البابا شنودة الثالث شخصية مصرية وعالمية ذات مكانة كبيرة، وهو يشغل بطريرك الكرازة المرقسية وسائر أفريقيا وبلاد المهجر والسودان والخمس مدن الغربية. البابا شنودة رجل دين بارز شجاع صلب عميق هادئ متسامح، يشهد على ذلك حصوله على ثلاثة جوائز عالمية للحوار والتسامح الديني وحقوق الإنسان، جائزة اليونسكو للحوار والتسامح الديني، جائزة الأمم المتحدة للتسامح الديني، وجائزة القذافي لحقوق الإنسان. يملك البابا شنودة حسا وطنيا رفيعا ويجسد الوطنية المصرية في أوضح وأنقي صورها وصاحب المقولة الباقية "مصر وطن يعيش فينا لا وطن نعيش فيه"، وعلى الصعيد الإقليمي يهتم بمشاكل وقضايا الإنسان العربي حتى أطلق عليه "بابا العرب"، وعالميا ترأس مجلس الكنائس العالمي عن منطقة الشرق الأوسط لأكثر من مرة، وحصل على العديد من الدكتوراهات الفخرية من جامعات غربية، واستقبل بحفاوة في العديد من المدن الأوربية والأمريكية وأهديت إليه مفاتيح هذه المدن، وبعضها أطلق "يوم البابا شنودة" على يوم زيارته للمدينة.
وأخيرا وليس أخرا البابا شنودة يمثل استثناء فذ في تاريخ بطاركة الإسكندرية، فهو مثقف كبير وشاعر موهوب وسياسي محنك له حضوره المتميز في المحافل الثقافية والسياسية ورجل دين سلس واضح الرؤية ألف أكثر من مائة كتاب روحي. رغم قوة شخصية البابا شنودة وصلابته، ورغم إنه شخصية مرحة سريع البديهة حاضر الذهن، إلا أنه لأول مرة في تاريخه الطويل في العمل العام يبكي أثناء محاضرته الأسبوعية يوم الأربعاء 26 أكتوبر الماضي.

والسؤال لماذا بكي البابا شنودة؟
● بكي البابا شنودة على العنف الموجه ضد الأقباط والذي كان هو شاهد عيان عليه منذ حادثة السويس في 4 يناير 1952، والذي قامت به جماعة الأخوان المسلمين حيث تم حرق عدد من الأقباط بشكل بربري والطواف بهم في الشوارع وإلقائهم في إحدى كنائس السويس وإشعال النار فيها، إلى حوادث التخريب والنهب التي حدثت في الإسكندرية في الحادى والعشرين من أكتوبر الماضي. وقد قام مركز بن خلدون برصد الاعتداءات على الأقباط من حادث الخانكة 8/9/72 إلى أحداث الإسكندرية 21/10/2005 في أكثر من 120 اعتداء، منها مذابح مروعة مثل الزاوية الحمراء "قتل حوالي مائتي قبطي " ،ديروت " قتل 20 قبطيا" ، " 40 قبطى رفضوا دفع الجزية فى المنيا فقتلوا"، الكشح "قتل 21 قبطيا" ،كنيسة أبو قرقاص "قتل 13 قبطي" ... الخ من الاعتداءات الآثمة.
لقد دفع الاقباط المسالمون حوالى 4000 قتيل وجريح خلال العقود الثلاثة الماضية بدون سبب سوى لكونهم مسيحيين، هذا بالاضافة الى تخريب ونهب ممتلكات بعشرات الملايين وممارسة التهجير القسرى لخلخلة الصعيد من الكثافة القبطية،بالاضافة إلى تطفيش مئات الالوف للهجرة للغرب حيث الحريات والفرص المتكافئة.
وطوال هذه العقود كان التضليل والتدليس هو سيد الموقف فيما يتعلق بوصف الأحداث في الإعلام المصري، مثل فتنة طائفية، احتقان طائفي، أحداث مؤسفة، اشتباكات متبادلة ، نزاع وشجار، صدامات بين المسلمين والأقباط، أحداث عنف، التحريض من الطرفين، المتطرفين من الجانبين، وذلك رغم الوضوح الكامل أن هذه الاعتداءات من طرف واحد، وإنها تمثل جرائم ضد القانون تصل إلى حد الفعل الإرهابي الجماعي، ولعل ذلك أستفز جلال أمين فكتب "تعبير الفتنة الطائفية لا يخبرك من الذي أعتدي على من، بل يجعل القضية مبنية للمجهول، والتعبير يوحي بأن المسئولية متساوية بين الطوائف وهي ليست كذلك. والأقباط والمسلمون ليسوا طوائف بل أغلبية وأقلية،والأغلبية مسئولة عن إستتباب الأمن أكثر من الاقلية لأن الأغلبية بيدها البوليس والحكومة والجرائد والإذاعة والتلفزيون" فإذا كان كل هذا التواطئ والتضليل في مجرد توصيف الحدث فكيف يتحقق الحل إذن؟

● بكي البابا على أمن وسلامة الأقباط وممتلكاتهم الذي أصبح لعبة سياسية بين الأخوان المسلمين والحزب الحاكم وأجهزته الإمنية.

