في مقاله في إيلاف: "عقيدة التوحيد قد أضرت بالبشر"، نسب د. كامل النجار الحروب الدينية بين الشعوب إلى عقيدة التوحيد، مقارناً إياها بعقائد تعدد الآلهة، منهياً مقاله بتساؤل: " فما هو الجديد الذي أتت به عقيدة التوحيد حتى يقول متبعوها إنها أفضل من تعددية الآلهة؟"، ورغم أن المقال تضمن التسلسل التاريخي لتطور العقائد الدينية لدى الشعوب، إلا أنه قد تجاهل الربط الضروري والمنطقي، بين التتالي الزمني وتطور مسيرة الحضارة الإنسانية.
لقد بدأ الفكر الديني مع الإنسان منذ خطواته الأولى في مسيرة حضارته، والتي هي في نفس الوقت مسيرته في محاولة فهم العالم من حوله، في البداية لمحاولة أن يجد لنفسه مكاناً فيه، ثم ليحسن من قدرته على التعامل مع مكوناته، سواء مظاهر الطبيعة بتجلياتها العنيفة، كالنور والظلام والرياح والزلازل والبراكين، أو الطبيعة المادية بصحاريها وجبالها وغاباتها، أو الأحياء الأخرى من وحوش مفترسة وحشرات وخلافه، والتي شكلت في البداية تهديداً خطيراً لحياته واستقراره، ثم مع تقدم مسيرة الحضارة صار الإنسان يتطلع إلى السيطرة على كل ما حوله، ليصير هو السيد الأوحد.
في البداية أخذت محاولة فهم الإنسان للكون صورة الفكر الديني، الذي حاول عن طريقه إضفاء اتساق على مظاهر الحياة، وتصور حاكم لها، يمكن اللجوء إليه لرفع ما تصوره غضبها، فكانت آلهة الهواء والبحار والخصب وما شابه، يتضرع إليها ويسترضيها، حتى ولو على حساب ما يقدم لها من ذبائح، كانت في مرحلة ما ذبائح بشرية، لكن مع تقدم خبرات الإنسان وتزايد وعيه وقدرته على التأمل، وفي نفس الوقت تعقد حياته الاجتماعية والسياسية، صاحب الفكر الديني في محاولة فهم العالم، نوعين آخرين من الفكر، هما الفكر الفلسفي والفكر السياسي، وارتبط الأنواع الثلاثة في حزمة واحدة، بحيث صاروا ثلاثة وجوه لحقيقة واحدة، تمثل أو تعبر عن الحالة المعاصرة للحضارة الإنسانية.
فمرحلة تعدد الآلهة كانت الشكل الديني، لفكر سياسي مرتبط بدولة المدينة، والإقطاعيات المستقلة، المتنافسة والمتعاونة في ذات الوقت، بما استدعى تعايش الآلهة أيضاً، والإبقاء على تنافسها في الحدود التي لا تعوق إمكانيات التعاون التجاري والأمني للدول المدن، أو الممالك الصغيرة المتجاورة، وارتبط هذا في الجانب الفلسفي بالنظرات الجزئية للعالم، بدءاً من ذرية ديموقريطس، صعوداً إلى تساؤلات سقراط، التي أزعجت دهاقنة القديم، إيذاناً بنهاية عصور تعدد الآلهة والدولة المدينة، لتبدأ مرحلة تكون الكيانات الإقليمية الكبيرة، كالممالك القومية، والمحاولات الأولى لتكوين إمبراطوريات محدودة، كمحاولات الفرس (قمبيز – دارا )، والتي عبر عنها الفكر الديني، بمحاولة أحد الآلهة تهميش الباقين والعلو عليهم، كما فعل إخناتون مع إلهه آتون، الذي قرر أن ينفرد بالساحة، ويستبعد الآلهة الآخرين، الذين تعايش معهم طويلاً، وشاركهم بسلام في احتلال قلوب المصريين القدماء،ليكون الوجه الديني للحاكم الذي قرر أن يلتهم الملوك والممالك المجاورة، فمثلاً ليس من الصحيح تاريخياً نسبة التوحيد الديني للعبرانيين، لأن يهوه إله العبرانيين لم يكن يدعي في البداية أنه الإله الواحد معرفاً