالضبط، ثم عرفت بعد مرحلة المراهقة الفكرية بأن الله يعرف مدى إخلاصنا فى صلاتنا سواء بزبيبة أو بدون زبيبة).

***

و"العصاية والزبيبة" هما ملخص لجانب مهم من حياة السادات.

والعصاية فى حياة السادات هى رمز القوة والعسكرية، وكان فخورا بأن يقول دائما أنه رجل عسكرى، وكان معجبا أشد الإعجاب بالعسكرية الألمانية حتى أنه قد غير زى الجيش المصرى إلى مايشبة زى الجيش الألمانى أيام الحرب العالمية الثانية وجعل الجيش المصرى يمشى المشية العسكرية الألمانية (مشية الأوزة)، وكانت مشية مضحكة فى رأيى وفيها تشنج.
وبالرغم من أن السادات فتح الباب للديموقراطية بعد تكميم الأفواه أيام عبد الناصر، إلا أنه كان يريد ديموقراطية على مقاسه، مثل البدلة العسكرية الشيك التى كان يفصلها خصيصا له (بيير كاردان) كما سمعت من أعدائه، لذلك كان يقول أنه يريد ديموقراطية كبير العيلة، وكبير العيلة أو شيخ القبيلة لا يقدر على تداول سلطته سوىعزرائيل (وقد كان)، وكان أيضا يقول أن الديموقراطية لها أنياب كما تحدث أيضا عن (مفرمة الديموقراطية)، وأعتقد أن إيمان السادات بالدكتاتورية العسكرية كان أكبر بكثير من إيمانه بالديموقراطية، كان السادات يفضل أن يكون (أتاتورك) على أن يكون (تشيرتشل)، وبالرغم من أنه سمح بقدر كبير من حرية الصحافة وحرية التعبير وسمح لمشايخ (الكاسيتات) بأن يزودوها حبتين وخدشوا سمعة زوجته السيدة الفاضلة جيهان، إلا أنه لم يطق كل هذا النقد، وأصدر قانونا مضحكا سماه "قانون العيب" وأعتقد أن هذا القانون ما زال قائما حتى الآن!!

***

وأهم إنجازات السادات بعد إنجاز السادس من إكتوبر هو (زيارة القدس)، والذى أثبت أنه بعيد النظر أكثر من أى شخص آخر فى المنطقة، واليوم (يهرول) الذين وصفوه بالخيانة وزغردوا يوم إغتياله، يهرولون لعمل علاقات سياسية وإقتصادية مع إسرائيل، وزيارة القدس نجم عنها أهم الأحداث منذ نشأة إسرائيل:
الأول: هو إتفاق مصر وإسرائيل أن تكون حرب إكتوبر هى آخر الحروب وآخر المعاناة.
الثانى: هو إتفاق كامب دافيد الذى نص على موافقة إسرائيل على إعطاء حق تقرير المصير بعد خمس سنوات من الإتفاقية، تخيلوا لو كان لدى الفلسطينيون شخصا فى رزانة وواقعية محمود عباس لكان لدينا اليوم دولة فلسطينية محترمة عمرها يقرب من العشرين عاما، ولكننا بإضاعة الفرصة سمحنا لغول المستوطنات أن ينتشر مثل عيش الغراب حتى أصبحت أمرا واقعا لا بد من دفع الثمن لإستئصاله، وربما إستحال إستئصاله كاملا.
وأرجو أن يستمر محمود عباس فى نهجه العقلانى، لأن زمن العنتريات قد ولى وزمن إطلاق الرصاص فى الهواء قد ولى وزمن المنظرة والإستعراضات قد ولى.

***

أما حكاية الزبيبة فهذا مفتاح آخر من مفاتيح شخصية السادات، فلقد نشأ السادات كأى ريفى مصرى متدين بطبيعته ومتسامح بطبيعته، ولكن عندما قفز فجأة إلى السلطة فى غفلة من الزمن وبعد الوفاة الفجائية لعبد الناصر، فوجئ بأن معظم رجال عبد الناصر ضده، ووجدهم مسيطرين على الجامعات والنقابات وعلى الإتحاد الإشتراكى والمخابرات العامة، لذلك وجد أن من يملأ هذا الفراغ موجودون وجاهزون للقفز إلى السلطة، وهم الأعداء التقليديون لليساريين والشيوعيين، لذلك أفرج عن الكثير من الأخوان وشجع تكوين الجماعات الإسلامية فى الجامعات، وأطلق على نفسه (الرئيس المؤمن)، وكان يقول (أنا رئيس مسلم لبلد مسلم)، وبالرغم من كل هذا، كان يقول (لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين... أهى هيه كده!!)، وكان أقرب صحفى إلى نفسه هو صحفى مسيحى هو موسى صبرى، وكان لا ينافسه فى هذا سوى أنيس منصور، وهو رجل عقلانى من الطراز الأول، وعندما قبض على الشيخ الذى أهان زوجته فى خطبة الجمعة قال عنه فى خطبة علنية: "أهو مرمى دلوقت زى الكلب فى السجن".
لذلك أعتقد أن السادات كان يستخدم الزبيبة والدين كغطاء وشرعية سياسية، لأنه ربما كان يشعر بينه وبين نفسه أن حكم مصر نزل عليه من السماء لأنه لم كان يحلم به، وربما شعر أن إرتياد زى الدين ربما يكسبه المزيد من الشرعية، وخاصة أنه جاء بعد شخصية طاغية فى الشعبية والزعامة الكاريزمية، وبالرغم من أن السادات لم يحلم أن يكون يوما ما فى شعبية عبد الناصر، إلا أنه صحح العديد من بلاوى عبد الناصر وإهمها إعادة أراضى مصر غير منقوصة.
وأذكر أننى كنت فى نيويورك يوم 6 أكتوبر 1981 عندما سمعت بإغتيال السادات، وقال لى العديد من الأمريكان بأن أمريكا لم تحزن بهذا القدر منذ إغتيال الرئيس جون كينيدى.
رحم الله السادات، كان زعيما مخلصا، وزعيما مسليا إلى أبعد الحدود، ولكنه مات كالغريب فى وطنه، وحزن عليه العديد من الشعوب المتحضرة أكثر من حزن شعبه عليه، ولكن التاريخ بدأ ينصفه، وسوف ينصفه أكثر، مع إنتشار الوعى الحضارى، ومع إنحسار موجات القومجية والتطرف.
ولا بد أن أختم حديثى عنه بالنكتة التى قيلت عنه:
" بعد أن أعلن السادات بعد وفاة عبد الناصر: (أنه يسير على نفس خط عبد الناصر)، قال المصريون أنه يسير على خط عبد الناصر يمسحه بأستيكة"!!

[email protected]