● بكي البابا شنودة على الإعلام المصري الذي يهلل له إذا تحدث عن الفلسطينيين وحقوقهم ويهاجمه بعنف وقسوة إذا أقترب مجرد اقتراب من آلام شعبه، ووصل الانحطاط في بعض الصحف المصرية إلى درجة التحريض الواضح ضد الأقباط وتحميلهم وزر أزمة المسلمين مع العالم المعاصر.

● بكي على الشعب القبطي الذي أصبح كله بتاريخه وتراثه وثراءه وتنوعه وملايينه مجرد ملف عند أجهزة الأمن يحركونه حسب رغبتهم ،من نشر الشائعات ،إلى إشعال الفتن ،إلى تسريب مواد تحريضية إلى الصحف الأمنية الصفراء، ،إلى تجنيد من يتجسسون على كل حركات وسكنات الأقباط ،إلى التربص المقيت بدور العبادة وعرقلة حتى القرارات الجمهورية،إلى الانحياز السافر عند تغيير الدين، إلى محاولة تخريب العمل القبطي العام .. الخ.

● بكي على عجزه عن عمل شيء لأولاده المضطهدين والمحاصرين، وعلى مئات الشكاوى التي يتلقاها منهم والتى تنطق بظلم واضح، ولكنه يعجز عن الاستجابة لطلباتهم العادلة وتوسلاتهم المريرة.

● بكي على غياب العدالة في مصر، فخلال العقود الثلاثة الماضية حدثت عشرات الاعتداءات الآثمة على الأقباط، ولكن العدالة غائبة تماما عن تضميد جراح المظلوم، ولهذا صرخ بعد الحكم الهزيل الذي صدر ضد الجناة في أحداث الكشح "نستأنف الحكم إلى الله" ،بل والمؤسف حتى الآن لم يصدر مجرد تحقيق عادل في أي من هذه الحوادث يظهر الجناة الحقيقيين، ومن وراءهم ومن يحركهم، مجرد تحقيق عادل عجزت دولة مصر بكل أجهزتها عن تحقيقه.

● بكي على تعصب تيار من الأغلبية وهياجهم وخروجهم كالوحوش الكاسرة إذا تعلق الأمر بأذية الأقباط حتى تحول الشارع المصري كما وصفه البعض إلى "تنظيم جهاد ضخم"، مستعد للانقضاض على الآخر بقسوة، لا يبررها سوي الكراهية الكامنة في الأعماق نحو الآخر غير المسلم.

● بكي البابا لأن الحكومة تريد فقط أن ينحسر دوره في تهدئة شعبه وامتصاص حيويته وغضبه بعد كل حادث، وكما وصفها رفعت السعيد أن تتحول الكنيسة إلى "مانعة الصواعق" في حين يرفضون وبشدة مجرد أن يوصل لهم بعض من هذه المعاناة ،وإذا حدث وصرح بشيء يطلقون عليه أجهزتهم الإعلامية الجوبلزية لتشويه صورته وتصويره وكأنه يرغب في أن يتدخل في عمل الدولة................. أي إذلال هذا الذي يطلبونه منه؟

● بكي من الأصوات الزاعقة التي تطالبه بالاعتذار عن شيء قيل إنه حدث خلف الجدران ولم تثبت لجنة تحقيق محايدة إساءته لأحد حتى الآن، وعند كتابة هذه السطور صرح النائب العام لجريدة الاهرام إنه لم تعرض مسرحيات اصلا داخل الكنيسة ولم يشاهدها احد وكل الهياج بناء على معلومات مضللة. في حين تصمت هذه الأصوات عن الإهانات المتعمدة واليومية لكل شيء مسيحي ومن خلال أهم وسائل أعلامها وكتبها التعليمية التي يقرأها النشء من الشعراوي إلى كشك إلى عمر عبد الكافي إلى زغلول النجار إلى محمد عمارة وهلم جرا..
بل وصمتت هذه الأصوات عن قتل وذبح ونهب حدث لأقباط مسالمين داخل كنائسهم وأديرتهم وبيوتهم ومحال عملهم.............. يا إلهي من يعتذر لمن؟ ومن يحاكم من؟

● بكي البابا شنودة على الخداع والابتزاز الذى تمارسه عليه الحكومة عبر موفديها إلى المقر البابوي، والتي تصل إلى حد تنطيقه بما لم يقل طالما أن ذلك يصب في مصلحة هذا النظام، في حين أنهم أدمنوا خداعه، والهروب من تحقيق أي وعد تقدموا به.