بالألف واللام (وإن اكتسب هذه الصفة بعد ذلك تدريجياً مع بداية عصر التوحيد)، لكنه كان إلهاً خاصاً لقبيلة أو شعب محدد هو شعب إسرائيل، والوصية تقول: "أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي"، ولم يقل أنا الإله الواحد ولا إله غيري، ويقول يهوه عن نفسه أنه إله غيور، والغيرة تكون من الأقران أو الأنداد، ويقول "أنا إله بيت إيل" تك13:31 ، كما يقول "لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك" تك: 17: 7 ، بما يعني أنه إله خاص ضمن آلهة أخرى، فها هو يقول محذراً أتباعه من عبادة غيره: " ابْنَتَكَ لا تُعْطِ لاِبْنِهِ وَابْنَتَهُ لا تَأْخُذْ لاِبْنِكَ. 4 لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى" تث 1: 3-4 ، فأفق التوحيد العالمي لم تكن شمسه قد أشرقت بعد، ولم يخطر على بال حاكم أن يحكم المعمورة كلها، إذ كان أقصى الطموح في هذه المرحلة، أن يلتهم الحاكم القوي الممالك الضعيفة المجاورة، أي يستبعد ملوكها وآلهتها، ليتربع هو على نطاقه الإقليمي.
لندخل بعدها إلى العصر الإمبراطوري، الذي مهد له أفلاطون بمدينته الفاضلة، ويأتي أرسطو معلم الإسكندر المقدوني، الذي حاول توحيد البشرية تحت رايته، ليبدأ فعلاً عصر التوحيد يتحقق على الأرض على المستوى السياسي ممثلاً في الحاكم الواحد، ولم تكن مجرد مصادفة أن يذهب الإسكندر في بداية حملته الإمبراطورية، إلى واحة سيوة، ليتوجه كهنتها ابناً للإله آمون، إنه التلازم بين الديني والسياسي، والذي ميز مسيرة الإنسان الحضارية، وعلى المستوى الفلسفي كان البحث عن الحقيقة المطلقة أو النهائية، والمحاولات الفلسفية للعثور على رؤية موحدة للعالم، لتواكب على المستوى الديني الإيمان بالإله الواحد، الذي بدأ تعاظم شأنه، مع بدايات العصر الذي يلقبه المؤرخون بالعصر المحوري ( حوالي 500 قبل الميلاد)، ونحن نعرف أن اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين للمسيحية لم يكن بدافع من تقوى دينية، بقدر ما كان بدوافع سياسية، ليكون هو الحاكم الأوحد الذي يرفع راية الإله الأوحد، في تبادل طبيعي للمساندة، بدليل تأخيره لطقس العماد حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
توازى مع ذلك محاولة العلم للوصول إلى الحقيقة اليقينية، سواء في مجال الفيزيقا والأحياء، أو في مجال الأخلاق والمثل، وكان الاعتقاد في التوصل إلى الحق أو الحقيقة المطلقة على جميع المستويات، السياسية والعلمية والدينية، هو دعامة الحروب والصراعات بين الشعوب، هذا بالطبع بقدر ما نستطيع أن نعزو تاريخ الشعوب وصراعاتها إلى المنطلقات الفكرية، فلقد كان الفكر ومازال يلعب دوراً ثانوياً في مسيرة الإنسان، فحتى لو تم التستر خلفه كشعارات تستر ورائها الدوافع المادية، فإنه يبقى في أحسن الفروض مجرد مرآة للواقع المادي والاجتماعي للبشر، لكن بالطبع ما نسميه أحياناً بالتعصب أو الانغلاق الفكري، يرجع أساساً إلى طبيعة الإيمان اليقيني بامتلاك الحقيقة المطلقة، أو الحق الصراح، الذي لا يأتيه الباطل، فالإنسان المتعصب يرى نفسه وكأنه هو الإله الواحد، والحاكم الأوحد، وحامل أختام الحقيقة الأبدية كلية الصحة.
لكن حدث بعد ذلك أن دخلت البشرية مرحلة تفكك أو انهيار الإمبراطوريات الكبيرة، وانتفت معها الحاجة إلى الحاكم الفرد القوي، الممثل للإله الواحد على الأرض، فكان انتشار فلسفة الأنوار، وسقوط نظرية الحق الإلهي في الحكم، وانتشار مبادئ الحرية والمساواة والديموقراطية، وصار مصدر السلطات يأتي من أسفل، أي من القاعدة الشعبية التي آمن الفرد فيها بأنه سيد مصيره، وتمزق عن العلم قناع اليقين مع تقدم العلم ذاته، واتضحت نسبيته وقابليته للضحض، وكان جاليليو قد أثبت أن الأرض ومن عليها ليسوا مركز الكون، بل مجرد جزء من كم هائل ورائع، وأنزل ألبرت أينشتين سلفه إسحق نيوتن من على عرش الحقيقة الفيزيائية، ليتربع هو لبعض الوقت، حتى أتى دوره ليترجل، وهكذا دواليك، وعرفنا اللا يقين في تحديد موقع وسرعة الإلكترون داخل الذرة، بمعنى أن الشك العلمي الدائم حل محل اليقين المطمئن إلى ثبات علمي اتضح أن لا وجود له.
حتى الحقيقة الأخلاقية، التي حاول الفلاسفة إلباسها ثوب الخلود والإطلاق، أتى الفلاسفة الوجوديون لينتزعونها من ثوب الوحدانية، ليجعلونها حقيقة نسبية داخل الإنسان الفرد، تتعدد بتعدد البشر، وتعدد حالاتهم الوجودية، ربما من لحظة لأخرى، وربما يصح اعتبار نظرية كارل ماركس في التفسير المادي للتاريخ، هي آخر محاولات الفكر التوحيدي العلمية، بمعنى محاولة رؤية العالم من خلال خط واحد وآلية واحدة تحكم كل مجالات الحياة، وهي آخر ما سقط حتى الآن من قلاع التوحيد السياسي والاقتصادي.
لقد عبرت البشرية إذن إلى مرحلة حضارية أخرى، تتعدد فيها المراكز والرؤى، تتواصل وتتصادم، دون ما سند لأحدها لادعاء صفة الصدق المعياري، فأقصى ما يطمح إليه اتجاه ما، أن تثبت التجربة أن نتائجه أكثر فائدة للإنسان، ريثما يتم اكتشاف ما هو أجدى، فالفكر البرجماتي الذي يسود العالم الآن، نزع عن المبررات أو الحيثيات الفكرية القبلية قداستها، أو حتى مجرد الحاجة إليها.
وهنا يكون مأزق الفكر الإنساني، حين يأخذ في تجليه السياسي والعلمي شكل التجزئة والتغير واللايقين، في حين يكون وجهه الديني توحيدي شمولي وثابت ويقيني، وما يعطي الإشكالية بعداً خطيراً، هو أن أوجه الفكر الثلاثة، الديني والعلمي والسياسي، لا انفصال بينها في الحقيقة، بل ولا يعدو هذا التقسيم أن يكون مجرد رؤية من ثلاثة اتجاهات لنفس الشيء الواحد.
ربما يبدو للبعض أن أسهل الحلول لهذه الإشكالية هو استبعاد الرؤية المخالفة، والاكتفاء بالأخريين، وقد يقترح آخرون تعديل الرؤية الدينية، أو التقهقر بها إلى التعددية، كما قد يفهم البعض مقال د. كامل النجار، لكن إذا كان أي من هذين الاقتراحين غير متاح لأسباب لسنا بصدد استعراضها، يتبقى أمام مسيرة الإنسانية تحدي العثور على حل خلاق لتلك الإشكالية، حل يتم استنباطه بالتفاعل الإيجابي مع الواقع، وليس فرضه من برج عاجي، حتى وإن ارتدى مسوح العلم.

[email protected]