● بكي البابا على أن النظام الحاكم في مصر لم يهمه يوما ما أمر الوحدة الوطنية وتحقيق المساواة على أرضية المواطنة، وإنما كل همه هو تأمين كرسي الحكم ومصالح الشلة وتأمين النهب المنظم الذي حدث ويحدث في مصر.

● بكي البابا لأن الابتزاز وصل إلى حد إطلاق الشائعات بأن هناك فتاوى بقتله، وأن حياته معرضة للخطر من أجل تحجيم نشاطه وإرهاب شعبه ونشر الخوف وعدم الأمان، بدون مراعاة التأثير المدمر لمثل هذه الشائعات على مصر سياسيا واقتصاديا.

● بكي البابا على ما حدث له من حصار من السادات وتجنيد من يتجسسون على حركاته وسكناته، وهي السياسية المستمرة حتى الآن، وأنتهي المطاف بقرار السادات بعزله في سابقة لم تحدث في تاريخ الكنيسة القبطية قط وتركه مبارك في الدير لمدة أربع سنوات ،بعد أن أفرج عن كافة المعتقلين، بدون سبب منطقي مقبول سوي مزيد من الإذلال للشعب القبطي.

● بكي البابا على المئات من موائد الوحدة الوطنية، أو موائد المحبة التي أقامتها الكنائس في رمضان ،ليس لأنها خاطئة ،ولكنها لم تأت بالثمار المرجوة منها من نشر الحب والسلام بين أبناء الوطن وتقديمها كنموذج للمسلم والقبطي العادي في حياتهم اليومية.

● بكي البابا لأن المجتمع يطلب من القبطي أن يكون مثاليا في كل شيء، وإذا حدث خطأ فردي يدفع ثمنه الأقباط كلهم. وإذا حدثت مشادة بين قبطي ومسلم للأسف يتجمهر كثير من المسلمين بشكل تلقائي أعمي حول الطرف المسلم ليتحول الموضوع في كثير من الأحيان إلى اعتداءات جماعية واسعة على الأقباط.

● بكي البابا وهو يراجع حساباته مع الدولة طوال هذه العقود في ماذا أخطاء وفي ماذا أصاب وهل حان الوقت لتقييم هذه العلاقة ووضع استراتيجية مستقبلية مختلفة لإدارتها.

يحتاج الاقباط وكنيستهم إلى مراجعات فى ظل معطيات جديدة ومنها:
1-أن الشعب القبطي تتدهور حالته أكثر وأصبح يصنف عالميا بأنه "أقلية مضطهدة ومحاصرة" ،وأن التحديات التى تواجه الاقباط تتزايد يوما بعد يوم.
2- أن العالم قد تغير، وأن اللحظات التاريخية المواتية للشعوب لا تتكرر كثيرا في التاريخ، وأن التداخل والتشابك الدولي أصبح سمة العصر، ومن ثم أصبحت المقولات القديمة عن التدخل الأجنبي والتأثير الأجنبي تحتاج إلى مراجعات جذرية أمينة ، وإلا ما جدوى وجود الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وجمعيات حقوق الأنسان والمجتمع المدنى الدولى الواسع أذا كنا نتجاهل كل هذا ونكرر مقولات قديمة.
3- أن هناك تجارب لرجال دين عالميين يمكن أن تدرسها كنيستنا القبطية وتستفيد منها مثل القس الامريكى مارتن لوثر كنج داعية الحقوق المدنية، وموقف الأسقف مكاريوس في قبرص ، والأسقف تيتو في جنوب أفريقيا، وموقف البابا يوحنا بولس من الشيوعية في بولندا، وموقف البطريرك صفير في لبنان،.. الخ.
4- أن البابا شنودة هو أكثر الشخصيات المسيحية عالميا المؤهلة لمحاربة وكشف الإرهاب الدولي، لأنه يعرفه جيدا وذاق ناره هو وشعبه، ويعيش في قلب المنطقة التي تفرخه، وكما كان دور البابا الراحل يوحنا بولس المؤثر في إسقاط الشيوعية وهو القادم من قلب الشيوعية في بولندا، يمكن أن يكون للبابا شنودة دورا مؤثرا في إسقاط الإرهاب الدولي، بتعاونه مع بابا الفاتيكان الحالي البابا بندكت السادس عشر المهتم بهذه الظاهرة والمدرك لخطورتها ومع المسلمين المستنيرين الذين يعانون من أثاره المدمرة.
[email protected]